فتنة المرأة وذخائرها – قراءة جمالية في تجربة الفنانة فاطمة الحايكي

0

كَتب/ محيي الدين ملك

المرأة مرآةُ الحياة، ولونٌ أساسُ الإنسان، وخط يقوده إلى خياله، ومغانيه ومعانيه الدّالة والمختلفة. فيها يتجلّى الشكل الجميل والخطاب الجليل، ودقّة التكوين في خفّة الفراغ، المرأة ترجمان المبدع، وطيف يكشف الأسرار عن الأزاهير، والعصافير، وملمس الحرير في التشكيل والتصوير.

لهذا وجد فيها الملهمون أسرارًا، وسرودًا، وجمالاً، واستلهامًا.. تلك هي دينامية الحياة من أولى الأساطير إلى هذا اليوم.

وطبيعي أن تفتتن الفنانة (فاطمة الحايكي) بتصوير هذا المنهل الذي لا ينضب / المرأة تتأمّل، وتتخيّل، وتستوعب، ثم تمسك بالفرشاة لترسم ما شاء لها من الرسم عن جماليات المرأة وما يحفُّ ويحيط بها من رموز من خزائن التراث، أو نماذج (الطاووس) في مدلول جميل ينحو نحو التعبير عن جمال المرأة بلغة رمزية. هذا الافتتان لا يدل على سعيها إلى الاستلهام والقياس، وحسب، ولا مجرد حنين إلى ماضي المرأة العربية التي تغنّى بها الشعراء والرسّامون، أو تصوير قائم على تجميل مجرد على غير أساس. بل هو افتتان يدل على تلك المكانة من الوجدان الفني والقيم الفنية التي تصب في شط المكانة الجمالية للمرأة وحدها. جماليات تذكرنا – من باب المجاز: “إذا لم يؤنث المكان لا يُعَوَّل عليه”: خلفية اللوحة، الحلي والأساور والأقراط الطويلة، والزي التراثي، وتداعيات الطاووس وما يعطيها من إمكانيات للتعبير عن علاقات تعيد من خلالها حضور الأنثى مع كل لوحة، ومع لون، ومع كل شكل.. في بساطة آسرة تتوسّل كل ما يجول في خبيئة الفنانة (فاطمة) من مظاهر ومحسوسات، تلقيها بحس مرهف فوق صفحة اللوحة البيضاء.

ويلاحظ المشاهد في هذه التجربة صياغات عدة في وحدة واحدة، بدت فيها المرأة رمزًا موحيًا دالاَ على جمالها، بكامل حضورها.. لتبدو كأنها خرجت من أساطير الصحراء الواسعة، أو من حكايات ألف ليلة وليلة، والمحكيات الشفهية.. تجربة هي في الوقت ذاته تجربة الفنانة (فاطمة)، تريد بها أن تحافظ على صورة المرأة التي تتأرجح بين الخيال القادم من بعيد، وبين الواقع الحديث، بين الحضور والغياب. فالفنانة (فاطمة) جزء من مكانٍ، وأرض، وتاريخ، وتراث ثقافيٍّ وفنيٍّ، وكل لون يختلط على مزَّاجتها أو خط يخرج من مزاجها، وتضعه في / أو على لوحتها، تتسرّب إيقاعات المرأة العربية بكامل حضورها.
والملاحظ، في أعمال (فاطمة) – من جهة أخرى – انتشار الطاووس بكثرة وكثافة في أرجاء وأجواء لوحاتها. طائر عجيب في جماله، مزدان بالأشكال والألوان، ويتّصل في علاقته المحبّبة بهواجس الفنانة – الفنية والجمالية: غواية على إيقاع الريش، وانغماس في موجات اللون، لتظهر اللوحة في أعلى مستوى من التعبير الجمالي.

ترى ما علاقة هذ الكائن الجميل بموضوع الفنانة (فاطمة)؟

هي علاقة تعود أدراجها إلى فترات قديمة، لأنّ المرأة والطاووس من أجمل وسائل التعبير عن الجمال، وعن الصور الفنية من جهة، وتشبيه أحدهما بالآخر بغية المقاربة الجمالية من جهة ثانية. ولطالما أثار الطاووس الفضول – استعارة ومجازًا وتشبيهًا– لتشكيل مقاربات جمالية  توازي أو تقارب جمال المرأة، ويبدو هذا الأمر جليٌّ في لوحات الفنانة.

وحتى تبدو هذه العلاقة مفهومة من جهة التعبير، يُستحسن الوقوف عند عتبات تبدأ، لتنظّم هذه المقاربات أو الموازيات. وتأتي لتزيد من وهج العلاقة.. وتضفي على الموضوع المزيد من السحر..
في الطاووس وهيئته:

في رسالة طريفة، حول آلية الاصطفاء الطبيعي أو الانتقاء الطبيعي، كتب تشارلز داروين: “إنّ مجرد نظرة إلى ريشة في ذيل طاووس أنظر إليه، تصيبني بالسقم”. ويعلّق أحدهم على ذلك: عندما نعرف أنّ (داروين) كان يعاني كثيرًا من آلام.. مما يرجِّح أنّ معاناته تلك كانت نفس- جسمية، نستنتج إلى أي حدٍّ كان ريش الطاووس، الباذخ ذو الألوان البرّاقة، خاصةً في مروحة ذيله الهائلة، يُنكِّد عليه عيشه، ويتحوّل هذا التنكيد النفسي إلى أعراض مرضية. وهذا مثال طريف، يدل على زهو الطاووس، وحُسْنُ ألوانه الزاهية.

فالطاووس، كما هو معروف طائر، حسن الهيئة والهيبة، وله ذيل طويل، كثير الألوان ينشره وراءه على صورة حسنة وجميلة، والذَّكر منه في غاية الحُسن، له في رأسه ريّاش خضر تتخلّلها ألوان زاهية، وفي ذيله رِيَشٌ خضراء فيه عيون ملونة، وليس لأنثى الطاووس شيء من ذلك. وفي طبعه العفّة، وحبّ الزهو بنفسه، والخيلاء والإعجاب بريشه..

ولا بدّ أنّ الفنانة (فاطمة) قد سمعت، أو شعرت بجمال هذا الطائر الساحر ولا شك، أيضًا، أنّها رأته وهو يجرّ ذيله، ويعرض ألوانه وأنواره، فأخذتْ منه موقف الرسم، ووقعت في نفسها من الجمال ما يستحق التعبير، فصاغت من شكله أشكالاً، وأخرجت من ألوانه ألوانًا. ولا شك، أيضًا، أنّ جماله العجيب قد زاد عندها الصبُّ والصبابةُ أشجانًا فرسمته مرة، وهو يتأمّل، ومرة ثانية، في تمايل، وثالثة، امتلأت لوحاتها به، لوحات، تدل على حسٍّ رفيع، وشاعرية غير متناهية تعطي المشاهد ألحانًا تنبثق من ألوان الطاووس، وتمنح متعة بصرية خرجت من الحس الفني.

لو أن المرأة طائر – عودة إلى جماليات المرأة

إذًا، ثمة علاقة بين الطاووس والمرأة. قال أحدهم: “لو خلقت المرأة طائرٌ لكانت طاووس”. وهذه هي العتبة الثانية.

فرسم المرأة في أعمال الفنانة (فاطمة)، يمكن القول أن المرأة قد شكّلت هاجسًا عميقًا لتجذرات المرأة ذاتها، من حيث الجمال، فقررت أن تقترب من تراثها الشرقي والعربي، وأن تستلهم من التراث القديم، والشعبي بشكل خاص. هذه الفرصة، أتاحت لها بلور رؤية جديدة تخصّها، وبدأت رحلتها مع الفن، تجاور وتجاوز، ثم مغامرة بناء تجربتها، على أساس ما يطرحه استيحاء التراث من قيم جمالية غنية وثرية، فتناولت في أغلب أعمالها المرأة، الأساطير القديمة وعناصر ورموز شعبية، بالإضافة إلى مفردات البيئة المحلية، كما ركزت على حياة الإنسان وبشكل خاص المرأة الريفية.. وعلاقتها مع الأرض والحياة كمحور أساسي في التعبير الفني.. لقد وجدت في المرأة التي تصوِّرها في صيغٍ ساعدتها على التعبير، فأصبحت رمزًا للأرض وللوطن وحملت المفاهيم التي ارتبطت بها، وهكذا أخذت أعمالها شكلاً ومضمونًا واسعَين تتفاعل فيهما قدرة التعبير بالخط مع اللون، والحس.

وكذلك، بيَّنت تجربتها أنّ المرأة كانت منبع الفن عبر التاريخ، لارتباطها بالوجود والخصب والإبداع. ووجدت للمرأة ارتباطًا عميقًا بين اللون والموضوع / الجمال، امرأة لها ذات الملامح والعيون تحضر في كل لوحاتها بكامل زينتها: بثيابها، بحُليها، بطيورها، بموسيقاها، وبزمنها الخاص للمرأة، هنا، تحوّلاتها التعبيرية وتبدّلاتها الخاصة، وصِلَةُ وَصْلٍ تشدُّ الفنانة والمرأة إلى الموضوع ذاته. فالمرأة لا تعني امرأة معينة.. كالأم، أحيانًا، والملهمة، أحيانًا أخرى، بل بنظرة شمولية.. وبتأملات فنانة تنظر.. ترسمها من الذاكرة الطبيعية، فتخرج المرأة مختلطة بكل المفاهيم التي سبق ذكرها، وجمالياتها تختلط بجماليات شهرزاد الموجودة في ألف ليلة وليلة، وحكايات الجدات..

باختصار، إذا أخذنا برأي بعض الفلاسفة: “أنّ الجمال كامن في الذات.. فليس للجميل وجود مادّي محدود، ولكنّه إحساس وجداني نسبي يتشكّل ويتبدّل في الذوات حسب الموهبة لتقبل وتصوّر هذا الجمال.. سواء ماديًا أو معنويًا.. وهذا الرأي يرتبط بمقولة الفن في ذاته”، وعليه مآخذ كثيرة:

أولها، هي “أنّ المرأة جمعت بين كل القيم والعوامل الفاعلة التي تستثير الهمم والأذهان والقرائح، فتتألّق إلهاماتها ظاهرةً أو مستترة، وكأنّها القوى المحرّكة للحياة.

وآخرها، هي أن الفنانة (فاطمة) رسمت المرأة من وجهة نظر المرأة ذاتها، وهنا، انتظار ما لا يُنتظر في تطوير الجماليات المرئية، وتصوير الجماليات اللامرئية. وعلى هذا المقياس، فموضوعات المرأة، هي المرأة نفسها، بريشة المرأة نفسها..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*