مريم حاجي : عندما أخرجُ من جدارية سأدخل بكُلّي في جدارية أخرى

0

كتب/محيي الدين ملك
عند أفق الانتظار:
هي الفنانة (مريم حاجي)، التي ترسم بحريّة رموزها الواقعية والإنسانية المحْضة في مجال الخيال الأكثر أهمية من المعرفة.. يطوف ليطوِّق العالم، في مشهد يبدو المضمون أشدّ بلاغة من الشكل. ومما لا شك فيه أنَّ إنتاج الرمز يعود إلى الخيال. فهو القوة التي تذيب المادة لخلقها من جديد، كما يقول الفيلسوف (كولردج). بهذه الخطى والسير تستدعي الفنانة (مريم) رموزها – في أشدِّ كثافتها – وترسمها بالطريقة التي تحلو لها. تقول الجدارية أنّ فيها ما فيها من حياة تنبض، وجمال يفيض، وكلها انعكاس لتصورات في الحياة والجمال وسر هذه الجدارية، فقط، عندما تخرج الفنانة من هذه وستعبّر أخرى، كاللون. وربما، حين تستوقفك مثل هذه الجداريات، لن تقول: الله، كم من الجمال فيها! بل، قل: الله، كم من الجمال في الفن والإنسان.هكذا، لا تندّ هذه المقاربات، إذا تستضيف جانبًا من تجربة الفنانة (حاجي) التي تتسم معالجتها لمعنى الوجود من – حيث انتمائها إلى مجال علم الجمال والأسلوبية والمهارة من جهة وفلسفة الحياة بحمولتها من جهة أخرى – بجمالية فريدة وبالغموض والطرافة في ذات الوقت، وأدلُّ على ذلك من خلال جدارية ( الفوز) المليئة بتصور الفنانة الجمالي والفني لجملة من عناصر حياتية في غاية الحساسية من ناحية الأصل والتطبيق. وعندي، ماتزال، هذه الجدارية محلَّ جدل وقراءة حتى لحظة الانتهاء من الكتابة.
وانطلاقًا من جدلية الغموض وجدّية الوضوح في منحاه الواقعي، اتّجهَ التأمل، وتَوجَّهَ البحث في المعنى المضمر – المتواري في هذه الجدارية بالذات، لأنها تعكس بشكل لا يقبل الشكّ الوجه الآخر للمرأة في معترك الفن والاجتماع، وقضايا تخص الإنسان. تمامًا، كالمرايا العاكسة.
أيضًا، رسمت اللوحة الجدارية بالفحم، وما أدراكم ما الفحم؟ تتأمل.. فترى الأشكال الجامدة تنحلُّ على هواه مرة، لتتحول إلى أشكال طبيعية، مرات ومرات. هو الفحم، أو قل: أقلام الأثمد – كحل العين، الأقرب إلى فعل ذلك: ذوبان الأبيض في الأسود، والأسود في الأبيض لاكتشاف المنطقة المتوارية بين المنطقتين. لونٌ يرقص في العتمة، لا بد أن يجعل العتمة نورًا.أما الرسوم التخطيطية / أو ما تُسمى بالبدايات أو المُفتتحات، فليس لها إلا لإظهار الأشكال وتحديدها، وإعطاء الأشكال جوهرًا وحوافًا. فلكي يرى المرء ويشعر بالأشكال، فإنه يُعَيِّن خطوطها في الذهن ويرسم خرائطها على المساحة. ولذلك، قيل أنّ ( مايكل أنجلو)، “دعا الرسم التخطيطي أساس المعرفة كلها، مهما كانت”، وأساس ذكرى الإنسان. والمعرفة جمال، و”الجمال وعدٌ بالسعادة” – كما يقال. هو الوحيد القادر على استعادة تلك الذكرى، بالتخطيط والخريطة.وأيضًا، تخيلت جدارية كبيرة – وهي فعلاً كذلك – وقد ألقت عليها / وفيها الفنانة جزءًا ليس بالهيِّن من الحب. هذه الثيمة التي تستحق العناء من أجلها، ومن أجل والفوز بها. جدارية / أو مساحة توشك أن تُعَبِّر عن أصول العلاقة التي تجمع بين المرأة التي رضعت الحقيقة وبين الحياة التي تستحق.. عن فصولٍ من عمرٍ وذاكرةٍ وجذورٍ.. بلغة النقاط والخطوط.. الكتل والفراغات.. بالمسافة التي تجمع البياض بالسواد، وهي تريد أن تُحَوِّلَ لتتحول.. أو تُجَسِّدَ لتتجسد ما لم تستطع فنون أخرى فعلها. فقط، ليستمر الحلم إلى أمد طويل. حلم “بعالم دون حروب، وبأمٍ دون عويل، بسماء دون عيوب”، بأرض بلا جراحات، وبخيول تصهل كالريح في العراء.صهيل وصوت وصرخة بصبر، تعود بنا إلى الخلف. إلى أنقاض الأزل: قيل أنّها رسومات إنسان الكهوف، وتحمل في سرّها بوح الإنسان الأول. وها هي الفنانة تقود خطوطها من السواد إلى البياض، لعل ثمّة معنى بالفعل يُضاف إلى سر أكثر الناس حبًا وحياةً: سر الإنسان في الفوز بالحياة.
بإيجاز، جدارية تسبر أغوار الماضي والمخبوء في الحاضر. رُسمت بقلب يفيض.. وعقل يُهندِس الأشياء، في حركة لا تهدأ من الحياة إلى الحرب وحتى الحب. ثلاث حاءات في حركة تجمع المادة بالروح، الأبيض بالأسود، مسافة النور بالعتمة، السكون بالسير، الصمت بالصرخة، وكأنها تقول: هذه هي الحياة، فناً، وهناك الفوز، جمالاً.

في رمزية المرأة
قيل: “حتى أقوى المخيلات تعجز أحيانًا عن اختراق كُنْه الرائعة الفنية. فالصورة الشخصية العظيمة، مثلاً لن تكشف عن نفسها إلا لإنسان يفهم رفاقه وأترابه. وقد قال مارك توين أنّه يتمتع، بوجه خاص، بلقاء أشخاص في الروايات، كان قد لقيها من قبل على نهر المسيسبي”. هذه العبارة، تنبهنا، بمتعة تناصية، إلى الشخصية الواحدة والوحيدة التي تقع في مركز اللوحة – الجدارية، تبدو معادلاً للحياة. تقود الخيل والبيداء والسماء، بل تريد أن تقبض على القوة والعنفوان والحرية، وأن توجه السرعة إلى حيث يكون “الفوز”. هي كفنانة، تسكن الصفات والصفات تسكنها، لتتمكّن من الإمساك بكُلِّية الحياة ما استطاع فنّها إلى ذلك سبيلاً. ولعلًها عندما تقف أحيانًا عن الرسم لا تدري هل هي التي رسمت اللوحة أم اللوحة رسمتها. فتناولها لعناصر القوة والعنفوان والحماس والصبر، عدا المثاقفة العالمية في الفن وشعرية الرسم والتصوير. وتناولها المرأة كرمزٍ أو أيقونة في اللوحة. كلها أدوات وخيارات جديدة بطريقة الخطوط والدرجات التي تراكمت من الأبيض والأسود، وأنّها في وحدة مع الطبيعة والكائنات الأكثر انسجامًا مع هدفها. والمُشاهِد لن يرى اعتباطية في الشكل والمضمون، بل إنَّ المضمون يأخذ كثيرًا من الروح العارفة، والشكل قد تشكَّل من ظاهريات الواقع.

من جهة أخرى، تنحو رمزية المرأة نحو مستويين من القراءة: العلاقة بالمرأة الخليجية والعربية والعالمية، وتجلّياتها التي تُبرز الصورة الحقيقية للمرأة في عالم الخيال الحق، وكلها يكثف دلالة المرأة لتخرجها من نطاق جسدها بجعلها رمزًا للحياة، وعنصرًا إيحائيًا يمثل ذاته بقدر ما يرمز إلى أشياء أخرى. ليس الرمز بالشكل التقليدي من الواقع، وإنّما الأخذ منه، ثم تجاوزه وتكثيفه ليتخلص من وهم الواقع ويرتفع إلى مجال التجريد من الواقع، والتجويد، جمالاً. هنا، استطاعت الفنانة أن تربط المرأة بالحياة بكل التجليات التي تسكنها.. وكأنّها عقدت اتفاقًا بين الصفات المذكورة وبين التي تحلم بها، فتتلبّس هذه بتلك، وتتوحد فيها المرأة في هذا الجو. امرأة شاهقة وشامخة، عريقة وعميقة، وكأنّها تريد أن تشم رائحة الحرية المنبعثة من الروح.في الحرية والسرعة والصبر تتساوى الكائنات. مساواة وثيقة بين الشخصية – المرأة (هي)، وبين الكائن الذي يقودها، من حيث العناد والصبر، وبين الكائنات التي تقودها هي، أي قيادة القوة وتوجيه السرعة إلى غاية تريدها. إلى درجة إصرار الفنانة على توضيحها وعنايتها بهذه الصفات من خلال صراع الأبيض والأسود في المساحة الكبيرة. فالفنان “بقدر ما ينظم الفضاء ينظمه الفضاء، اختراق متبادل، تفاعل يدخله المرء عبر سيرورة تجربته في الوجود وعبر اضطراد تشكل تصوراته وخبراته وتشييد معرفته. وتختصر “حياة” النساء جميعًا في ذاتها. لذا، لون الحرية والحياة واحدٌ بين النساء والناس من جهة، وبين الكائنات من جهة أخرى.

إذًا، تتسع رمزية المرأة، هنا، لتشمل الحياة كلها. امرأة تقود نفسها والكائنات إلى الفوز. قيل: “قد يكتب الرجل عن الحب كتابًا.. ومع ذلك لا يستطيع أن يعبر عنه، ولكن كلمة عن الحب من المرأة تكفي لذلك كله”. هذا الأمر تحقق في لوحة “الفوز”. تقول الفنانة “مريم”: “أنا أركب حمارًا وتتدافع الخيول العربية، إنه بياني الداخلي من خلال عينيّ في لحظة تكون فيها ثقافتي من حولي وثقافتي الشخصية من أمامي، يعود الأمر للمشاهد لأنه شخصي للغاية بحيث يمكن للمشاهد أن يقول ما يريد، لكنه مُلكي”.
بيان في القدْر والقدرة على المشقة:
في هذا البيان الداخلي، كان للحمار الدور المحوري في أرجاء وأجواء الجدارية: صديق السفر، وشريك العمل. صاحب السر، ورفيق الحال والترحال في هذه الحياة. ولا تقبل الفنانة قيادة السيارة في البرية، لأنها تحجب عن قدمها الأرض. فقط ( الحمار) لأنّه صبور. وتبدأ الفنانة مغامرتها وهي تمتطي حمارها في اللوحة، ليكون بطلها الرئيس، وعنوان البيان. برزت قيمته في الطليعة، لأنه كائن عنيد، ويتحلّى بالصبر.. هو جزءٌ لا يتجزأ منها في حربها وسلمها، وحبها وحياتها، وحلِّها وترحالها. وهو الذي يذكرنا بحمار (سانشو) في رواية (دون كيخوته) لـ ( سرفانتس ). قال سانشو: “لم يخلق العسل لفم الحمار”. كان ثرفانتيس على دراية بأهمية الحمار، فكان حاضرًا وبقوة في مغامرات.. كما أنّ حضور الحمار في جدارية ( مريم ) يذكرنا برواية “المسيح يُصلب من جديد”، حيث كان للحمار دور جديد كصاحب سر، ورفيق عيش، والصديق الوفي. كان صاحبه يصارحه بمشاعره، ويعلن له حبه، ويشاركه أسراره. إنه يذكرنا بقول شاعر وهو يخاطب حماره:

حتي أتتني جارتي يومًا ومن غير اهتمام  قالت صديقك مخلص يهواك يصبو للوئام

أنت الوحيد من الوري يهواه يحنّو لانسجام  جرح الأحبة يا حماري فاق ضربا بالحسام.صهيل الخيل والفوز أخيرًا:
هو أحد أكثر الكائنات رمزية عبر تاريخ البشرية: رمز القوة والمقاومة والتمرد والإخلاص والوفاء والجمال والسحر والإلهام في عالم الخيال. وناقلٌ للمعرفة في صورة شخص أو شعار. وأخيرًا، طول العمر والانتصار. بهذه السمات رسمت الفنانة هذا الكائن المهيب في تمثيله عن الحرية. يُنظر إلى الشخص الذي يقود الخيل في اللوحة على أنّه حر، وتصويرٌ على أنّه المثل الأعلى للانتصار، والتعبير الأوضح عن الفوز بأعلى درجاته.

إقفال القراءة:
ملكها، لأنها قبل أن تضع أقلامها على المساحة البيضاء ترى ما في داخلها بشكل جليٍّ، وترى الأتان وهي ممتطية على ظهره، وخلفها عدد لا يحصى من الخيل. “إنّ فيها ما في المعادلات الرياضية من حقيقة واقتصاد وتوازن. وهي أيضًا تضج بالمشاعر”. لم تضع لرؤاها مجرد تخطيط جامد تبرز فيه مهاراتها في الرسم، بل كانت تنبه قلبها وعقلها، وتشجع يدها على مراقصتها وتجميلها. والواقع أنَّ رقص يدها من الجمال والحماس والحركة بحيث تختفي يدها. لذلك، مهما حاول المشاهد أنْ يلاحق الثنيات الناتجة عن الراية التي تحملها، والقفزات والسقطات الحاصلة بفعل الخيول، والالتواءات والحركة التي تنبعث من خطوط الفنانة مريم، فإنه يرى، عوضًا عنها، رؤيا، وهنا تكمن فنية المرأة وجمالياتها. لقد كانت ترسم بنورها هي، ولهذا فإن الرسم قبل التصوير رقصة في الظلام.في هذه الجدارية، أشياء كثيرة تُرى، وأشياء كثيرة وكثيرة لا ترى. إنَّها القوة الكامنة بين ثنائية الخيال والواقع، والتي تتحول إلى جمال، ورائعة فنية. فقط، تحت أنقاض الواقع، وحيث يكمن الجوهر، أما الخيال فيتغلغل عميقًا، بحثًا عن الجوهر.
عن الخط غير المستقيم وهو يؤدي إلى شعرية الوعي الجمالي. عن جدارية “الفوز” وارتحالات أخرى، وكثيرة، أكتب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*