رياض ابراهيم الدليمي
الفنان بوصفه منتجًا فنيًا ويحمل خطابًا جماليًا وثقافيًا، لذا تكون مسؤوليته مضاعفه تجاه فنه أولا ومن ثم دوره في صناعة مناخات ثقافية وتربوية ووطنية بذات الوقت، ونحن نخوض ونضيء تجربة فنانة ساهمت أن تجد لنفسها مكانة في هذا الحقل الأبستمولوجي وهى الفنانة التشكيلية السعودية “فوزية نور” فاهتمت أن ترسم فسيفسائيات لونية ومونتيفات صغيرة جدًا تصورها على الجدران والأرضيات فتشكل نسيجًا لونيًا رائعًا، محاولة منها محاكاة المدينة مع البحر والعادات والتقاليد والموروث الشعبي مع مثيلاتها بالمدنية، وتمزج كذلك في أعمالها الفنية بين عدة جغرافيات في آن واحد.
وتعد هذه محاكاة لجماليات المكان، تجدها تتغزل بانتمائها الوطني بكل غناه وتنوعه الطبيعي والثقافي والاجتماعي والمكاني، والفنان بدوره هو الناطق والمعبرعن حواضنه الثقافية وإرثه الحضاري وازدهار بلده ليكون سفيرًا لجماله وعمقه وتقدمه، فعن فلسفة الجمال يقول أومبيرتو ايكو:”على أن هناك رابطة قوية بين الجمال والفن ولكن هذه الرابطة أكيدة وبينة بالدرجة التي يسود الاعتقاد فيها، وإذا كانت العديد من الطروحات الجمالية الحديثة لم تعترف إلا بـ”جمال الفن” فإنها أهملت تمامًا جمال الطبيعة بينما كان الأمرعلى عكس ذلك تمامًا في فترات أخرى، إذ كان الجمال هو صفة الأشياء الطبيعية كـ” ثمرة جميلة” ولون جميل وفي الوقت نفسه كان واجب الفن الوحيد يتمثل في أن يضع الأشياء بشكل جيد كي تخدم الأهداف المكرسة له”.
طائر “الفلامينغو” يرقص الهونة على أمواج “فوزية نور” فهو يخشى أن يستيقظ البحر أو فريسته، هنا تجسده الفنانة في لوحتها”ضيوف جدة طائر الفلامينغو” بأربعة طيور تظهر منها بعض أجزاء، جسد الطائر لتصور حركة الأرجل والرأس والعنق والمنقار فهى تحاول أن تصور لنا جمالية الحركة للطائر وحسب الوظائف التي يقوم بها وحاجاته، فيتمثل باللوحة بحركات أرجله على سطح الماء وكيف يتردد أحيانًا بأغوارها في جوف الماء لكي لا تحس به الفريسة التي يحاول اصطيادها، ومرة أخرى يتراجع خطوة إلى الخلف في حالة نسيان لما أقدم عليه فيأخذ بمراقصة البحر والمرح مع موجه فيقوم بمد إحدى أرجله ويتلاعب برقبته وفرش أجنحته فوق الموج الأزرق السماوي كما جسدته “فوزية” في لوحتها بلغة تعبيرية للجسد وبألوان شفيفة رومانسية كلون البرتقال المائل للمغيب أو شمس الصباح حيث يسكن فيهما البحر وتتكسر خيوط الشمس فوق أمواجه، فكلما تنزل الشمس وتنام في جوف البحر تخفت حركة الطائر ويضم أجنحته فترى رقبته مرة معقوفة ومرة ممدودة ولم تر عيونه مفتوحة من خجله وصمته.
وتعبر هنا الفنانة بتجسيد حركات الجسد لتعطيه هويته بأنه طائر يحب الخلوة ويبتعد عن الضجيج لتعطيه صفة شعرية وشاعرية جميلتين، وتحاول “فوزية”أن تخرجه من صمته ليداعب الموجات الزرق الفاتحة بمنقاره وأصابع قدميه، فتصوره بحركات منسقة معبرة كيف يسامر الموج في لحظة الغسق وربما يمارس الغواية لسمكة صغيرة طفحت على سطح الماء لينقض عليها .
تحاول التشكيلية” فوزية نور”أن تكشف عن جماليات المكان أينما حلت وتستدل عنه، فهي ترسم وتصور مختلف الأمكنة والبيئات في بلدها من حيث المدن والقرى والصحارى فتجرب فرشاتها وألوانها بأساليب متعددة بالرسم، فتجرب المدرسة الواقعية والانطباعية ثم التجريدية إلى الزخرف والنقش والمونتيفات، وهذه الاساليب الفنية والتجريب تمكنها من اكتشاف قدراتها وموهبتها على التجسيد وتسهم في تطوير قابلياتها الإبداعية وخاصة أن بلدها غني في طبيعته الجغرافية من بحار وصحاري ومدن وخضرة البساتين واختلاف وتنوع تضاريس الجغرافية وأمكنة دينية وآثار حضارات قديمة وحركة الناس التي لا تنقطع والعلاقات الحميمة بين الناس فهذه كلها عوامل مساعدة وشيقة تلهمها، فأخذت على عاتقها رسم لوحات جميلة كما في لوحات السدو”هو أحد أنواع النسيج المُطرز البدوي التقليدي الذي ينتشر في التقاليد البدوية، وخاصة في شبه الجزيرة العربية. السدو لغويًا هو كل ما هو منسوج على طراز أفقي. غالبًا ما يستخدم وبر الجمل أو شعر الماعز أو صوف الغنم لحياكته”.
إن الفنان بدوره راصدًا لحركة الجمال المحيط به وكل حسب اهتمامه وذائقته ووعيه لذا عزمت الفنانة لترصد ما حولها من منابع الجمال من مناظر خلابة وموروث شعبي وأثري والتنوع الاجتماعي من تقاليد فنية وطقوس مختلفة في حالات الافراح والأتراح والتقاليد الشعبية الجميلة والأدوات المستخدمة للتعبير عن ذائقة المجتمع، وخاصة تركيزها على أساليب فنية تعكس أخلاقيات وأدبيات الضيافة والكرم العربي، لذا صبت جل اهتمامها على هذه الرموز التي تعبر عن طيبة العربي المضياف فرسمت “الدلة والقوارير والأواني” وهى كلها ترمز للكرم والطيبة والفطرة في مجتمعها وكذلك جسدت الفنون من أنسجة ومفارش ومونتيفات لفن الغزل والخياطة اليدوية “السدو” بمختلف تفاصيله وتصاميمه فمنها ما يتعلق بالمضياف والدواوين والمنازل العربية والتي توحي من خلالها إلى أصالتها العربية وأصالة المجتمع الذي تعيش فيه، وكذلك صورت الأطباق والأثاث بطريقة وأسلوب جمالي لما يتميز به هذا الفن الأصيل من إبداع في صناعته وألوانه لذا تجد لوحاتها بهذا اللون من الرسم يسرق عين المتلقي ليبحر بألوانها وأشكالها وخاصة أن اللوحة تعد كرنفالا لونيًا تجسده بحرفية من خلال تمكنها من توظيف الألوان الحارة والباردة كل حسب وظيفته داخل اللوحة .
تعمد”فوزية نور”إلى إلغاء الأبعاد والمسافات داخل اللوحة ليبق النظر أفقيًا وعموديًا لكي تبقي نظر المشاهد داخل لوحاتها وتضفي حالة الدهشة والانبهار على لوحاتها ولتحقق غاية الفن وهو اللغة المشتركة بين الفنان المنتج للفن ومتلقيه لذا جاءت رسوماتها لتحقق هذه الغايات منها الجمالية المهنية واجادتها للصنعة التشكيلية ومن ثم لتكون الناطقة فنيها لحضارة وإرث بلدها لتعكس للعالم بأن الفنان لديه مهمة الحامل والدال لثقافة وحضارة بلده بكل ما يحتويه من منابع ودلالات الإبداع من طبيعة وحركة مجتمع وفنون وموروث، بالإضافة لما يمتلكه من معارف وثقافات وطقوس شعبية.
وفي هذا الصدد يؤكد “إبراهيم عبد الصدوق ” يرى بعض العلماء أن التراث الشعبي هو أشكال الثقافة والمعرفة التي انتقلت مشافهة بشكل عام، وهنا نجد أن العلماء قد وسعوا دائرة التراث الشعبي بحيث لم تصبح منصبة على الأدب الشعبي وحده، ولكنها شملت كل ما يتصل بالثقافة والمعرفة الشعبية من عادات وتقاليد وعرف سائد، إضافة إلى الممارسات والمعتقدات الخرافية، أي أن التراث الشعبي يمثل المظاهر المختلفة للثقافة التي يأخذ بها العامة مع وجود ثقافات متحضرة تعيش جنبًا إلى جنب مع إمكان وجود ارتباط فكري بين كل منها وعلى هذا فقد اهتم علماء وباحثوا التراث الشعبي بتدوين كل القيم والعادات والتقاليد والفنون التقليدية التي تنتقل اجتماعيًا أبا عن جد ومن جار إلى جار آخر مستبعدين المعرفة المكتسبة عقليًا؛ سواء كانت محصلة بالمجهود الفردي أو من خلال المعرفة المنظمة والموثقة التي تُكتسب داخل المؤسسات الرسمية كالمدارس والمعاهد والجامعات”.أذن أصبحت مهمة الفنان بوصفه صائغًا ثقافيًا للخطاب الجمالي يعكس ويلتقط كل ما من حوله من رسائل ثقافية وفنية ويبثها للمتلقي لتكون مهمته ليست مجردة أي العمل بمقولة الفن للفن أو الاندماج الذاتي مع الوعي الجمالي، ولهذا تجد أعمالها تصويرًا دقيقًا وواع لكل ما ترصده عيناها من أمكنة وموضوعات اجتماعية وحلي وثقافات سائدة وهي تعبر عما تختزنه ذاكرتها كفرد أو الذاكرة الجمعية لمجتمعها وضمن هذا السياق المعرفي يشير الدكتور”أشرف حسين جمعة حلوان”:المفردات التشكيلية الشعبية هى أشكال طالما عبرت عن القيم المادية أولا وأخيرًا ثم التعبير بعد ذلك عن القيم الروحية، حيث إنها تحقق في النهاية وظيفة نفعية تلبي احتياجات الجماعة اليومية والمعيشية على مر العصور، واعتمدت بالأساس على معطيات من البيئة التي يعيش فيها الإنسان صاحب الإبداع وسواءً كانت هذه البيئة من مكونات طبيعية ومظاهر جغرافية، أو ما تختزنه هذه البيئة من موروثات ثقافية، أو ما تعايشه هذه البيئة من متغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية مما يؤثر في الإنسان الذى يعيش في هذه البيئة “.