كتب / غازى أنعيم
من بين الفنانين الكبار الذين سبقوا عصرهم، وتخطوا الأعراف والتقاليد الموروثة في الرسم الذي ساد لوحات معظم مصوري عصره الفنان الهولندي ” جان فيرمير “، وقد حمل هذا الاسم أكثر من فنان في أيامه، وربما كان هذا التشابه من أسباب الغموض الذي اكتنف سيرة حياة هذا الفنان. وكل ما نعرفه من معلومات مؤكدة عنه، هـو انه من مواليد ” ديلـفت ” في أكتوبـر ( 1632 م ).
والده كان خياطاً وصاحب فندق، ومن هواياته، اقتناء التحف ومصادقة الفنانين، أما جده، فقد كان من كبار مزخرفي العملات.. وفي هذا الجو الذي يعشق الفنون، انتسب ” فيرمير ” إلى رابطة رسامي ( سانت ـ لوك )، وأمضى ست سنوات في تعلم الرسم، بعد ذلك توفى والده في عام ( 1651 م )، وعقب وفاته بعام، أصبح ” فيرمير ” عضوًا في نقابة الفنانين ثم رئيسًا لها.
وفي عام 1652 م، تزوج ” فيرمير ” من ” كاترينا بولنس ” سليلة إحدى أسر ( ديلفت ) العريقة والغنية، وأنجبت له عشرة أطفال، وضمن هذا الجو الصاخب والممتلئ بالحركة، كان ” فيرمير ” يرسم ببطء وبتأني، وهذا ما يفسر قلة اللوحات التي رسمها طوال حياته، والتي تتراوح ما بين ( 24 ـ 60 ) لوحة، منها ( 35 ) لوحة معروفة وموثقة حسب الأصول، وهناك من يقول أن اللوحات التي رسمها لا تتجاوز ألـ (40 ) لوحة، وهذا يعني أن نتاجه لم يتجاوز اللوحتين في العام الواحد.
إن جميع اللوحات التي أنتجها كانت صغيرة الحجم، لكنها كبيرة بما هي زاخرة به من مواضيع، فهي تنبض بالحياة من خلال عناصره وألوانه، وتتدفق بالحركة، الموزونة الهادئة، وتشع بالنور، فلا عنف، ولا سفه، وأغلبها تمثل ( الحياة اليومية العادية في هولندا )، وبشكل خاص ( الشمال الهولندي ) الهادي، فيه إما فتاة تطرز، أو تقرأ رسالة، أو تعزف على آلة موسيقية، أو تنظر من نافذة.. وهذه الفتاة التي تناولها ” فيرمير ” على مسطحات لوحاته، قد تكون زوجته أو ابنته، أو إحدى قريباته أو خادمته إن لم تكن إحدى جاراته.
لم يكن شيء يعني ” فيرمير ” سوى أن يظهر أجواء بيوت الناس وسعادتهم المنزلية وربما كان هنا مكمن سحره الذي عبّر عنه بكل حب وحياء. لذلك كان ” فيرمير ” يعرف ماذا يريد، ويعرف ماذا يرسم، وكيف يختار الموضوع، ويجسده فوق مسطح لوحاته بإتباعه طريقة متقدمة ورائدة في الرسم حينذاك، حيث كان يتبع في ضربات ريشته اللمسات العريضة، ولم تكن هذه الطريقة معروفة في زمنه، والظاهر أن السبب في إهمال هذا الفنان من قبل معاصريه يعود لإتباعه تلك الطريقة التي كانت مبكرة على فهم معاصريه.
وقد عبّر عن هذا الموقف الذي يدعو للسخرية أحد كبار النبلاء حينذاك وهو ” دي مونكيز “، الذي قال في عام ( 1663 م ): ” قابلت فيرمير في بلدته ( ديلفت )، ورأيت لوحة له في منزل أحد الخبّازين، اشتراها بمبلغ ( 600 ) فلورن، وفي نظري أن ستة بستولات كثيرة عليها “! والبستول عملة أسبانية صغيرة لم تكن تساوي شيئًا في ذلك الوقت. واللوحة التي تحدث عنها ” مونكيز ” هي لوحة ( خادمة تصب الحليب ).
فى عام ( 1672 م ) قامت جيوش ” لويس الرابع عشر “، بغزو هولندا، وقد كان هذا العام ماساويًا بالنسبة لشعب هولندا ولفيرمير، فقد حل الدمار بهم، ولم يعد عندهم ما يبيعونه، حتى لوحات فيرمير لم تجد من يشتريها، فساءت أحوال ” فيرمير ” الاقتصادية، وأصبحت ظروف حياته صعبة وعسيرة وشاقة، ولم يعد لديه أي مورد رزق، وتراكمت عليه الديون، فأصيب بالانهيار، إلى درجة أنه فارق الحياة بعد يوم ونصف في كانون الأول/ ديسمبر ( 1675 م )، عن عمر يناهز ( 43 ) عامًا. وعقب موته، حصل الخباز على لوحتين من لوحات فيرمير مقابل الديون وهما: ( السيدة والخادمة ) و ( امرأة تعزف على قيثارة )، وكل منها تساوى اليوم أكثر من ( 100 ) مليون دولار.
لقد كافح هذا الفنان في سبيل لقمة العيش ومقومات الحياة كفاحًا مريرًا، ولم نعرف سببًا لفاقته وعوزه، اللهم إلا تعففه عن الطلب، وزهده بما في أيدي الناس، ومع هذا فإن العوز والفقر لم يقفا حجر عثرة في سبيل غاياته الفنية.
بعد موته أسدل الستار عليه وعلى آثاره ورسومه النسيان زمنًا طويلا، قارب ألمائتي عام، ولم يتحدث عن قيمتها وأهميتها أي من النقاد والمؤرخين القدامى، حتى قال بعضهم عنه:إنه لم يكن شيئًا يهم الفن إطلاقا، إلى أن اكتشفت الحقيقة على يد الفنان البريطاني ” السير رينولد “، أول رئيس للأكاديمية البريطانية، عندما زار هولندا في أواسط القرن الثامن عشر، فسنحت له فرصة مشاهدة أعمال ” فيرمير ” ودراستها بإمعان، فكشف عن جواهر أعماله المكنونة المهملة، ثم أعلن على الملأ أن أعمال” فيرمير ” لا تقل قدرًا ولا تنقص إجادة وروعة عن أعظم فناني القرن السابع عشر عمومًا، بل قد تفوق على الكثير منهم وأن فيرمير يعد أحد عباقرة الفن التاريخ.
ومن العجيب أن لوحة ( فتاة تصب الحليب ) التي لم تعجب ” مونكيز “، هي التي حظيت بإعجاب فنان بريطانيا ” رينولد ” وقال عنها: ” إنها أحسن ما رأيت من أعمال فيرمير الرائعة “!
بعد إعادة اكتشافه تهافت عشاق الفن على شراء لوحاته، فزادت أسعارها بدرجة خيالية مما شجع البعض على تزييف لوحاته وتحديدًا ما بين عام ( 1935 ـ 1945 م )، على يد رسام هولندي يدعى ” هانس فان ميجرن “، أستاذ تاريخ الفن في ( ديلفت )، واستطاع هذا المزور أن يقلد ست لوحات بدقة متناهية، حيث باع اثنتين منها لجامع التحف الشهير ” فان بونينجن “أحد أكبر أثرياء أوروبا، وباع اللوحة الثالثة إلى ” غورينغ ” الخبير والمحقق لدى الجيش الأمريكي، الذي استطاع كشف التزوير. وتم توقيف ” ميجرن ” الذي وجهت إليه تهمة نهب المتاحف الهولندية لحساب الألمان، وقرر فورًا الاعتراف بكل شيء، مفضلاً الإدانة كمزيف ومزور على الاتهام كخائن لوطنه! وما كانت هذه الواقعة لتعرف في العالم لولا اعتراف ” ميجرن ” بنفسه، وكان يمكن أن يبقى مستمرًا في تزييفه وحصوله على الملايين، لولا هزيمة النازية في الحرب العالمية الثانية.
- اللوحـــة: فتاة تصب الحليب، 1658م، القياس: 41 × 5، 45 سم.
- تعتبر هذه اللوحة من أهم ما رسم ” فيرمير “، فقد صور فيها مشهدًا من المشاهد اليومية المألوفة في حياتنا اليومية، هذا المشهد يتضمن خادمة واقفة بصورة جانبية أمام نافذة المطبخ، وهي تقوم بصب الحليب من جرة الفخار بهدوء واطمئنان. أي أن الموضوع في اللوحة هو تصوير ” الأشياء ” تحت النور الطبيعي، القادم عبر النافذة المفتوحة، والمثبتة في الجدار المواجه للخادمة، ليضئ ضمن المطبخ نفسه الأشياء الموجودة فيه.
- نلاحظ في اللوحة أن الفنان قد ثبت الزمن، ليسجل لحظة صب الحليب، وفي هذه اللحظة يدعونا ” فيرمير ” لتأمل التعبيرات المرتسمة على وجه الخادمة الدالة على مضمون لوحته؛ تلك التعبيرات المعبرة عن الطيبة التي تتسم بها الخادمة.
- اهتم الفنان من خلال أسلوبه الفريد بالرسم، مراعاة النسب التشريحية، كما اهتم بالدقة في إبراز التفاصيل سواء في وجه وجسد الخادمة، أو في الخط الدائري لصدرها والمتردد مع وجهها البيضاوي في اتزان مع يديها الممسكتان بجرة الحليب، أو في الملابس من حيث شكلها كنموذج لطراز تلك الأيام في الشمال الهولندي، أو في الدقة في تصوير ثنايا القماش، أو الأدوات المستخدمة في المطبخ.
- واهتم الفنان بإبراز التنوع في ملامس العناصر المختلفة على مسطح لوحته، ليعطي الإحساس بها، كالجدران والأواني الفخارية والمعدنية والسلال المصنوعة من الخيزران والخبز وبشرة وجسد الخادمة، وكذلك القماش والتباين بين أنواعها في كل من، الشال والثوب والتنورة وشرشف الطاولة.
- نلاحظ استخدام الفنان في خلفية وأرضية اللوحة، تنويعات من اللون الأصفر المشوب بالبني الفاتح في تضاد لوني مع التنويعات الحمراء والزرقاء والسوداء داخل التكوين.
- يتسم تكوين اللوحة وبنائها بشكل عام بالرصانة، ومراعاة قواعد الاتزان بين الكتلة والفراغ المحيط بها.