شعرية العاطفة والجمال في تجربة الفنانة البحرينية فريال إسحاق
كتب / محيي الدين ملك
أصْل “المنطوق اللَّوني”، كما سماه “سيزان”، هو العاطفة، وفرعه الخيال الذي قيل فيه: “بساط الريح الحقيقي، ومادته الرسم، وهو الفن الرفيع الذي بدأ على جدران الكهوف ولم ينتهِ إلى اليوم. إنّه فن تجويدٍ وإصغاءٍ للحياة.. بل قلْ فيض لوني ينزلق من الخيال كلما ارتفع منسوب العاطفة.
هنا، نجد تجارب تشكيلية تحاكي بمتعة كل ألوان الوجود.. بل كل أشكال التراث، وبالضبط، لأنّه تراث. وهي بذلك تكشف عن أشكالٍ جديدة وبلغةٍ تعاقدية. تهيم في بعضها، وتخترق في بعضها الآخر لتحترق معيدة تأويلها، تأويلٌ يمنح إيّاها نغمة أخرى يغمر كل المكان كضوء شفاف عند الشقشقة الأولى.
والتجربة التي نرافقها حتى آخر لمساتٍ لها وبُقع عليها تُمَثِّل مَعْبَرَا لا يُخشى السير فيه لقراءة أشياء تتعانق وتعالق بألقٍ جديد مع التراث القديم، ما يفتح الرغبة لإفساح المجال أمام الجمال الذي تعيشه الفنانة (فريال إسحاق) من التراث الخليجي الذي مايزال منهلًا ثريًا.. إلى رباعيات الخيَّام في شعريته المتوارية.. إلى الحكايا الشعبية الحاضرة بجلاءٍ ووضوح. هذه الثيمات، تتجلّى في سرديتين: الجمال والمرأة. فكيف جسّدت الفنانة (إسحاق) هذه السرديات!؟ وكيف وجّهتها نحو القارئ لجذبه وحضوره!؟
لنتمهَل قليلًا، ولنتأمل كثيرًا: تُخبرنا القراءات أنّ الجماليات وقبل أن تكون صيغة خاصة بالفن أو بأي شيءٍ آخر، هي صيغة حقيقية في الحساسية الإنسانية. حيث أنّ الفعل الجمالي بتحويراته وتغيّرات إيقاعه هو حاجة إنسانية مَحْضة.. والإنسان يتفاعل والجمال من حيث يشعر أو لا يشعر. ويقولون، أيضًا: أنّ “الشعور الجمالي هو إحساس باللذة والعشق”. وأيضًا: الجمال يولَد بأشكالٍ عديدة، فقط غيِّر زاويتك وستراه في كل مكان. هي جملة من المقولات تطارد الدلالات والإشارات، وتنتقل من معنى إلى آخر، من هامشٍ لهامش.. ليقين القارئ في الاحتمالات المتعددة للمعنى الضمني في هذه التجربة.
إذًا، ثمة مقولات تحاول أن تُظهر الجمال بتجلياته في تجربة (إسحاق) هذه التجربة الشفافة والرؤية الرقيقة، إذ تجعل الأشكال بقدر ما تتقاطع وتتمازج وتتشابك وتتعانق مع التراث بقدر ما تجعل منها تجربة مميزة من كمية وكيفية الجمال، الجمال “حقًا”، لأنّه من إنتاج تجربة تستمد عاطفتها من التراث، ولذا فهو حق، وصانعة الجمال الفنانة (إسحاق) تبحث عن مشاركة المنتوج الجمالي الذي يبدأ من ماضي التراث ولا ينتهي عند الفن الحديث اليوم، بل يمتد للبحث عن صلة تُقاسِم معها الفِعْل العاطفي، على اعتبار أنّ كل فعلٍ جمالي هو فعل عاطفي ذاتي. والعاطفة لا ترتبط بالشكل واللون والخط وحسب، بل هي في قلب التراث، التراث البعيد – القريب.
ولعلّ المتأمّل في أعمال (إسحاق) لا بد أن يشعر أنّ البُعْد عن الوعي الجمالي بالتراث نقصٌ، وإقصاءٌ، وغربةٌ، واغتراب عن الوعي.. والمتأمّل أيضًا، لا بد أن يلحظ قُرب الفنانة من التراث، والقرب هنا ليس إلا التصاقٌ، ولَمٌ، وشملٌ، واستحواذٌ، وغدقٌ، وزلفى.. وبين الأول والثاني أسراد من التراث تمنح الشكل الجمالي فتنة.
هكذا، يمثل الوعي الجمالي بالتراث أو إنتاج الفن في الماضي – بحسب تصور غادامير – حضورًا في الحاضر من خلال وسيط الفن الذي يتجسّد لونًا ويتثبّت شكلًا، مما يسمح بأن يدخل القارئ في حوارٍ مع التجسّد التشكيلي الذي يمثّل حضور الآخر، وإن كان العمل الفني بعد إنتاجه قد انفصل عن (الفنان/ـة)، فهو حامل لدلالاتٍ ومعانٍ خاصة به، يضفي (العمل الفني) نوعًا من الاستقلالية الدلالية.. التي تتكون بفعل طبقة جينالوجية من المفاهيم والاستعارات المستمدة من التراث، ومن الخبرات والمهارات، وبذلك يكون حضور معانِ ودلالات العمل الفني أو حقيقته من خلال سؤال الحاضر الذي يمثّل المنجز الفني جوابًا عنه، جوابٌ في حضورٍ مستمر.
مرة أخرى، وبهذه المقاربة يمكن الاقتراب من تجربة الفنانة (إسحاق)، وهي التي عاينت جماليات التراث بوعي، وأدركت أهمية هذا المُعطى منذ سنوات قضتها في البحث والتجريب. فراحت تبحث عن أشكالٍ جمالية متعددة لتخلق شاعرية لوحاتها /نتاجها/ أثرها الجمالي – الفني ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا. وأدركت عندما غيرَّت زاوية النظر.. أي، باتجاه التراث المحلي والعمل عليه، وقصائد عمر الخيام وما نتجت عنها من منمنمات وتصاوير، وجمال المرأة.. كل هذا من أجل الوصول إلى نتاج فني بنكهة خليجية خالصة. لكن ليس عبر إعادة إنتاج التراث كما هو موجود، بل عبر مساءلته وتجريده وتجريبه وتجديده، وتجويده بأجمل شكل.
لقد عَمِلتْ على إحياء الـ (تراث/ ها) بلغةٍ معاصرة وطعَّمتها بمعانٍ ودلالات يدرك المتلقي من خلالها ثراء التراث، فينتشي من شعريتها.. يتفحّص بروحِ حالةٍ متوهّجة في زمنٍ تعدّدت فيه الاتجاهات والممارسات الفنية المتضاربة. إنّها رؤية الفنانة ورؤاها حول قيمة الموروث من حيث الشكل والمضمون. قيمة تذكرنا بالولع الكامن لعمر الخيام: “القلبُ قد أضْناه عِشْق الجَمال والصَدرُ قد ضاقَ بما لا يُقال يا ربِّ هل يُرْضيكَ هذا الظَمأ والماءُ يَنْسابُ أمامي الزُلال”. ولا يظن أحدٌ أنّ أعمال الفنانة بعيدة عن العبارة التي لا تنتهي.. أنغامها وسحرها، بل سيجزم أن محاولاتها في سبيل الوصول إلى فجر الجمال الخيّامي.. إلى مناهله التي أودعها في أشعاره، لماذا؟ لترتوي..
أشعار في الحياة، ومثلها في الجمال، وسواها في المرأة. ألم تكرر الفنانة (إسحاق) حبها وتأثرها بالخيام خاصة، وبالفن الفارسي عمومًا!؟ بلى.. وما أحسن هذا التأثر. تقول: “أستوحي ملامح وجوهي من كلمات الخيام في العيون الذابلة والشعر الطويل والرداء الفضفاض.. والطبيعة”. وتقول، أيضًا: “الفن الفارسي أبهرني بجماله، وترك أثرًا في مخيّلتي، ويظهر أثره عبر الوجوه التي أرسمها، ذات العيون الناعسة والسُّحنة الشرقية الساحرة”.
والحديث عن المرأة في تجربة (إسحاق) ليس ببعيد عن الوعي بجماليات التراث، ولنتذكّر، أولاً، ما قاله الشاعر لامارتين، ذات مرة، في جمال المرأة: أي جمال في الطبيعة يستطيع أن ينافس جمال المرأة التي تحب!؟ لا شيء. والفنانة نفسها تفتح طريقًا للجدل الجمالي: إنّ المرأة من الأشياء الجميلة في الحياة.. المرأة لوحدها موضوعٌ متكامل.
تحقيقًا لما تقدَّم، يمكن معاينة أعمال (إسحاق)، فـ “الموضوع المتكامل” يفصح عن حضور المرأة في تجربتها حضورًا جليًا، فتُظهِر مقدار حبها في تصويرها، وإبراز جمالها بخطابٍ أنثوي رقيق وعفيف، مستوحى من الخيام ومن التصاوير البديعة للفن الفارسي القديم. هذا الافتتان بطبيعة المرأة وتصويرها يصل بسهولة إلى المتلقي، كون المرأة تتخذ في جُلَّ لوحاتها المساحة الأكبر. تبدأ كبذرة.. ثم تنمو وتزهر.. لتتسع وتهيمن ضمن إطار تلائم المساحة والفراغ، وتلازم لغة التشكيل وبأسلوبٍ يتخذ من الواقعي وجهته ومن الخيالي تمظهراته الشاعرية.
هذه التجربة بكامل حمولتها ما هي إلا جمال وتعبير عن المرأة – روحًا / وجسدًا، الجسد الذي هو مَعْبَرٌ وسيع سعة العاطفة.. ومن خلاله يمكن التأمل في مساكن الروح، والبحث عن الكينونة التي تعيش اغترابها. وهنا تقف التجربة – في إطار بحثها المستمر – عند تخوم الجمال الخالص، من خلال موضوعاته، وهذا أمرٌ جلي، للوهلة الأولى، ولكن، بعد التأمل تتكشف لدى القارئ رؤيا عميقة ورؤى متعددة تشتغل عليها الفنانة وترتبط كل دلالاتها بها. هذه الرؤيا تُرى في المزاوجة بين القيم الجميلة في التراث المحلي خاصة والإنساني عامة، باعتبار أنّ التراث والمرأة نوافذ في غاية الرِّقَّة والدِّقَّة. بها نعاين وجود الحياة وحياة الوجود.