فرادة الهوية بين التجريد وإلهام الفن الشعبي…أنكيت أجاروال

0

كتبت/ سمر العربى
“يجب أن نتذكر أنَّ اللوحة قبل أنْ تكون حصانًا حربيًا أو امرأة عارية أو حكاية من نوع ما، هي أساسًا عبارة عن سطح مستوٍ مغطى بألوان بترتيب معين”

موريس دينيس

للوهلة الأولى يبدو العالم الآتي منه الفنان الهندي (أنكيت أجاروال) قطيع الصلة بعوالم المساحات اللونية الوسيعة والمتباينة تباينًا لانهائيًا من خلال استخدام الأشكال الهندسية المختلفة ونقاط الضوء والخطوط والألوان المختلط منها والنقي، فكيف يصبح هو -أي أجاروال- الآتي من عالم الشركات والاقتصاد والأموال الصرفة وصولا لكونه نائب مدير الشؤون المالية في أحدى كبرى شركات الإنشاءات، فنانًا تشيكيليًا يطور بنفسه ولنفسه علاقة فريدة باللون خائضًا تجربة فنية طامحة إلى الوصول لما هو جمالي محض.

كلمة واحدة تلخص الإجابة لتلك المفارقة هي (الشغف) لأنَّه الطاقة التي تبقينا مستمرين ومليئين بالمعنى والسعادة والإثارة والترقب، هو القوة الجبارة في تجربة العمل والحياة كما يقول (أجاروال) في تقديمة رشيقة عن نفسه.

مسيرة (أنكيت أجاروال) الفنية هي مسيرة غضة محملة بديناميكية العلاقات القائمة في تجربته الحسية/الواقعية، هو يتجه في لوحاته نحو العناصر المتضادة والمؤتلفة في ذات الوقت كي يتعرف على حقيقة الشىء/ الموضوع ناسجًا علاقات تشكيلية بديعة ترتفع بشذرات التفاصيل المعاشة إلى مستوى الوحدة خالقًا مع الواقع مسافة دونما نفي لهذا الواقع لكنها تلك المسافة التي توسع مجال الرؤية فترى التفصيلة في الكل وتدرك الكل في التفاصيل.

للولوج إلى عوالم (أنكيت) علينا التمهل، فلوحاته ورغم ما تحمله من لمحات تجريدية تسحبنا مليًا نحو لعبة فنية معقدة شديدة التكثيف، فمن ناحية فإنَّ صوره مازالت تحتفظ بماهية الشكل الأصلي ومن ناحية أخرى فإنَّ المجاز يسيطر على عملية التلقي في جدلية توفر مجموعة واسعة من احتمالات تقود كلها باتجاه المرسل/المبدع في تعدد تجلياته .

في لوحاته يطور (أنكيت أجاروال) أسلوبًا يستخدم أشكالا غربية من الـتأليف ولكنه مخلوط بإلهام من الفن الشعبي الهندي مستخدمًا كل من الواقعية والتجريدية في أعماله باعثًا شعور لا تشوبه شائبة من التوازن والانسجام.

تتكدس في لوحات (أنكيت) ملامح التراث الهندي بفرادتها المعهودة فنجد الشخصيات مرسومة مع الوجه الأمامي، العيون واسعة، الأنف المدبب، النساء ذوات شعر طويل، والرجال يرتدون العمائم، أمَّا في الألوان فتهيمن البنيات على ألوان البشرة، كما تحيلينا  سطوة اللون الأزرق في لوحاته إلى الرب كريشنا الشهير، مفردات تقدم المفاهيم الهندية التقليدية داخل بنى حداثية محدثة إحساسًا قويًا بالتصميم الأنيق واهتمام بالتفاصيل يؤجج اللوحات بألق فريد من نوعه تخلقها العناصر الهندسية والعشوائية التي تتشابك فيها الخطوط بالمساحات اللونية القوية.

في جانب آخر من اللوحات نستطيع أنْ نضع أيدينا على خطط لونية وهندسية تشكل موضوعا للتجريد وتحمل دلالات داخلية لا مرئية في لحظة تحرر من محاكاة الواقع المرئي، لتخط واقعها الخاص بها الذي يراوغ الواقع الخارجي ويحاوره مستنطقًا جوانب الحسي والروحي المنتجة داخل مخيلة الفنان المبدع.

في البنى التشكيلية لأنكيت هناك تدفق كبير للمشاعر إلا أنَّه تدفق هاديء وقور تشكله شدة ألوانه وأشكاله مع ضربات فرشاته الواثقة والقوية بطريقة تحفز جميع الحواس كي تتفاعل وبخاصة العين والعقل اللذان تتيقظ فيهما الأحاسيس المرتبطة بمستوى جمالي يتجاوز العتبات الأولى للشعور وصولا إلى مستويات الإحساس الباطني اللاشعوري.

تفيض لوحات (أنكيت) بالاستعارات الباطنية على قدر ما تفيض به من مشاعر تستئنس ما وراء الواقعي وتنادي بضرورة الاستجابة للحاجيات الداخلية اللامرئية من خلال استخدام العناصر الفنية التشكيلية وبخاصة الألوان بمهارة تعبيرية فائقة زاوجت بين المتناقضات الداخلي والخارجي، المرئي واللامرئي، الواقعي والخيالي، الحداثي والتراثي، كلها ثنائيات نثرها الفنان الهندي بامتداد مساحاته التشكيلية بحيوية وتلقائية تعبيرية عميقة.

تحضر في لوحات (أنكيت) عناصر تشكيلية تشخيصية واضحة تخلق نوعًا من التجريد المرتبط بالفنان وحده بحيث تحضر الألوان في لوحاته متزاوجة فيما بينها لتولد إيقاعًا موسيقيًا تكاد الأذن تسمعه بنفس قوة رؤية العين له كما تتفاوت أحجام الخطوط بين تدرجات الألوان لتجعل في اللوحة مركز ثقل في القلب ومنها أيضًا تنطلق الظلال والأضواء.

عن الفن الذي يعشقه يقول (أنكيت): أنَّ الفن هو أحد أنقى عناصر السعادة البشرية فهو يدرب العقل من خلال العين ويدرب العين من خلال العقل” ويأمل أنْ يصبح من الفنانين الذين يتركون أثرًا واضحًا في مجتمعهم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*