البعد الجمالي عند الفنان هيثم جوهر – الخط العربي والمُجرَّدُ منه

0

كتب/ محيي الدين ملك

كثيرة هي الأسماء التي اقترنت بالتجريد، وبرمزيتها، وبدلالاتها، والفنان هيثم قد فعلها. وأسماء تعاطت مع اشتغالات الخط العربي، أو ما يسمى بالحروفية، وهواجسه ومناحيه الصوفية، وقضاياه الجمالية، وقد فعلها الفنان.. أيضًا. فالملاحظ أن الفنان الشاب يحاول أن يخوض عدة تجارب، من الواقعية إلى التعبيرية إلى الرمزية، والتجريدية، ولكن، يبقى لتجربة التجريد والخط العربي في بعدها التشكيلي هواها وحضورها البارز على كل المساحة الفنية التي تخصه كفنان باحث عن الجمال ورموزه، وعن الحب وارتحالاته، وكذلك، عن الحرف وأسراره، لكنها – بمقابل ذلك – وبالعنوان العريض، صورة لمعنى الفن وجوهره، ومعنَنَة الحياة.. بالفن الذي يحاول به إدراك المعنى.

ويبدو أن هذه التجربة – تجربة الخط – لا تزال محطَّ العناية الفنية، والرعاية الجمالية، عناية ورعاية الفنان نفسه، خصوصًا أن تراث الخط والحرف يخصُّه، كإنسان شرقي – عربي، وكل غايته أن تبقى هذه اللغة، بفنِّيتها وجمالياتها، حيّة، وأن يبلغ مِدادها إلى مداها ومنتهاها. وهنا بيت القصيد. ولكن، كيف؟!

أولاً، لأن للخط مجاله الحيوي في ذاته، من حيث الشكل والتشكيل، والجليل والجميل، والشوق والتشويق، والعِبْرَة والتعبير، والتحرير والتحوير، والغموض والترميز.

قيل: الخط هندسة روحانية.. بآلة جسمانية. وقيل: الخط الحسن يزيد الحق وضوحًا وبيانا. وأيضًا: الكتابة هي الرسم الهندسي، أو يتطابق نقاء الكتابة ونقاء الروح. وفي الخط ثمة كائن، وهو الإنسان. والخط رمز يكشف عن البُنى الاجتماعية والاقتصادية. وهو رسوم وأشكال حَرْفية تدل على الكلمات المسموعة الدَّالة على ما في النَّفس، فهو ثاني رتبة من الدلالة اللغوية، وهو صناعة شريفة، إذ الكتابة من خواص الإنسان التي يميز بها عن الحيوان، وأيضًا فهي تَطَّلِعُ على ما في الضمائر، وتتأدّى بها الأغراض إلى البلاد البعيدة، فتقضي الحاجات.. وأخيرًا، هناك من يقول: عرفْتُك من خطِّكَ.

وثانيًا، وعند هذا الحدَّ، يكشف الخط عن جوهره، صورة عن الإنسان (جسمًا وروحًا)، والإنسان – بدوره – يُلقي أشياء من جسمه وروحه في الخط من حيث هو تقرير وتضمين (أي شكل ومضمون). وعبر هذه الأدوار الأفقية والعامودية في مسالك الخط ومنعرجه المُقارب للتفكيك وفق قاعدة: التركيب الموجود ينتج التركيب الجديد، تتكشف صورةٌ جديدة، كانت مضمرة في عوالم الفنان هيثم الجسمانية والروحية، وعبر أطوار متتالية أو متقطعة. متشابكة أو مفردة. مفصولة أو موصولة.. ظهرت ملامحها عبر سنوات من العمل في هذا الحقل الفني الجليل.

إذًا، يستعمل الفنان هيثم الخط عن سابق تصميمٍ فنيٍ، وتَرَصُّدٍ، بقصد اكتشاف قيم الجميل والجمال والجمالية. في تعددها وتنوعها، من حيث الخطوط نفسها، وعند استخدامها في الكثير من اللوحات. والقصد من الأبعاد الجمالية، أي، الجودة والإتقان، والخروج عن القاعدة، والمقارنة الجمالية بين الظاهر واللاظاهر منها، هذا بالإضافة إلى أن الخطوط المنقوشة على القماش قد أوحت بتأثيرات حسِّية وعاطفية، عبَّرت عن المظهر، ودلَّلت على الجوهر.

ثم، يمكن من خلال الخطوط المنقوشة والمرسومة الاقتراب من مناطق نفوذ التجريدية، حيث أن إحداها تأخذ من الأخرى، أي تدخل النقاط والحروف والكلمات في المجال التجريدي، وبهذا، يحدث التداخل والمزْج والتماهي، حتى لكأن الخط قد تخطّى الحدود، والتجريد قد صار مرئيًا.

أيضًا، ولنتذكر، أن قيمة الخطوط في مفتَتَح هندستها ومفتاح موسيقاها: من اليمين إلى اليسار. والملاحظ تلك المحاولات الحثيثة للفنان ليجعل النقطة ترنُّ، والحرف يصبح لحنًا.

ولا شك أن هذه التجربة الخطِّة – إن جازت التسمية – تشكِّل وثيقة عن تطور هذا الفن، وعن حياة الفنان، وعن المرويات الفنية والسرديات الجمالية التي يحاول الإمساك بها، ومن ثم إخراجها.

في أعمال الفنان هيثم الخطّيِّة والحروفية منها، تجد المكونات الأساسية والملامح التي رسمها.. فتوزعت جماليات النقطة.. الحرف.. الكلمة.. العبارة.. بين عدد من المكونات الحسية المنظورة شكلاً ومضمونًا، وتبدت فنِّيته هنا في حيازته لأسلوب خاص به ومميَّز في أعماله، يستمد شرعيته من أسس التصميم ومن الحالة التخييلية للحرف والخط، وللكتلة والفراغ، واللون..

أسلوب فنيُّ توصيفيٌ وتحليليٌ يتوقف عند شكل الخط ومحتواه، ويدل على نوعية الرؤية الجمالية التي تبناه الفنان هيثم، وفيض عشقه لها، وهواجسه الوجدانية تجاهها، أي عوالم الخط ومعالمه، ويدخل أسواره ليبحر في أسراره متقصِّيًا كلياته ومغرقًا جزئياته، ومستحضرًا – في بعض جوانبه – ما تم ابتداعه للخط العربي، من ابن مقلة والمستعصمي وحتى يومنا هذا، ومصوِّرًا كل ما يطوف حول مدار الخط دالَّاً عليه أو موحيًا به.

وبإمكان المشاهد أن يرصد دلالات هذه التجربة، والتقاط تفاصيل الجمال في العالم الفني للفنان هيثم.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*