محيي الدين ملك : على (طاولة البلياردو) – من الأخضر إلى الآخر

1

كتب / محيي الدين ملك

الحديث عن الألوان دون غيرها.. هو حديث في كل شيء، ولكل شيء. حتى لكأن الواحد يستشعر أن في الألوان حياة كاملة، فيقضي حياته متلهفًا وباحثًا عن خواصها، وألغازها.

ولهذا، فقد قيل الكثير عن الألوان، من قبيل: “هي شكل الأشياء، ولغة الضوء والظلمات. وأن اللون هو المكان حيث يتلاقى عقلنا والكون. والأسلوب للكاتب كاللون للمصور يشكّل مُعضلة ليست تقنية وحسب، إنما رؤيوية. وهو ببساطة، كحرف العِلَّة الذي يمثل العنصر الزائل للكلمة، في حين أن الحرف الصوتي يمثله الرسم..”.

ولكن، هل الكلمات الواردة هنا تجد نفسها في حياة أخضرٍ بعيدٍ، وكذلك في لونٍ رمزيٍ جاء من ذكرى، وكذلك.. كذلك من أخضر في ليلة، أو نفسه في نهار، وبينهما، يتقاسم المرء هزائمه في ذاكرة مُقسَّمة؟!

قال فان غوخ: “أنا واللون واحد”، وعليه، فإن “الكلمات نفسها تبدو كديدان صغيرة ملونة مصفّفة بمقدورها الاختراق والاحتراق ومن ثم التحول بأجنحة غنية بالألوان.. فالكلمات جميعها كالألوان تقبع جيدًا في الأخضر العميق اللامتناهي بدرجاته الذي ينتجها، أو في الأخضر الآخر العميق الذي يُغطّي ولا يُغطّى.

تقول الأسطورة، أن طفلاً قابل ساحرة. وسألها إن كان بمقدورها أن تحقق رغبة له. أجابته: نعم، بشرطٍ واحدٍ، عليك ألا تفكر مطلقًا في اللون الأخضر المائي. أجاب الطفل: “هذا فقط؟!”، وقد شعر بسعادة غامرة. أضافت الساحرة قبل أن تختفي: نعم، هذا فقط. بيد أن شيئًا غريبًا ما لبث أن وقع. فقد حاول الطفل نسيان اللون، لكنه لم يستطع. وقد مرَّ وقت، لم يقتصر الأمر خلاله على عدم تحقيق رغباته وحسب، بل أصبحت الحياة لا تُطاق. وما إن كَبُرَ الطفل، وبدا أنه طاف العالم بائسًا يائسًا، حتى بات مؤمنًا بأنه وقع ضحية لعنة حلَّت عليه.

في حكاية أخرى، كتب فان غوخ رسالة لأخيه، يُحدِّثه فيها عن الآلام الإنسانية الرهيبة.. فتحول لونه الأخضر، في لوحته “طاولة البلياردو” إلى وحش وقع في براثن أحمرٍ. وكان الأخضر يتألم.

في لحظة وعيٍ تامٍ بحالة “التنافر المعرفي”، تظهر الآمال في الآلام. الإنسانية في اللاإنسانية. والرغبة في محرقة الرهبة تلك التي كان الفنان يعتقد أنها اندثرت وذهبت مع الأيام، فإذا، هذا الظهور نفسه يكون صادمًا، والصدمة نفسها مفاجَأة ومفاجِئًا، ولا مجال للهرب، عليه أن يرسم. حتى ليبدو أن الأخضر مأسورٌ ومستحوذ عليه بفعل الآلام الرهيبة التي سممت فان غوخ من الداخل، وفي اللحظة التي كان يحمل بالأخضر من خارج جسده، وبعيدًا عن لوحته.

لقد كان الخيال النبيل لفان غوخ يَعي الممكن في / ومن الأخضر الحيّ، وكان هذا التدفق كافيًا كي يجعله في موقف المتفرج من طاولة البلياردو، باللون الأخضر، وكأنه يقول: لا يهمني وهْم الربح ورعب الخسارة.. موقفي هو انفعالٌ جماليٌّ خالصٌ.. وجدانيٌّ خالص.

كان يعلم أن الأخضر – قبل أي شي – هو المسافة الممتددة بين الحب والحياة.. ولكن حين تضيق الحياة (به / وبه) يتحول إلى لعنة. يقول: لقد حاولت أن أعبِّر عن شهوات البشر الفظيعة. عن طريق الأحمر والأخضر. الغرفة أحمر دامٍ، والجدران أصفر باهت، وطاولة البلياردو خضراء في المنتصف، وأربعة مصابيح أصفرٌ ليمونيٌّ، وتوهجٌ برتقاليٌّ أخضرٌ. تناقضات وتشابكات لونية في كل مكان، من درجات الأخضر والأحمر المختلفة، يتعارض الأحمرار الدّموي والأخضرار المُصفَر مع الإخضرار الرقيق للمنضدة التي تستقر فوقها باقة زهورٍ ورديةٍ.

فان غوخ لم يكن مخطئًا. لم يضع باقة الزهور على طاولة البلياردو، بل هناك. ثم. ومن ثم، ترك قبلة على الزهور.. على الأخضر الشفاف، ومضى.. وإلى الأبد.

لقد تجاوز الجمال، عنده، حدَّ اللعنة.

اللعنة عليَّ! هذه كانت كلمات الساحرة الأخيرة.

ولكن، لم ينتبه، لتلك، أحدٌ، سواه

 

تعليق 1
  1. محمد حسيني يقول

    رائع و جميل، اسلوب الكاتب ينم عن خبرة و تعمق في الفن و التعبير و الرسم و ثقافة واسعة في المواضيع المذكورة.
    ثابر و استمر في العطاء ما دمت ذاخراً بكل هذه الجواهر
    مع المودة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*