الإعلامى عبد العزيز قاسم : العيد مرَّ من هنا
الإعلامى والكاتب السعودى عبد العزيز القاسم
خلوت لنفسي بعد أن أكرمني الله بحضور ختم القرآن الكريم، والتأمين مع دعاء الشيخ عبدالرحمن السديس في الحرم المكي، وبدأت التفكير في يوم العيد، وكيف أقضيه هذا العام، وبزغت مقالة سابقة كتبتها قبل عشر سنوات، وعدت أتأمل تفاصيل ما كنا فيه من عيد حقيقي، وهرعت أكتب وأنقح عليها ما فاتني منها، ولربما يستمتع بالمقالة جيلي الذي عاصر تلك الفترة بمدينتي الأحب الطائف.
في كل عيد، تنبجس ذكريات حميمة تحلق بك في عوالم بعيدة عشتها، وتطير بك إلى أقصى ما يمكن للإنسان أن يتذكره في طفولته، فالعيد حقا للأطفال. وهاهم أطفال اليوم يتحلقون حول آبائهم في يوم العيد، يستزيدون من تلك القصص الحالمة عن العيد في أزمنة الماضي البعيدة، ونقوم نحن بلعب دور القاص بحوارية الأجيال تلك التي تتكرر معنا في سنيّ أعمارنا، حيث كنا نتلقى تلك الحكايات بين طفل مشدوهٍ منجذب، وصبي مستمتع باسم، ومراهق ساخر متهكم، وأب واعظ تلبسه الوقار والحنين لتلك الأزمنة.
وكنت في مثل هذه الليلة كل عام، يتحلق حولي الأبناء، ويلحّوا عليّ أن أجترّ بعض ذكرياتي التي لا يملوا أبدا من سماعها؛ لتستيقظ الذاكرة المهترئة في كل شيء عدا أيام العيد في سني الطفولة، وتعود بي إلى أيام شوال الأّول في حارتي الشعبية بمدينة الطائف، مذ بدأت الوعي كطفل غرّ في سنته الخامسة في التسعينيات الهجرية.
أتذكر تماما منظر عائلات الحارة وهي تمضي سابلة في وقت الغلس، إلى (المِشهد) مصلى العيد وكان بجانب قصر الملك فيصل يرحمه الله بالخالدية، ومنظر الآباء يمسكون بأيدي بناتهم وأطفالهم بينما كانت النسوة يتعثرن بـ(عبيّهم) السوداء الطويلة من خلفهم، وكانت صلاة العيد والذهاب للمصلى عينية، لا يجوز أن يتأخر أحد فيها. الجميع مزدهون ويسكنهم الفرح وهم يتمخطرون في ذهابهم، فبنت الحارة تختال أمام قريناتها بـ(الكُرته) الجديدة، فيما كنا نحن نرفل في ثيابنا البيضاء ونتعرج عمدا بـ( الكنادر) اللامعة أو (التلاليك) العريضة.، فيما الموسرون منا يتباهون بالثياب القيطان والكوافي القصب.
بُعيد الصلاة، نأتي إلى المنزل على الافطار الذي هيئ من قبل، وعادتنا في تلكم الأزمنة؛ الافطار على “الدبيازة” و”الأمبا” و الجبنة البلدي والزيتون، و”اللدو” و”اللبنية” والحلاوة الطحينية والحلاوة المشبك و”الطرشي” مع سيدا الخبز: العيش الشريك وعيش الفتوت، والحقيقة بفعل اعتيادنا على توقيت الأكل في رمضان، يكون لها طعما مختلفا.
لا بد من طاولة في المجلس، ترتب سيدة البيت الحلويات التي اشتراها الأب قبل ليلة أو ليلتين من بسطات خشبية خاصة، تزينها الأضواء المبهرة التي تنعكس على سطول الحلوى في السوق الكبير في الطائف، وتحديدا أمام مسجد “الهادي”، وأتذكر بسطتا ابني حارتنا حمزة بشناق وخالد قربان، ولا أدري سرّ حرص الأهالي على حلاوة “أبو فواكه” و”أبوبقرة”، وهما اللتان أذهبتا بأسنان جيلنا تسويسا، بسبب التصاقها كالعلق بالسن، وهما المسؤولتان لخضوعي اليوم جبرا لابتسامة هوليود.
وقتما يشرق العيد بضوئه، ننفلت كأطفال وصبية، كل منا إلى لداته من أسنانه، فنتجمع ونبدأ في الذهاب للمعايدة لكل واحد منا، وكم كانت فرحتنا عندما تنفحنا سيدة البيت في الأسر الموسرة كيسا به عملة معدنية كبيرة مكتوب عليها أربعة قروش، متضمنة حلاوة الفواكه السالفة الذكر، وأتذكر عشقي لصنف الليمون بسبب رائحته وطعمه المميز. أي سعادة تتغشانا!! وأي فرح يتخللنا!! نخرج ونحن نهزج بشكر تلك السيدة أو الأب الكريم، فيما يتفاخر ابن الأسرة بيننا على العيدية القيمة التي مُنحناها.
كانت أبواب البيوت مفتوحة من الصباح، وليست كما حالنا اليوم مغلقة إلى بعد صلاة العشاء بسبب كبسة النوم الثقيلة التي تذهب بجميع العائلة، وربما في تلكم الأزمنة التي أتحدث؛ يأتي الجار لبيت جاره ولا يجده، فيدخل ويأخذ حلاوة العيد، ثم يخرج، والبعض يضع ورقة للأسماء التي حضرت في غيابه، كي يرد المعايدة. كانت نفوس أولئك القوم بسيطة ونقية، يا لها من ثقافة للحارة فرضت تلك البساطة، وتلك الشهامة والفزعة بين الجيران، قبل أن تأتي الطفرة الأولى في الثمانينات الميلادية وتعصف بها!!
بعد أن ننهي المعايدات السريعة، ننتحي نحن الفتية والأطفال ركنا من الحارة، نتحلق ونتوزع المشاهد التي ستأتي ونلتقي بعد الظهر، لنحكي لبعضنا ما شاهدناه، فالخيارات كانت عديدة ومتاحة أمامنا، وليس بمقدور أحد بمفرده أن يلمّ بها كلها. وكنت أصرّ وأحرص من صغري على أن أتبع الجالية اليمانية في الطائف، وهم يهزجون بتلك الفلكلورات الشعبية البديعة ويخترقون حارات الطائف حارةً حارةً، في صخب ورقص ومزامير لا تتوقف عن الزعيق. وكنت أتلقاهم من حارة الشرقية بأهازيجهم وطبولهم، ليمروا عبر حارتنا (البخارية) في تظاهرة صاخبة وغناء جماعي وصفيق متناغم. وينتهي أخوتنا هؤلاء إلى (المسيال) بوادي وج، فيبدأ أحبتنا لعبتهم الشهيرة (الغزالة) فضلا عن ألعابهم ( الكـَبَت أوالمُطارحة) وننتشي بمنظر الدماء والضحك والتشجيع الحار جراء تلك اللعبة العنيفة التي تلقى جماهيرية كبيرة، عبر أجواء عيد حقيقية .
تلتقي معظم الجاليات في مسيال وادي وج، فترى أبناء القبائل بأكمامهم الطويلة يعرضون (المجرور) وقد اصطفوا يلعبون، وكم كانت نشوتنا ونحن نصطف معهم ونقلد ما يفعلون بتشجيع من كبارهم في جو لعب ماتع. في الوقت الذي كانت تنتظرنا بذات الوادي (المداريه) الأرجوحات العملاقة التي يتفنن البناءون اليمانيون بتشييدها، وما زلت أعاني اليوم من فوبيا الألعاب العالية بعدما تهورت في إحدى المرات في تحدّ مع شقيقي عبد الحفيظ (مدير النادي العلمي السعودي) لمن يصل (المدّاد) أقصى نقطة ارتفاع للأرجوحة العملاقة، وركبتها بسذاجتي ولم أدر أنني ركبت الموت، فيما القوم يتضاحكون من رعبي وصراخي.
كان معظم لداتي ينتظرون بتوق جارف (مشكلجية) الحارة (زعران برواية شامية، يابات برواية مكاوية) كي ينضموا إلى مسيرتهم المتجهة إلى (المسيال)، وجرت العادة أن يتزعم هؤلاء الزعران في كل حارة مسيرة استعراض شبه عسكرية، فترى حارة (أسفل) وحارة (فوق) القريبتين من باب الريع، يمرون عبر الحواري الشعبية ومعهم (طِيراناتهم) يضربون بها، وتلك العصي الطويلة المزيّنة يلوّحون ويختالون بها، وهم يهزجون في دعوة للمبارزة ( دخلنا الحارة وما فيها ..اللي فيها ما يحميها) فيما يأتي آخرون بنفس الهيئة من حارات (الحُفر) و(الشهداء) و(اليمانية) و(الشرقية) و(جبل البازم) وأكاد أحفظ أسماء كل (يابات) الحواري، لربما يأتي اسم أحمد سليم وصالح كليب وعبدالرحمن بهلوان وحسني حدايدي وعمر عامر وسلطان الغالبي كالأبرز في ذلك الجيل، فيما يسطع اسم ابراهيم كشميري كأحذق يابة في لعبة المزمار، بالوقت الذي كانت أخيلتنا الصغيرة تنسج بطولاتهم الأسطورية.
تتجمع تلك المجموعات الممثلة لأبرز الحارات الشعبية إلى جانب (المحرقة) في المسيال أو في (برحة العباس) بجانب المسجد الأثري الشهير ابن عباس، وتبدأ المبارزة بينها عبر لعبة (المزمار) ليسربل الحماس الأجواء، وترتفع حدة المنافسة، وتعلو عقائر شباب كل حارة بأهازيجهم الخاصة: (العبد سعيد..شلّ عليّ السكينة) أو(حمزة كردي ضربني كفّ) و(مريسة..سكر ما فوقه). وغالبا ما ينقلب منحنى التنافس الشريف، وتبدأ الهجائيات بأفحش القول في جو لاهب صاخب، ويستطيل الحماس تلقائيا لينتهي الأمر إلى مبارزة بالعصي (المشاعيب الشهيرة) بين أحذق (ياباتين)، ما يلبث أن تعم الفوضى ويشتبك شباب الحارتين في معركة طويلة، تبدأ بالمشاعيب وتمر بالمدي والمطويات الحادة، وتنتهي بالخناجر المعقوقة، ونحن نستمتع بتلك المصارعة الحقيقية أيما استمتاع، وتلهبنا مناظر الدماء التي تشخب من المتبارزين، وقد احمرّت ثيابهم البيضاء في منظر هوليودي، وينفض الاشتباك بعد أن ينهك الجميع، أو (تطبق) الدوريات وأفراد الشرطة لتفرقهم، فيما نتجه نحن إلى (دكات) الحارة نلوك تفاصيل المعركة بكثير من الأسطرة وأخيلة الأطفال، ونحن في قمة النشوة والتأثر.
عندما يأتي العصر، ننطلق كمجموعة واحدة، صبية وبنات الحارة، إلى المتنزه الوحيد الارستقراطي في ذلك الوقت، وهي (حدائق نجمة) لنشرب كأس عصير أو نأخذ دورة يتيمة في المراجيح الحديدية الحديثة بما جمعناه من (عيدياتنا) المتواضعة، وأتذكر أن بعضنا كان يتشارك الكأس الواحدة لعدم مقدرته على الدفع، بيد أن صفاء الطفولة والفرح الحقيقي كانا يغمراننا بلحظات عيد لا تنسى.
ربما كان أبرز ملمح أودّ تثبيته هنا؛ ذلك التعايش الأخّاذ بين تلك الجاليات التي انصهرت في بوتقة وتسامح الوطن، فلم تك تشتم أية روح عنصرية نتنة، فالنفوس كانت صافية إلى أبعد مدى.
يا لها من أيام عيد حقيقة يجرفنا إليها الشوق. ولكن هيهات فقد ذهبت ومعها أحلامنا الصغيرة إذ ذاك.