الفنان التشكيلى البحرينى عبد الله المحرقى ، فـــنان الشعــب

28/7/2020

0

كتب / غـازى انـعـيـم
يعد الفنان التشكيلى البحرينى عبد الله المحرقى واحدًا من أبرز فنانى الجيل الثانى فى البحرين والخليج العربى، كما يعد من الجيل الذى شكل الانطلاقة الرئيسية للتشكيل البحرينى الحديث.. بالإضافة إلى ذلك يأتى فى طليعة فنانى البحرين، الذين فرضوا وجودهم الفنى بإصرار ومثابرة حيث شكّل الواقع البحرينى بملامحه الطبيعية المختلفة، وبعادات الناس وسلوكهم وتقاليدهم، نبعًا مهمًا له، حيث صنع منه تيارًا ذا أهمية فى حركة الفنون التشكيلية البحرينية الحديثة.. وهو يعد أيضًا من أكثر الفنانين التشكيليين إخلاصًا للبحث فى كيفية تحويل الروافد الموضوعية والشكلية المستمدة من الواقع، لتصبح عناصر مهمة على سطح اللوحة..

لقد عرف المحرقى خلال مسيرته الفنية.. الطويلة، بأسلوبه المتميز واختياره لموضوعات تمثل البيئة والمناظر الطبيعية البحرية والبرية والتراثية فى البحرين إلى جانب الأساطير والحكايات، وغير ذلك من العادات والتقاليد والأفكار والهواجس.. التي سجلها المحرقى على مسطحات لوحاته.. وهذه اللوحات التى تسيدها الإنسان تشير إلى الأمل، لأن الإنسان فى لوحاته حامل للطيبة والجمال ويناضل من أجل الحياة.

تلك المظاهر الإنسانية التى كانت موجودة أيام زمان.. سرعان ما اختفت نهائيًا، وتحولت إلى فولكلور.. لتصبح لوحات المحرقى المنفذة بأساليب فنية متعددة.. وثائق تاريخية، وشاهدة عليها، يرجع إليها النقاد والباحثون والفنانون فيما بعد.

المحرقى الذى لا يكرر أو يقلد نفسه، أثار العديد من القضايا الساخنة.. وخاض معارك من خلال رسوماته الكاريكاتورية التى ينشرها فى جريدة ” أخبار الخليج “. وقد تعرض جراء ذلك إلى مواقف محرجة كثيرة مع المسؤولين، حتى أنها كادت أن تلقى به فى السجن.. كما اتهم من قبل الصهاينة بالعداء للسامية.

أقام خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء أكثر من ( 20 ) معرضًا فنيًا خاصًا.. ونال خلال هذه المسيرة عددًا كبيرًا من الجوائز والميداليات، لعل أهمها حصوله على الميدالية الذهبية من صالون الفنانين الفرنسيين عام 1983. وجائزة الدولة التشجيعية في الفنون من دولة البحرين عام 1985.

ـ فمن هو فناننا؟

ولد الفنان عبد الله المحرقي في شهر آب عام 1939م، في فريق الفاضل بالمنامة، وكانت عائلته قبل ذلك تسكن في جزيرة المحرق، وبعد استقرارهم في المنامة صار الناس يلقبونهم بالمحرقي نسبة لمنشئهم.. وصار اللقب متداولاً.. واسمًا للعائلة.. وهكذا درجت التسمية على والده الذي انتقل للعيش في المنامة بسبب ظروف عمله، حيث كان يعمل قبطانا لإحدى سفن البريد التي تبحر بين البحرين وشواطئ السعودية، كذلك كان والده يفضل المعيشة في المنامة أيضًا حتى يكون قريبًا من شقيقته ( عمة الفنان عبد الله ) بعدما تزوجت في المنامة.

كان عبد الله المحرقي الذي نشأ وترعرع في أحياء المنامة، وفي مكان قريب من شاطئ البحر الذي أحبه كثيرًا.. يمضي أوقاتًا طويلة على شاطئ البحر في المنامة، مأخوذا بمرأى السفن ومراكب الصيادين وهي تنساب عبر الخليج جيئة وذهابًا، وظل البحر بشاطئه الذي يعج بالمراكب والسفن وبالصيادين وباعة السمك.. وبالبحارة ومراكبهم وشباكهم.. والغواصين.. موضوعًا محببًا إلى نفسه خلال مسيرته الفنية كلها.

كان للمحرقي معزة خاصة عند والده، لذلك كان يوصيه بالحذر من البحر، ومن أي شيء يمكن أن يؤذيه.. وقبل أن يبلغ ” المحرقي ” عامه الخامس اصطحبه والده في رحلة بحرية إلى ” رأس تنورة ” بالقرب من السعودية، وكاد أن يفقد حياته فيها لولا عناية الله، وذلك عندما زلت قدمه فسقط بالبحر مما أثار مشاعر الرعب عنده..

هذه الحادثة وكثير من القصص التي كان يرويها والده عن البحر وأهواله.. وكذلك الحكايات والأساطير التي كانت تقصها والدته عليه بكثير من التشويق والترهيب.. أثّرت في نفسه كثيرًا وأصبحت كامنة في ذاته.. وأوجدت لديه هذه التجربة المروعة ( عقدة البحر ).

وعندما كبر، انطلق للتعبير عن هذه الحادثة وغيرها.. في كثير من أعماله الفنية التي صورت المأساة العميقة المحزنة التي اشتملت حياة الغواصين في سابق الزمان.

المنابع الأولى..

قبل دخول المحرقي إلى الكتاتيب، كان يتابع والدته الفنانة بكل انتباه واندهاش لصبرها وهي ترسم على أقمشة المفروشات المنزلية زخارف ورسومات للزهور والطيور والخيول والغزلان.. وغيرها.. بقلم ” الكوبيا ” لتطرزها بخيوط ” البريسم ” بدقة متناهية، لم يفطن عبد الله حينها لتلك الموهبة التي أورثته إياها والدته.. فكان لها تأثيرًا ايجابيًا غير مباشر على مسيرته الفنية.

كما كان لشقيقه الأكبر ( علي ) الدور الكبير في تحفيزه وتشجيعه.. وكان له تأثير مهم في ذلك الطفل عبد الله الذي كان يجلس إلى جانبه ويبدأ بتقليد ما رسمه، لكنه كان يجد صعوبة في تقليد رسومات شقيقه الأكبر.. فيترك ما بين يديه من أوراق وألوان.. ويذهب إلى والدته باكيًا، وشاكيًا لها، لأنه لا يستطيع أن يرسم مثل أخيه.. وكانت والدته تطيب خاطره وتقول له، لا تستعجل.. غدًا تكبر وترسم أحسن منه. هذه الكلمات كانت ترفع من معنوياته، وتشجعه بأن يحاول مرة أخرى.

في الخامسة من عمره أدخل إلى ” الكتاتيب ” أو كما يقال في البحرين ” المطوع ” ليتعلم القراءة والكتابة، لكنه لم يقتنع بالتعلم في الكتاتيب.. لعدم توفر بيئة مناسبة أو بنية تحتية للتعليم، كما أن قسوة وشدة تعامل المطوع مع الأطفال، لم تشجعه على مواصلة الدراسة في هذا النوع من المدارس.. فترك ” الكتاتيب ” والتحق في عام 1945 في المدرسة الغربية الابتدائية ( أبو بكر حاليا )، ولما رأى الصفوف، والمقاعد وجدران المدرسة مغطاة بالرسومات التوضيحية والخرائط.. والتلاميذ بثياب نظيفة.. اندهش وأحب المدرسة والدراسة والمدرسين، حتى أنه صار يتمنى أن يبقى كل الوقت فيها.

أول مبلغ من عرق جبينه

عدما ترك والده العمل في البحر.. وفتح محلا لبيع الخردوات بالعصاري في شارع ” المهزع “، وكان عُمر الفنان الصغير عبد الله حينذاك لا يتجاوز العشر سنوات، وكان المحرقي يسبق والده إلى الدكان متسلقاً صندوقاً خشبياً كي يفتحه، بعد ذلك يجلس مع أوراقه وألوانه في انتظار حضور والده. وعندما كانت تقل الحركة على الشراء، كان يستثمر هذه المساحة من الوقت بالرسم على الأوراق التي كان والده يلف فيها السلع الصغيرة، وفي احد الأيام كان قلم المحرقي يخط على الورق فشاهده اثنان من الأمريكان كانا يتسوقان، وطلبا منه بأن يرسم لهما صقرًا نظير مكافأة مالية.. وفعلاً رسم الصقر، فاندهشا واخرج كل واحد من جيبه 4 آنات ـ عملة ذاك الوقت ـ ووضعاها في يديه وانصرفا بعد أن أخذا الرسم، وكان هذا أول مبلغ مالي يحصل عليه من عرق جبينه.

وفي محل والده أصبح القلم والخط مطواعًا بين يديه.. وبدأت أنامله تنسجم مع مخيلته، وبدأت رسوماته تظهر وتبرز وتشد عين المارة من أمام الدكان.

شرارة الفن

في المدرسة الغربية الابتدائية، اشتعلت في نفسه شرارة الفن وتحركت الموهبة في داخله وبدأ المحرقي يرسم بتشجيع من مدير المدرسة الذي حث مدرسي المواد العلمية كالجغرافيا والعلوم بتكليفه برسم وسائل الإيضاح لها.. وبدأت ” الخطوط تتوضح.. وأصبحت أختلف عن بقية الطلبة.. وتنبه المدرسون إلى ذلك.. وأدركوا أن في داخل هذا الطفل موهبة ما.. وبدأوا يكلفونني بالرسومات.. بالخرائط، بوسائل الإيضاح، أرسم أسدًا، أرسم حصانًا.. كنت مطيعًا للأساتذة، وكنت أكرس كل وقتي للرسم، لم أكن العب مع الأولاد.. كنت أرسم.. نقطة على نقطة تصير خطًا.. ابتدأت كفنان صغير، والتفت إليّ مدير المدرسة حسن الجشي، كان بعيد النظر، يتتبع الطلاب، ويتلمس مواهبهم، وأخذ يبحث لي عن مناظر طبيعية، وصور صغيرة ويطلب لي أن أعيد رسمها، ويقول مثلا عبد الله خذ هذه الصورة كبرها.. وأصبحت أجيد الرسم إلى حد ما “.

ويعود الفضل في تشجيع الفنان عبد الله المحرقي على الرسم، لمدرس مادة التربية الفنية السوري رؤوف نادر شركس، كما يعود له الفضل في تشجيع الطلاب الموهوبين، ومن أجل تحفيزهم على الإبداع كان يقدم لكل طالب يرسم عملاً فنيًا جيدًا.. هدية عبارة عن بطاقة تمثل دولة من الدول.

في هذه المرحلة حصل للفنان المحرقي موقف مع الأستاذ نادر شركس لم ينساه، وهو أن المدرس شركس كان يمنح المحرقي علامة ( 19 ) من عشرين في مادة الرسم، ولم يسبق أن منحه علامة العشرين أبدًا، ويتحدث المحرقي عن هذه القصة قائلاً: ” ذات يوم وزع علينا الكراسات وإذا هو يعطيني 11 من عشرين، ولما رأيتها صدمت وبان عليَّ الانزعاج وهو يلاحظني.. واقترب من طاولتي وقال لي بلهجته السورية، وأنا كنت متضايقًا: ” أوم ولك ” ولما انتصبت واقفًا صفعني كفًا ثقيلاً أدار رأسي. وأحسست أن الأرض تميد بي.. ثم قال:

” أُقعد ” كنت كأني في حلم رهيب.. ولما انتهى الدرس.. خرج الطلاب وبقيت جالسًا.. جاءني الأستاذ.. ووقف على رأسي، ثم قال لي: هل تعرف لماذا ضربتك؟! قلت: لا ! قال: لكي تتعلم.. على أن لا تقدم أي عمل فني أقل مستوى من الذي قبله إن لم يكن أحسن منه. هذا الدرس.. وعيته جيدًا، ولذا حتى الآن.. أدقق في أعمالي.. وحين انهي العمل أخاف.. من الناس.. أخاف من أي قول.. لا أسأل أحدًا ما رأيك؟ خوفًا من أن يكون العمل أقل من سابقه “.

بدأ المحرقي يرسم في البيت والمدرسة لوحات بالألوان الزيتية لمواضيع زخرفية ومناظر طبيعية وأشكال آدمية وحيوانية، بالإضافة إلى بورتريهات لشخصيات معروفة مثل أحمد شوقي، أحمد العمران، وشخصيات تاريخية، كصلاح الدين الأيوبي.. وقلاع.. كما رسم صورة شخصية صغيرة بقلم الرصاص لرئيس الاتحاد السوفييتي الأسبق ( ستالين ) آنذاك بشواربه الكبيرة على ورقة صغيرة وعرضها على أستاذ الرسم وقتها الأستاذ سلمان الصباغ، الذي حل مكان الأستاذ شركس، وقد أعجب الصباغ باللوحة ونتيجة لهذا الإعجاب اصطحب الأستاذ الصباغ المحرقي إلى مدير المدرسة حسن الجشي الذي أثنى بدوره على اللوحة، وطلب من المحرقي رسم صورة المغفور له الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة حاكم البحرين آنذاك من صورة فوتوغرافية كانت معلقة في مكتبه، فقام المحرقي برسمها وعرضت بعد ذلك في المعرض السنوي، الذي تقيمه المدرسة ثم أهديت هذه اللوحة لسموه، وتلقى المحرقي من سموه هدية كانت عبارة ساعة يد. فكانت هذه أول لوحة لشخصية رسمية يرسمها المحرقي وأول هدية يتلقاها في حياته عن عمل فني يعود له.

ومن ضمن اللوحات التي كانت معروضة في معرض المدرسة صورة للمصور ” شارلس بلجريف.. وقد سبق أن رسمها المحرقي بناء على تكليف وطلب من سكرتيرة المدرسة، وكان من ضمن الحضور الذين شاهدوا المعرض بلجريف نفسه ، ولما شاهد صورته ” بدا عليه الامتعاض ولم تعجبه الصورة. لم يشجعني.. ولم يشكرني، ولم يرحب بذلك. ولم يثن عليّ.. ترك اللوحة وأخذ يتجول في المعرض.. وكنت قد عثرت على صورة أخرى.. كانت ملقاة على الأرض وممزقة.. فجمعتها، وألصقتها ثم كبرتها بالرسم وبالألوان.. وكانت في المعرض.. ولما رآها بلجريف التفت إليّ.. وقال هذه من خيالك؟! قلت : نعم! دون أن أدرك لماذا قلت نعم.. وبدا عليه الغضب الشديد.. وانسحب من المعرض كله.. وبعد مدة حين نشر كتاب ” أهلا بكم في البحرين ” فوجئت أن الصورة الأصل منشورة في الكتاب وأنها من التقاط بلجريف نفسه.. وهذا الذي أغضبه.. ربما ! “.

بعد المرحلة الإعدادية انتقل المحرقي إلى المدرسة الثانوية، وفيها لقي التشجيع من مديرها ” محمد توفيق السيد ” الذي كان يطلب منه بأن يرسم وينفذ ما يريد.. وبجودة عالية، وأخذ المدير يعامله معاملة الأب للابن، وأراد أن يقدم له خدمة، فعرّفه على رجل مصري يدعى ” ينّى بشاي ” كان يعمل في ” دائرة العلاقات العامة ” في شركة نفط البحرين ( بايكو )، وذلك الرجل طلب من المحرقي بأن يتعاون مع الشركة، فوافق المحرقي، وبدأ العمل معهم كرسام.. فنفذ اسكتشات لمناطق العمل، ولوحات لحفر الآبار، والتكرير.

حين أنهى الرابع الثانوي في عام 1956 م ـ لم يكن في البحرين ثانوية عامة ـ كان يرغب بأن يواصل دراسته بالفن، وذهب إلى وزارة التربية والتعليم لطلب منحة لمواصلة دراسته في الخارج، لكن طلبه رفض.. وخرج من الوزارة مكسور الخاطر.. إلى أن جاء الفرج من خلال صديق له، أبلغه بأن هيئة الاتحاد الوطني يريدون مقابلته لإرساله إلى مصر، وهناك يتولى المؤتمر الإسلامي تحمل بقية النفقات.. وكان من ضمن اللجنة التي قابلته عبد العزيز الشملان ومدير مدرسته السابق ” حسن الجشي “.

البدايات .. وكلية الفنون

في عام 1956 سافر إلى مصر، وفي نفس العام توقفت الدراسة بسبب العدوان على مصر، لم يرغب بالعودة إلى البحرين فقرر المحرقي أن يستثمر الوقت في الدراسة وان يستعد لامتحان الثانوية العامة، وفعلا تقدم للامتحان ونجح فيه، وأخذ يستعد لدخول الجامعة، وهنا عاش في حيرة وقلق بين أن يحقق رغبته أو رغبة الأهل بدراسة الهندسة أو الطب.. وليس الفن، لاعتقادهم بأن الفن لا يتناسب مع العادات والتقاليد.. كما كانت في تلك الأيام تنتشر في النفوس كراهية التصوير.. كما كان الاتجاه إلى الفن يمثل طريقاً غامضاً ومستقبلاً غير مأمون اقتصادياً.. بالاضافة إلى ذلك كان مجموع علاماته لا يؤهله لدراسة الطب والهندسة.. وتحت هذا الضغط أراد دخول أي كلية غير كلية الفنون، وهنا مر بعدة مواقف كانت تؤشر بضرورة التحاقه بكلية الفنون، منها:

ظهور الأستاذ محمد توفيق السيد بشكل مفاجئ في الصورة، وكان حينها مدير مدرسة خاصة في الزمالك، وقال له: ” الله خلقك فناناً، ولا تدخل أي كلية أخرى.. “.

أما الموقف الثاني فيتمثل بزيارة السكرتير العام للمؤتمر الإسلامي أنور السادات لبيوت الشباب، حيث طلب منه أن يرسم له صورة، كما رسم صورة لجمال عبد الناصر.. وقدمت للسادات الصورة، ونشرتها الصحافة آنذاك.

كان في صحبة السادات السفير السوداني في القاهرة، ولما رأى لوحاته قال: إن شاء الله تدرس الفن، ورد عليه المحرقي: أحب أن أدرس الهندسة.. فقال له السفير: ألا تحب أن تصبح فناناُ.. تصل إلى هدفك بالخط المستقيم، أسلك الطريق المستقيم.

وفي الموقف الثالث، كان المحرقي يرغب في حل وسط، وذهب في عام 1957 ليقدم أوراقه إلى كلية الفنون ـ قسم العمارة ـ وهناك التقى بالبواب، فسأله أي قسم تريد؟ قال: العمارة.. فرد عليه البواب: هذه كلية الفنون الجميلة وليس العمارة.. قدم للفنون. وكانت هذه إشارة أخرى بأن يحزم أمره.. فتقدم لامتحان الفنون مع 500 طالب وحصل على الترتيب الثالث، لكنه فضل دراسة الفنون الزخرفية التي تضم الديكور الداخلي والتصميم والتصوير الزيتي.

فترة التشكل

كان المحرقي أثناء إجازته الصيفية يعود إلى البحرين للعمل بدائرة العلاقات العامة في شركة بابكو لتوفير المال لدراسته في القاهرة، وقد حفزه قسم السلامة في بابكو على الاتجاه إلى الكاريكاتير.. فرسم للشركة أعمال كاريكاتيرية بشكل مبسط تتضمن تعليمات وإرشادات للعمال كارتداء القبعة الواقية، أو القفازات، وبدأ يتلقى أجراً على رسوماته.. مما شجعه على إتقان العمل أكثر وأكثر.. كما رسم آنذاك لوحات كثيرة تصور حفر آبار البترول.. وكذلك بوسترات كاريكاتيرية استخدمت كوسائل إيضاح لغرض إجراءات السلامة العامة.

هذه الفترة كانت بالنسبة له فترة التشكل، والتخلق، وهي المرحلة الجنينية.. والتمهيد للمرحلة القادمة.. فبدا يرسم لوحات تدور حول أحداث ذلك الوقت.. الجزائر، العراق، فلسطين، وكان يعبر بالأسلوب الواقعي الذي بقي أسيره فترة طويلة..نتيجة تأثره بفناني عصر النهضة الكلاسيكيين، والفنانين الواقعيين والرومانسيين… لذلك ليس غريباً بعد كل ذلك أن يعجب المحرقي بلوحات الايطاليين مايكل انجلو ودافنتشي… والفرنسي دولا كروا، والاسباني غويا، وأستاذه المصري صلاح عبد الكريم الذي تتلمذ الفنان على لوحاته إبان دراسته في كلية الفنون بالقاهرة. حيث تأثر المحرقي بأسلوبه، وكان قوياً جداً للحد الذي جعله يشعر بالرهبة أمامه فتبعه بصيغته الحديثة وبلغ مرحلة لا بأس بها.

في السنة الأخيرة من صيف عام 1963 كان المحرقي ينفذ مشروع البكالوريوس في الفنون الزخرفية بعد أن نجح في السنة النهائية، وبعد أن قدم المشروع الأولي، ولم يتبق إلا المشروع النهائي ـ كان أمله كبير في حصوله على درجة الامتياز ـ وفي ذروة فرحه وابتهاجه حصل ما لم يكن بالحسبان، وبدون سابق إنذار، وجد نفسه في زنزانة بتهمة التآمر على السلطة، ومن زنزانة إلى أخرى.. وجد نفسه في نهاية المطاف.. على سطح سفينة إيطالية كانت راسية في الإسكندرية، ومتجهة إلى بيروت.

عاد إلى وطنه البحرين مقهوراً وفي حلقه مرارة، دون شهادة.. وبدل أن يجد من يخفف عنه وطأة ما حصل معه من تهم وسجن ومشقة طريق.. فوجئ بتوقيفه والتحقيق معه.. وعندما تناهى إلى سمع الشيخ عبد الرحمن المهزع قصته سارع في فك أسره.. وقد عوضه الله خيراً في نهاية عام 1963 عندما عمل ضمن فريق الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة، الذي مهد له الطريق بلقاء رئيس المالية في ذلك الوقت صاحب السمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة.

وفي عام 1964 حاول رئيس البعثة المصرية مساعدته، فذهب إلى كلية الفنون في القاهرة وأحضر أوراقه منها، وتوسط له بالدخول للقاهرة لإكمال متطلبات تخرجه.. لكن المحاولة باءت بالفشل، بعد ذلك قرر الذهاب إلى سوريا، وهناك قدم أوراقه إلى كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، وطلبوا منه بأن يعيد السنة النهائية كاملة.

كان يعتقد المحرقي بأنه سيبقى مدة ستة شهور، لكنه فوجئ عندما عرف بأن الأمر يتطلب سنة ونصفاً، فأرسل رسالة للشيخ محمد بن مبارك الخليفة، وعرض عليه تقديم استقالته من دائرة العلاقات العامة في البحرين، فرد عليه.. واصل دراستك.. نحن في انتظارك.

رغم العراقيل التي وضعت في طريقه.. درس المحرقي فنون زخرفية، وتخرج عام 1966 بدرجة امتياز من جامعة دمشق.

بعد تخرجه في كلية الفنون الجميلة عاد المحرقي إلى البحرين منشرح الصدر، لأن دراسته في القاهرة ودمشق كانتا مفيدتان له.. وأضافتا الكثير لخبراته، فأغنتاه بوسائل التعبير والتقنيات والخبرة التي طالما بحث عنها… ورغم أنه متخصص في الفنون الزخرفية، إلا انه انصرف للتصوير الزيتي؛ ورسم العديد من اللوحات التي تمثل بعض الشخصيات العربية والأجنبية البارزة مثل: الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وملوك العربية السعودية الذين توارثوا الحكم: الملك عبد العزيز آل سعود، والملك خالد آل سعود، والملك فيصل آل سعود، والملك فهد آل سعود، والرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان، وملكة بريطانيا اليزابيث الثانية، والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وسلطان سلطنة عمان السلطان قابوس، وأمير دولة الكويت الشيخ جابر الأحمد، والرئيس العراقي صدام حسين.. الخ. كما رسم جميع الشخصيات الرسمية البحرينية.

وهناك مواضيع أخرى رسمها في هذه المرحلة وعبر عنها بكل صدق وإخلاص؛ مثل العادات والتقاليد.. وحياة صيادي الأسماك والغواصين في صراعهم مع البحر وأسماك القرش والأمواج؛ بالإضافة إلى مواضيع نابعة من صميم طبيعة وطنه.. من بيئة وأرض وبحر وسماء.. ولم ينسى المحرقي التوجه إلى الفن الشعبي وخاصة فيما يتعلق بالأفراح والاحتفالات الشعبية المتعددة، كما رصد حياة الصيادين وعاداتهم البحرية في أوقات العمل والراحة! ومع هذا تظل موهبة المحرقي الحقة في تصويره للمواضيع المستمدة من الجمالية المحلية وجذورها التراثية.

كان المحرقي يتمشى على الشاطئ، ويتجول في أسواق المنامة ومحلاتها.. ويلتقط المناظر المعبرة بصدق عن تلك الأماكن.. وهذه هي الخطوة التي خطاها عبد الله المحرقي، يدركها من عرف معارض هذا الفنان عندما كان الفن الوضعي القائم على المحاكاة والذي يعتني بقواعد المنظور والتكوين: هو الفن السائد في البحرين بدون منازع.

هذا الفنان الرائد لم يخرج عن الإطار التقليدي، في الخليج العربي، ولم يصور أواني الزهور، أو مناظر الغروب، أو حتى البحر ونوارسه في حالته الرومانسية.. إنما صور عالمه الخاص المعبر عن شخصيته التي استقرت ملامحها الفنية.. ومن جهة أخرى تتكشف لنا هذه التجربة في تبلور أسلوبها الواقعي المتميز الذي أشتهر به منذ بداية السبعينات والذي ينم عن مصور من الدرجة الأولى. وهذا يعني بأننا سنكون في المراحل التالية من حياة هذا الفنان حيال تجربة طليعية بكل معنى الكلمة.

كما فادته خبراته الفنية في عمله في وزارة الأعلام ودائرة العلاقات العامة، وكذلك في مجلة ” هنا البحرين ” التي أصبح مشرفاً فنياً لها يقوم بتصميم غلافها، وإخراجها. ورسم ما تحتاجه صفحات المجلة الداخلية من صور إيضاحية وكاريكاتورية.. وقد اهتم في هذه المرحلة بالموضوعات التي تعبر عن الناس وحياتهم الاجتماعية بعيدا عن المواضيع السياسية.. وامتدت هذه الحقبة إلى عشر سنوات كان له من خلالها شخصيتان رئيسيتان، رجل وامرأة، وكانا أبطال رسوماته الكاريكاتورية والمشهورة عند الناس والقراء وهما ” أم بطولة ” و ” بوعقوف “.

لقد عمقت الدراسة الأكاديمية رؤيته الفنية في مجال التصميم واكتسب معارف متنوعة عندما قام بتوظيفها في تصميم العديد من طوابع البريد، والأوسمة والشعارات المختلفة للمؤسسات البحرينية الخاصة والرسمية، كما صمم شعار إمارة أبو ظبي قبل تشكيل الاتحاد الإماراتي. وعند التشكيل أعلنت مسابقة على مستوى الوطن العربي لغرض تصميم العلم وتأليف السلام الإماراتي والشعار، فنجح المحرقي بالفوز بتصميم الشعار، أما العلم ففاز بتصميمه الفنان الأردني رفيق اللحام.

لقد قدم المحرقي أعمالا حملت من مراحله الأولى ثراءها وغناها، وتميزت بعمق الرؤية والبساطة في العناصر المستخدمة.. وبدأنا نشاهد في بداية السبعينات من القرن الماضي تصميماته ولوحاته التي عكست فكره.

نقطة التحول والانطلاقة..

يعتبر عام 1970 نقطة تحول، وبداية انطلاقة جديدة للفنان المحرقي، حيث استطاع أن يمهد السبيل لطابعه الخاص في لوحاته التي أنتجها أثناء وبعد الدراسة الأكاديمية.. وهو العام الذي سيلتقي فيه مع جمهوره البحريني من خلال معرضه الأول، الذي عمد إلى تضمين لوحاته منظومة من الألوان الحارة والدرجات المختلفة في نسيج من المستويات التكعيبية المتداخلة، كما استطاع أن يدمج شخوص لوحاته ببيئتها بوحدة غير مسبوقة في الشكل والفضاء.

هذه المرحلة عكست تهويماته الخيالية، وأفكاره الفلسفية التي تلقي الضوء على رؤيته وحلمه الخاص.. ويبدو أن المحرقي قد آمن بأن الفن يجب أن يتجاوز مجرد التعبير عن الرؤى الفنية الخاصة، ليكتسب بعداً اجتماعياً، فينوب في التعبير عن إحساس الجماعة بالقضايا والأحداث الراهنة.

وهو حين يتناول الأجواء الشعبية على مسطحات لوحاته، إنما يتناولها من أجل التعاطف مع شخصيات لوحاته المنهمكة في عملها.. والغارقة في جوها الأسطوري والتراثي، وهو هنا يستخدمهما كوسيلة لتجسيد أحاسيسه الذاتية، ويشير من خلالها إلى المجهول الذي يؤرقه.

ومما لا شك فيه، أن تجربة معرضه الأول بصيغته الحديثة كانت مثمرة، لأننا سنجد نتائجها واضحة فيما حدث لاحقا من تطور ملموس في أسلوب الفنان، حيث فتحت هذه المرحلة طريقا يعتبر تصوير اليوم بمثابة الاستمرار الطبيعي له.. وقد كان لنصائح زوار معرضه الأول الأثر الكبير في التوجه نحو الاهتمام بقضايا العادات والتقاليد.. والابتعاد عن الإيغال بالحداثة التي ورثها عن أستاذه صلاح عبد الكريم، كي لا يقطع الصلة بينه وبين المتلقي.

وإذا كان معرضه في البحرين لم يجد الرضا الكافي من قبل المتلقين، فقد أجمعت الآراء أن “سر نجاح معرضه الذي أقامه في لندن عام 1970 ” يعود لسبين! أولهما: التعرف على البيئة في البحرين من خلال أسلوب واقعي بسيط.. وثانيهما: الرغبة في اكتشاف سحر الشرق، وخاصة في منطقة الخليج التي ما زالت بكراً وتحتاج إلى الكثير من التنقيب والبحث وراء جذورها التاريخية والإنسانية.. “.  وكان هذا المعرض هو أول معرض لفنان تشكيلي خليجي ينقل على مسطحات لوحاته بيئة الخليج إلى المتلقي الإنجليزي.

وبعد أن عُرف الفنان بأعماله الفنية وبعد أن تعمقت رؤاه، عاد إلى أسلوبه الحديث المرتكز على استلهام التراث الفني المترسب في الوجدان البحريني، مع الاهتمام بالقيم التشكيلية ذات التعبير القوي الكامنة في الفن الشعبي.. وقد استلهم في لوحات هذه المرحلة أحلام طفولته التي ترسبت فيها طقوس الأساطير والحكايات والبطولات الخرافية.

في عام 1976م، التحق بجريدة أخبار الخليج.إذ طلب منه المرحوم محمود المردى أن يعمل بالصحيفة كرسام للكاريكاتير يختص بالشؤون السياسية, ومنذ تلك الفترة وهو يعمل رساماً للكاريكاتير بأخبار الخليج ولا يزال فيها حتى الآن، كما عمل في جريدة البيان الإماراتية لمدة 14 عاماً.

في هذه المرحلة بدأت أعماله تتخذ ملامح خاصة، وبدأ الأسلوب يتشكل ويتميز، رغم أن عبد الله المحرقي يرسم بأكثر من أسلوب ويبدو رمزياً وسريالياً وتكعيبياً وأحياناً واقعياً وأحيانا ترى كافة المذاهب التشكيلية في معظم ما أنتج من لوحات فنية.. وبذلك فإن حصر تجربته على اتجاه فني بعينه، هو محاولة لحصار تجريبه الرفيع متعدد المستويات..

استقلالية الأسلوب

كان المحرقي حريصاً على استقلالية أسلوبه الفني، لذلك حاول الاستفادة من كل الثقافات والأساليب الفنية المحلية التي يمكن أن تثري فنه دون أن تطغى على تفرده وأصالته.

رغم التنوع في أساليب الفنان، إلا انه يمكن التعرف على شخصيته من خلال لوحاته؛ المتميزة بشموليتها لمفردات البيئة المحلية .. وتناولها لعدد من الموضوعات ذات العلاقة بالأساطير والحكايات والتراث.. إلى قدر صارت به الصبغة التراثية والأسطورية أهم ما يميز فنه والسمة الطاغية على موضوعات لوحاته بغض النظر عن الأسلوب لأن الفنان ” ينطلق من قناعة مفادها أنه لا ينبغي على الفنان أن يتوقف عند مدرسة أو أسلوب معين، ويؤكد بان لكل فنان بصمته الخاصة المميزة له عن سواه. وعن نفسه يقول: أنا لا أعاني من مشكلة في هذا الأمر، فأنا رسام صاحب ” موضوع ” لدي هم، وقضية ويهمني أن أوصلها أو أن أثيرها في عملي الفني، لذا فإن الموضوع هو الذي يفرض عليّ أسلوبي في رسم اللوحة. أحياناً ألجأ إلى الرمزية والواقعية في الوقت نفسه خاصة عند تناولي للموضوعات التراثية، وحياة الغوص التي تكتنز الكثير من الأساطير والحكايات الشعبية “.

ربما يرجع ذلك إلى أن المحرقي قد عاش معظم العادات والتقاليد التي تحولت إلى فولكلور، وان تلك العادات مثل أفراح الزواج، وصيد اللؤلؤ، وشرب القهوة، وجلسة المجلس، والألعاب الذهنية الشعبية.. والملابس الفولكلورية المزركشة.. الخ، تتجه قدماً نحو الاختفاء بما بقي منها، بل إن كثيراً منها وبسبب التقدم الحضاري السريع قد اختفى فعلا مثل طقوس أفراح الزواج، وصيد اللؤلؤ بالطرق البدائية التي كانت تتطلب التضحية بالذات، والشواطئ والأسواق والمدن القديمة وتجمعات الباعة والمشترين والحرفيين وهم يزاولون صناعاتهم التقليدية، وأصحاب المهن المرتبطة بالأسواق كالحمالين والحلاقين والعطارين والحجامة.. وهذا ما دفع المحرقي أحيانا إلى التركيز على زي وملابس أصحاب تلك الحرف وحرصه على تسجيل حركتها وتركيزه على الضوء والظل.

من هنا تبدو أهمية الفنان عبد الله المحرقي في تسجيل وتأريخ تلك العادات والمظاهر التي اختفت من المشهد البصري نهائيا لتصبح لوحاته وثائق تسجيلية لقسوة الحياة على شاطئ الخليج، يرجع إليها الباحثون والنقاد فيما بعد، خاصة وان الفنان رسم معظمها من الخيال، لعلاقتها بالماضي بـ ( الأسطورة والحكايا )، الذي تعجز الفوتوغرافيا عن تسجيله. من هنا أيضاً، كانت القدرة الأكاديمية للفنان المحرقي على درجة من الأهمية لضرورتها البالغة في تسجيل تلك المشاهد بخطوط قوية مع نظرة تحليلية للخلفية وللعناصر في حركتها ووقوفها وجلوسها.. وقد اتجه المحرقي إلى التعبير البعيد عن الزخارف الشكلية.. سواء كان موضوعه من الحياة الشعبية اليومية.. أو يصور أحداثا أسطورية.. أو تاريخية.. أو دينية..

ونذكر من لوحات هذه المرحلة: ” أم الكدو، لقمة العيش، سقوط آدم، يوم الوقفة، فتح المحار، الكوكب المهجور، على شاطئ البحر، بنت الجيران، المقهى، أم الزمام، المجلس، فتح محار اللؤلؤ، سباق الخيل، العطش، زي شعبي، عذاب النفس، مأساة نخلة، لاعب الدامة، الحناء، فرحة العودة، أم الحمار، أم الخضرة والليف مصيدة أبو دريا،.. “.

بقي المحرقي محافظا على أسلوبه وكذلك على موضوعاته المستقاة من البحرين والخليج، ومن الحياة.. كما تطرق إلى مواضيع أخرى مثل الغوص ومعاناته.. وقدم مجموعة من اللوحات الرمزية التي تعتمد على الحكاية لكنها تميل إلى الواقعية.

توظيف الرمز

لكل عنصر في لوحات المحرقي معنى.. فالمرأة الحاضرة بقوة على مسطحات لوحاته ترمز للجمال، كما تؤكد معظم لوحاته على هاجس المرأة كقيمة تتجاوز الدلالة الواقعية، لأنها قيمة تعبر عن عدة مشكلات إنسانية من مصادرة دورها كإنسانة إلى قمعها..

وترمز الحية ( الأفعى ) رغم منظرها الجميل إلى الشر.. ويرمز الحصان، للقوة.. والثورة والانطلاق.. والأمل.. والتحمل.. والخير.. والتمرد.. والخصب وتحمل صورة الحصان الطائر الحلم الرومانسي..جمال وإبداع وروعة في الإتقان.. وتمثل الحمامة، السلام والحرية والأمن والأمان، والطير الجارح، رمزًا للقسوة والخطر، وبما أن المحرقي يقرأ الشعر.. ويلتقط من الشاعر ما يناسبه فقد رسم لوحات تشكيلية للشعراء غازي القصيبي وعلي عبد الله خليفة وقاسم حداد وغيرهم.

كما قدم مجموعة من الأعمال الفنية التي استخدم فيها الآيات والأحاديث بتشكيل جديد، وقد ربط بشكل محكم بين الزخرفة الهندسية والنباتية وبعض أنواع الخط العربي في اللوحة الواحدة، مستهدياً بالتكوين الذي يريده.. وقد وظف على مسطح لوحاته آيات قرآنية كريمة لها معنى، فركب الكلمات بالشكل نفسه. فحملت هذه الأعمال طابع الهندسية، والفنان هنا يتبع الأسلوب الذي يناسب الموضوع الذي يتناوله.

وهناك لوحات تحمل طابع تهكمي، ومواقف تشي بانتقاده للواقع العربي الذي يصفه في بعض لوحاته بالتردي، مثل لوحة ” لعبة الأمم / 2006 ” وهي عبارة عن لعبة تقليدية شعبية كانت تمارسها الأقوام والشعوب الشرقية عن ” عجل ” يتنازع عليه فريقان في ساحة كبيرة للصراع، حيث يستبدل الإنسان بالعجل، وفي هذا موقف واضح مما يجري في عالمنا.

ولكل لوحة من لوحات المحرقي مغزى ومعنى وحين اكتشافه تجد مدى براعة الرموز التي كان يضعها في سياقات لونية ودلالية تعبيرية أخاذة وبخاصة لوحته ” الإسراء والمعراج ” حيث رسم الإسراء باللون الأبيض الصاعد من أسفل اللوحة إلى قمتها حيث السماء تحتضن الرسول الكريم في لحظة إسرائه من الكعبة الشريفة إلى بيت المقدس ومعراجه على ظهر ” البراق ” إلى السماء.

لقد تنوعت مضامين ومذاهب لوحات المحرقي الفنية.. حيث اعتمد في معالجتها على ألوان تراوحت ما بين الحارة والباردة وما بين الأوكر والبني المحمر والأزرق البارد، واتسمت لوحاته بمراحله المختلفة بأسلوب محكم من الخطوط والمستويات اللونية.. وأضحت خطوطه واضحة قوية، في الوقت الذي أعطت مساحاته المضادة من الألوان الحارة مجالا للنغمات المخففة لتضفي الجو العام المطلوب على التكوين.

وتدل المراحل التي مر بها على التطور البعيد المدى لروحية البناء الصوري الذي حققه أسلوب المحرقي خلال مسيرته الفنية؛ التي تمخض عنها مئات اللوحات نذكر منها بالإضافة إلى ما سبق العناوين التالية: ” الأيام الأخيرة، القدر، الإنسان، المرأة والطاووس، سباحة في الذاكرة، على الشاطئ، المخنق، صورة الأب، البحث عن الهوية، تخلف الحضارة العربية، في الذاكرة، حاملة الرطب، مأساة شجرة النخيل، التوحم، الرحيل، الخطر في الأعماق، الإسراء والمعراج.. “.

وقد اشتغل الفنان المحرقي طيلة مسيرته الإبداعية على فئتين من الأعمال:

ـ الأولى: لوحات تجسد موضوعات مستوحاة من البيئة الاجتماعية والتراثية في البحرين ومنطقة الخليج.

ـ الثانية: لوحات مستوحاة من الأفكار والهواجس الداخلية للفنان، وهو ما اشتغل عليه الفنان المحرقي منذ أكثر من خمسين عاماً، وهذه الأعمال تحمل في طياتها زخماً كبيراً من الآلام والآمال.. فالفن حسب رأي المحرقي ” يجب أن يخدم الحياة والبسطاء والمثقفين وان يكون محصلة كل ذلك، عندما أرسم عن العراق وفلسطين مثلاً أشعر أن شيئاً من آلامي وأحزاني وتوتري ينسحب من داخلي “. ( 6 )

لقد ربط ( المحرقي ) في جميع تجاربه الفنية، بين الأرض والبحر وما يحملانه من عناصر، وبين التراث وما يملكه من مقومات، وطورها جميعا، لتخدم الهدف الذي سعى له، وهو التعبير عن الإنسان، وصراعه من أجل الحياة.

وهكذا يبقى الإنسان بأفراحه وأحزانه.. بآلامه وآماله.. بانكساره وانتصاره.. دائما محور فن المحرقي. وبإغنائه للمذاهب الفنية التي يتعامل معها، بمفهومه العميق للإنسان كفكرة أساسية، يكون المحرقي قد أكد على الجمالية المحلية كمدخل لمضامينه الاجتماعية.. ويكون بذلك قد حقق إنجازه الأمثل والأهم.

الكاريكاتير

يستلهم الفنان المحرقي موضوعاته الكاريكاتورية من أحداث العالم.. وهو دائمًا يقلّب الأفكار في رأسه، الذي يعمل كالرادار، يلف من جهة إلى جهة، وما يرسمه على المسطح الأبيض عادة، هو الأحداث الآنية السريعة التي تمس واقع الناس وتلخص حياتهم اليومية، بخطوط مختزلة وصامتة.

صحيح أن التصوير والكاريكاتير يسيران عنده في خطين متوازيين، لكن الكاريكاتير مثل قناع مضحك لجذب المتلقي إلى القضية والرسالة، ومن ثم تحفيزه وتحريكه، ولكن الفكاهة في الواقع تحمل قدراً أكبر من النقد الجارح والألم، لأن الفكاهة مثل الدودة في سنارة الصيد، وراءها تقبع الفكرة.

والفنان المحرقي الذي انتقل من العمل في مجال الكاريكاتير الاجتماعي إلى مجال الكاريكاتير السياسي في جريدة أخبار الخليج اليومية عام 1976، أعطاه فرصة اكبر للتحليق في عالم الكاريكاتير واعتبرها هي البداية الحقيقية في حياته الفنية، كما عمل في جريدة البيان بدبي لمد 14 عاما.. ويجد المحرقي في الكاريكاتير تنفيساً عن مكبوتاته النفسية :” إنني حين أحس بالضغط.. أنفس عن نفسي بالكاريكاتير، وأسرب المرارة داخل هذا المستطيل اليومي، واني أستلهم أحياناً من أفواه الناس بعض الموضوعات وأرسمها كاريكاتير، وإنني أغتبط عندما يشكرني الناس، أشعر إن آخرين يشعرون بما أشعر.. الكاريكاتير هو حياتي، ويوم أترك الكاريكاتير أشعر بأنني أعاني من ذبول داخلي “. ( 7 )

وهذا ما يجعلنا نترقب باهتمام بالغ تجاربه القادمة على صعيد مواقفه في الكاريكاتير، وان كان قدم تنازلات أم لا.. القادم من الأيام سيكشف مدى عمق رؤيته التعبيرية والجمالية في إبداعه.. ودفاعه عن حرية الكلمة والجمال.

أخيرًا، حصل الفنان المحرقى على العديد من الجوائز المحلية والعربية والأجنبية.. كما أثرى الفنان المحرقي المكتبة البحرينية بعدد من الكتب التي تضمنت إبداعاته المميزة من الرسومات الكاريكاتيرية والتي تعد توثيقا دقيقا للأحداث والمتغيرات والتطورات السياسية والاجتماعية والمناسبات الهامة التي شهدها المجتمع البحريني.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*