لغتنا العربية يسر لا عسر (إنسانية الحرف العربي)
كتب/ د. عصام عبدالله العسيري
صُمّم شكل الحرف العربي ملائما لصوت اللسان العربي، لغة العرب فصيحة وبها بلاغة عجيبة، ألفاظها تُعبّر بشدة عن الأفكار والمعاني، إن ما قام به علماء جزيرة العرب المهاجرون للبصرة والكوفة وبغداد وبلاد الشام والقاهرة، إنجازٌ عجيب يقرب للإعجاز، فقد استوعب العرب علوم الأولين من الأغريق ومصر وبابل والشام وبلاد فارس والهند والصين، فسبحان من خلق الإنسان وعلّمه البيان.
يُذكر هنا أن هناك معلمون عرب قبل الإسلام مثل بشر بن عبدالملك السبوني، عمر بن زرارة بن زيد، غيلان بن سلمه الثقفي، وبعد ظهور الإسلام برز مع العرب القلم ونشر الورق وتطوير صناعته والحبر وإنتاج الكتب وترجمتها وتيسير تعليم المعارف الطبيعية والكونية والنفسية والجسمية والفكرية، فألّف علماء العرب مؤلفات في عدة فنون لم يسبقهم لها أمة من الأمم وفي فترة وجيزة تقارب القرنين؛ فقد كتب العرب في موضوع: الأشياء، العناصر، الخواص، اللفظ والمعنى، الصوت، الكتابة، والمواضع، والحساب والجبر والهندسة، وعلوم اللغة والقرآن والشرع والسيميا والكيميا وعلم الأثقال والحيل والفلك والطب وغيرها. لعل من أبرز علماء العرب الإسلام المبكر ابن سيرين، ابن حيان، خالد بن اليزيد، ابن سينا، حفص بن عاصم، يعقوب الكندي، الفراهيدي، الدؤلي، الجاحظ، الخوارزمي، الهجري، الرنوي، البقاني، ابن منصور، ابن مقلة والكثير.
تراث أدبيات العرب العلمي الضخم، وكتب الشكوك في أفكار جاليونس وبطليموس تم تصحيحها بالتجربة والدليل والاختبار بالقياسات الدقيقة والتجارب المعملية، كان من نصيب الحرف العربي أنه تطوّر في ظل تلك التطورات وتحوّر شكل الحروف تبعا لتلك السياقات، في تمدد العرب والمسلمين جغرافيا واختلاطهم مع شعوب متنوعة لها ثقافات متعددة، أخذ شكل الكتابة الحجازية اليابسة المكية والمدنية “الخط الكوفي”، التي يعتمد تصميمها على الخطوط المستقيمة والزاوايا القائمة في سطر الكلام ورصف الحروف بتناسب هندسي مربعي رصين، أخذت أشكال تلك الحروف ترق وتترفّق لتلائم التطوّر الصوتي واللساني العربي في التقوّسات والحنايا والدورانات والحواف الحادة، مثلما تطوّرت لغتهم الفصحى للكنات ولهجات متفرّعة من بذرة واحدة، فظهر قلم الطومار والمحرر والمحقق والجليل وخط الثلث والنسخ والإجازة والبديع وهي خطوط عربية أصيلة نشأت وترعرعت في العراق والشام ومصر في فترة الدولة الأموية والعباسية، وتتميّز هذه الخطوط بالترف الجمالي والمهارة العالية في ضبط حركة القلم بنسب وموازين محسوبة ذات بعد روحي، تصميم يتسق إرجنوميكيا مع اللسان واليد، فالقلم لسان اليد، وهو هندسة روحانية تظهر بآلة جسمانية، مصدرها القلب النابض بالمعاني والعقل النشط بالأفكار واليد التي توزن كل حركة كاللسان الذي يُثمّن كل همسة، هذه أنامل تنطق بجماليات اللمسة.
ألّف الوزير محمد بن مقلة في القرن الثاني هجريا التاسع ميلاديا كتاب القلم كسابقة علمية لم ترى المتاحف والمكتبات من كتب عن هذا الموضوع من قبل، في هذا الكتاب ذكر مصطلحات هذا علم الخط التقني، وصناعة الحبر، ووضع موازين وقواعد رسم الحروف وتراكيبها جيومتريا، رابطا شكل حرف الألف بصورة الإنسان كأساسا لتصميم بقية أخوته حروف اللغة، على شكل إنسان مثالي النسب 1/7 من خلال حساب وحدة الرأس، وثم رصفها من الأعلى للأسفل سبع مرات بنسب متساوية، وتوافق حركات الإنسان الجسمية التعبيرية مثل الركوع والسجود، توافق تغيرات شكل الحروف بنسب تقريبية للنسب الجسم السبعة، كما وضع ابن مقلة أول معايير لحُسن الكتابة في رصف الحروف بجوار بعض بالترتيب وضبط الفراغات، التأليف بين الحروف، التسطير بتوزيع الكلمات والحروف على سطر محسوب بصريا وهندسيا، والتنصيل بجعل نهايات بعض الحروف مدببة، ووصف القلم وأنواعه وطريقة بريه، وهنا نرى القيمة الإنسانية في تصميم القلم العربي.
يختار الخطاط ما يعجبه من أعواد البوص، ويمسكها بأصابع يده التي يكتب بها يختبر مدى العلاقة الرابطة بين البوص وقلبه، إشارات تواصل بينية ذات طبيعة حدسية، ثم يُفصّله وينحته ويقطّه ويبريه ويسنّه بما يتناسب مع مقاسات يده وطبيع السطح، وحركة أصابعه وجريان منقار القلم على وجه الورق برقة ليؤثّر الحبر بلطافة، يُصمم الخطاط قلمه ويتفانى في الإمساك به وتحريكه والتعبير به والتشكيل بالخطوط تكوينات بصرية، كما يتفانى الزمّار في اختيار الناي وطوله ونغمته، يفتح فيه فتحات بوسع وتباعد يتناسب ويتلائم إرجنوميكيا مع مقاس أصابع يده وشفاته، كلاهما يلفظا الجمال بالبوص قلما ونايا بنفخ الهواء في الآذان والآخر ببث الحبر في العيون فتنطرب النفوس وتنتشي الروح.
باختلاف تلك البريات الإرجنوميكية والمقاسات ظهرت أسلوبية تشكيلية “تصميمية” في رسم الحروف العربية والكتابات، صارت كلهجات، فسُمّي نوع الخط تبعا لسُمك القلم، أو على المكان الذي انتشر فيه هذا الشكل من الكتابة، أو اسم الخطاط المبتكر لهذا النمط من التصميم. مؤخرا، بسبب تنمامي علوم الاتصال البصري وفن القرافيك والخطوط الحاسوبية زاد الطلب على أدبيات التيبوغرافيا العربية؛ باعتبارها أول العلوم والعلماء الذين درسوا ونظّروا ونظّموا وكتبوا ونشروا العلم في آسيا وأفريقيا وأوروبا، حيث تشهد أهم متاحف اليوم بغزارة الإنتاج العلمي والمعرفي العربي، في مجال الفنون والكتابة والكتب، لدرجة سأل أحدهم هل يوجد حضارة لديها كتاب جسم دليل مادي قبل العرب، وطلب مشاهدة الكتب التي ستذكر ومنها كتب فلاسفة الإغريق، سأل أين هي؟ أين محفوظة، ويرجو مشاهدة شكل خطوط وكتابات سقراط، أفلاطون، أرسطو والبقية الباقية من كتب علماء قبل الإسلام.
المهتمون بدراسة الطرز والأساليب الفنية وتاريخ التيبوغرافيا، يلاحظ أن العرب بنهاية العصر العباسي كان لديهم ما يزيد عن ثمانين نوع من الخطوط العربية الأصيلة، واتسعت شرقا وغربا وشمالا وجنوبا مراعية الفروق الثقافية والصوتية واللسانية والفنية والجمالية في البلدان والشعوب، تجاوزت حروف اللغة العربية هذه المصاعب بنعومة في أجيال قليلة، وجدنا الحرف العربي يُكتب به شعوبا كثيرة في عدة دول أوروبية والهند والسند وشمال أفريقيا ووسطها.
مع انتشار التقنية وسيطرتها على تطور البشرية واللغات المحكية والمكتوبة، لازال الخط العربي باقيا متوهّجا ومزدهرا مزدانا بإنتاج الخطاطين والمصممين والفنانين التشكيليين المبدعين عرب ومسلمين، ودعم الحكومات العربية التي تبجّل اللغة والتراث وتحترم التاريخ، حيث فرضت اللغة العربية وحروفها، وتدعمها بمسابقات وجوائز، وبرامج ثافية وفنية، وتخصيص يوم 18 ديسمبر من كل عام يوما للغة العربية، كما يبدع الحروفيين العرب والمسلمون بأعمالهم الحروفية الرائعة في المعارض المحلية والدولية وفي حساباتهم الفنية على برامج التواصل الاجتماعي، تُنبئ بأن مستقبل فن وتصميم الحروف العربية في ازدهار أكبر.
د. عصام عبدالله العسيري
فنان وناقد تشكيلي، رئيس بيت الخبراء للفنون البصرية والتصاميم الصناعية.
بمناسبة يوم اللغة العربية، 18 ديسمبر 2021