كتبت / إيمان حسيون
لطالما كان الفنّ حرّا طليقا ترعرع في البراري والغابات عندما كان الإنسان البدائيّ يحاول أن يختلق لغة يفهم بها العالم ويستقرئ خبايا الطبيعة. كان النّحت والرّسم ملجأه للتّعبير ولحماية نفسه. نشأ الرّسم على محامل حرّة متعدّدة قبل أن تقيّده اللّوحات والأطر والمدارس الكلاسيكيّة وتنطوي عقود من الزمن والفنّان أسير معطيات المجتمعات الرّأسماليّة التّي تفرض بُناها الفكريّة وذائقتها الفنيّة على الفنّان والمتلقّي. إلاّ أنّ الهوامش لم تختف. وظلّ فنّ الشّارع في فترات الطفرة الفكريّة متنفّس الرسّامين.
فحيثما تنبت الثورات وصرخات الفئات الاجتماعية الهشّة ينبت الفنّ/الرّسم على الجدران وفي الطرقات. لكأن المحامل التقليديّة تضيق به. فكان القرافيتي فنّ المتمردين والمارقين عن القانون في أوروبا وفي الثقافة العربيّة كان الرّسم قرين الشّعر وتيّارات الأدب وفنون العمارة ووليد تصوّرات صوفيّة دينيّة للحياة والبناء. فنقش الرسّامون العرب ورسموا على الخواتم و الملابس وجدران المساجد و القصور والحجارة. وكان الرّسم عندهم متّحدا بالخطّ العربيّ محاولةً للتشكيل الخطوطيّ التصوّفيّ للعالم الإسلاميّ ومحاولة لتجميل العالم مع تيّار أدب الظرفاء والمتظارفين في العصر العبّاسيّ.
وتطرح مسألة خروج الفنّ عن أطره التقليديّة بشدّة في العصر الحديث وتتوالى الثّورات السياسيّة والثقافيّة ليصبح الفنّان حِلاّ من قيوده. والفنّان عبد الرحمان دلدول ابن بيئته و سليل تيارات فنيّة مختلفة أثرت تجربته. يشدّ إليه تِقانة الرسّام المبدع الحاذق لما يصنع دونما تكوين أكاديميّ وجموح الفنّان الذي يرود كلّ مسالك الفنّ والتجريب دون حدود. وكما يتقن “دلدول” الرّسم داخل الأطر فإنّه تمرّد وابتكر مشروعه الفنّيّ والثقافيّ الخاصّ به. واختار أن يبثّ الرّوح في التراث الفنّيّ العربيّ. فكان مشروعه “فنّ محامل الشّارع” (the street clothing art)نقطة فاصلة في مسيرته الفنّيّة حيث قرّر الفنّان أن يخرج بألوانه وخطوطه عن إطار اللوحة التقليدية ويحوّل الجمال إلى محمل متحرّك ويوميّ وحياتيّ هو الملابس والقمصان والحقائب أي كلّ ما هو ملبوس ومحمول وكأنّه يرغب أن ينزل من برجه العاجيّ ومن الجدران الباردة التي يُعَلَّق عليها ليصير الجسد محملا متحركا يسير به وينشر رؤاه و ضوءه وتصوّراته وجماليّته الخاصة. وكأنه شاء للوحة أن تخترق الأبصار في كلّ آن في الشّارع وفي العمل وفي وسائل النّقل فنتنفس معه فنّا وترتاح أعيننا قليلا من قبح العالم.
ففنّ محامل الشّارع(the street clothing art) مشروع ثقافيّ شامل يرنو من خلاله صاحبه إلى الاضطلاع بدور المثقف العضويّ القادر على التغيير والنقد والبناء. يطمح “دلدول” إلى تهذيب الذوق العامّ وإكساب الذائقة الشبابيّة أصالة طريفة في انتقاء الملبس المزاوج بين الحديث والأصيل دون الحاجة إلى التهافت على الماركات العالميّة والتزويقات الأجنبية الدّخيلة. ممّا يسهم في إحياء التراث المحليّ ودمج الفنيّ التراثيّ بالاقتصاديّ من خلال دعم المنتوج التونسيّ إنتاجا واستهلاكا وتحوّله إلى علامة هويّة فنيّة واقتصاديّة أيضا.كما يطمح إلى أن يصير مشروعه الثقافيّ منهجا فنيّا معترفا به يدرّس في رحاب الجامعات وينشأ معه جيل من الفنّانين المتصالحين مع هويّتهم. قادرين على بث الروح من جديد في الحركة التشكيلية التونسية ومدها بطاقات خلق جديدة توائم بين الانتماء والروح التراثية المميزة وبين الأشكال الحداثية للإبداع.
ورسوم عبد الرحمان دلدول على القمصان ليست مجرّد لوحات منظمة منتمية إلى تيارات تشكيلية معلومة وليست أعمالا قصديّة ينطلق الفنان فيها من رؤية سابقة كي يصبها خطوطا وألوانا على قمصانه. بل هي تنبع من رؤيا وليدة لحظة الخلق ينطلق الفنان من العدم ليرسم فوضى العالم وهسيس اللّغة وصدى النّفوس والقلوب حوله.
فلنتأمل تشكيليّة رسومه:إنّ البناء الفنيّ للقميص-اللوحة بناء انفجاريّ عجيب لا يعترف بالحدود ولا بالتصنيفات الى مدارس فنية معلومة. تتداخل العناصر الهندسية والخطوط فيبدو تكعيبيّا ولكن بروح عربيّة أصيلة تحيلنا على فنّ الزخرفة والرّقش العربيّ. فعناصر اللوحة بانحناءات خطوطها وأقواسها وقبابها وصوامعها وتعرجاتها تشكّل أطيافا للعمارة التونسيّة. وتكتمل هذه المكونات التراثية بحضور الخطّ العربيّ فالتشكيل الحروفيّ عنصر بارز في محامل الشّارع وهو بقدر ما يحضر كمعطى تشكيليّ يتمّم تناسق اللّوحة وانسجامها الخطّيّ واللّونيّ فلا يبدو أبدا مسقطا أو مضافا فإنّه أيضا يمثّل معطى لسانيّا ثقافيّا ناطقا. فحروفيّة عبد الرّحمان مستلهمة من الموروث الشعبيّ هي أمثال شعبيّة وأقوال عاميّة مأثورة مثل” عروسة زغرطولها في وذنيها أو حمورية في الوجه ولا غصّة في القلب”…وغيرها كثير مما ينتقيه الفنّان ليخلق تكاملا عجيبا بين قصديّة اللغة وقصديّة الخطّ والتشكيل. ففضاءاته المتخيلة تلتقط ماهو بصريّ وماهو حكائيّ لتخلق تميّزها العجائبي. حيث يعمد الرسّام إلى تأصيل الذائقة و تَوْنَسَة رؤيته الفنيّة وإكساب فضاء اللوحة هويّة الانتماء والكينونة. فيصبح القميص-اللّوحة علامة هويّة للابسه وحاملا لرؤاه ومواقفه وشفرة مرئيّة للمتلقّي تعوّض اللغة المنطوقة. ويتمّم اللّون بنية الفضاء التشكيلية لعبد الرّحمان دلدول. ألوانه المنتقاة بعناية مزخرف ودقّة نحّات.
اختار الفنّان أن يجعلها بنية انفجاريّة ثائرة تجمع المتضادين الألوان الحارّة والألوان الباردة. في توزيع متواتر أحيانا منتشر بهدوء وانسجام متوتّر أحيانا أخرى غير نظاميّ بالمرّة تطغى عليه الألوان الحارّة. فالأحمر والبرتقاليّ والأصفر هي الألوان المهيمنة قرينة الأزرق. تذكّر النّاظر بألوان المدينة العربيّ والأزقّة القديمة وتنضح بروح البنية اللونيّة الزّاهية للباس التّقليديّ التونسيّ التّي تكمّل توجّه الفنّان نحو تأصيل رسوماته وإعادة إحياء الذاكرة الشّعبيّة واستلهام رموزها في الملبوس والمنطوق والثقافيّ واليوميّ. فيتحوّل بذلك مشروع محامل الشّارع إلى مشروع ثقافيّ أصيل يرنو به صاحبه أن يبعث الرّوح في التّليد و يلبسه لبوس الحديث حيث تعوّض القمصان القطنيّة الخفيفة الألبسة الكتّانية والصّوفيّة والحريرية في اللّباس التونسيّ القديم فيواكب الحداثة والنجاعة المطلوبة ونسق الحياة السّريع ولكنّه يحافظ على البنيّة التشكيلية واللّونيّة والرسائل الرمزيّة في خطوطه وحروفه فيمزج الأصالة بالحداثة. والانفتاح بالالتزام والخفّة بالعمق الدلاليّ ويتحوّل التّاريخ إلى غذاء بصريّ يوميّ يثري أبعاد يومنا. وتلك عبقريّة الفنّان أن يخلق ويغيّر نظرتنا للقديم وينفتح على مسالك التجريب دون أن ينبتّ عن جذوره. ويعانق سموات الإبداع العالميّ وهو ثابت الهويّة والمرجع.