تمثّلات الذّات: تراسلات وتقاطعات مع ديناميكيّة الأمكنة في تجربة (تهاني الهنتاتي)
خلود الدريدي، باحثة في الفنون التّشكيليّة، تونس
يطرح الفنّ التّشكيلي المعاصر أساليب إبداعيّة جديدة تجاوزت المعهود وتخطّت حدود المألوف من مواضيع وأشكال للتّعبير وطرق للتّنفيذ، حيث صار يرتكز على المفهوم والفكرة المستحدثة، المثيرة للتّأمّل والتّعمّق والتّصوّر. إذ لم يعد الفنّان حبيس “التّصوير المسندي” وقواعد الرّسم المنظوري، بل تاق إلى ما وراء ذلك، فصار يبحث ويتطلّع لسياقات إبداعيّة مختلفة ومعاصرة، تلبّي تطلّعاته وتحقّق رهاناته. فتداخلت الاختصاصات وتفاعلت فيما بينها لتنتج أساليب معاصرة تعمل على إيجاد علاقات بين ‘الشّكل المادّي’ و’المضمون التّعبيري’ لمكوّنات بنية العمل الفنّي التّشكيلي. وهذا ما نلمَسه في معرض « balade onirique » للفنّانة التّشكيليّة “تهاني الهنتاتي” الّذي أقيم يوم الأربعاء 7 أفريل 2021 بالمعهد العالي للفنون والحرف بتطاوين والّذي شهد ثراء هامّا على مستوى الأسلوب ميّز معرضها وجعل من قاعة العرض عالما متفرّدا زادته شَجَنًا ألحان السّاكسوفون saxophone ، طغت عليه أشكال تعبيريّة معاصرة كالفيديو والصّورة الفوتوغرافيّة وفنّ التّنصيبة…
حملتنا الفنّانة من خلال أعمالها، نحو عالم ذاتيّ تغمره الرّيبة والمالانهاية، خيوط ممتدّة ملتوية أحيانا ومعقودة أحيانا أخرى، أعمال اجتمع فيها نقاء اللّون الأبيض وألوان أخرى ذات قوّة بصريّة ملفتة (des couleurs fluorescents) أثارت عند المتلقّي أحاسيس مختلفة ناتجة عن الوهم البصري الّذي حقّقته سيطرة كلّ لون على الآخر وفرضته قوّته المضيئة والحسّيّة عليه، خيوط متشابكة مثّلت ركيزة أعمالها الفنّيّة، ساهمت في خلق تركيبات بنائيّة محكمة اتّسمت بالحركيّة والدّيناميكيّة، عملت الفنّانة على صياغتها بالخيوط والألوان الّتي أخضعتها لأسلوب فعلاني حركي، باحثة عن تناغمات حسّيّة بصريّة وسط مسرحة فوتوغرافيّة تربط بين الذّاتي والجماعي من أجل تحقيق أبعاد تعبيريّة تفتح على “الذّاكرة”، حيث وجدت الفنّانة في المكان وبالتّحديد “البرج” ما يحتضن الذّاكرة، فنجدها في أعمالها الفوتوغرافيّة، على سبيل المثال، تجرّد صورة المكان وتعبّر عن روحه، حيث لا نجد صورة “البرج” الّذي شهد طفولتها، ذلك المكان المختزن والمُتخَيَّل في ذاكرتها وأحلامها، المكان الدّاخلي الخاصّ الّذي يربطها بماضيها وحاضرها ومستقبلها، المكان الّذي كان ملهما للفنّانة في اكتشاف مفردات بصريّة وطرق مختلفة للتّعبير، تتأقلم فكريّا مع المظاهر المتغيّرة الّتي طرأت على “برج الأجداد” على حدّ تعبيرها، لذلك نتبيّن صدى هذا المكان في أعمالها وما يزخر به من حميميّة ومشاعر فيّاضة كانت حافزا لها لتأسيس معرضها الشّخصي الأوّل.
تتعدّد العناوين وتختلف التّسميات الّتي اختارتها الفنّانة لأعمالها الفوتوغرافيّة، ولكن نلاحظ خيطا رابطا جامعا بينها، وهي أنّ جلّها تحيلنا إلى عوالم الحلم والخيال والتّأمّل، عوالم افتقدتها الفنّانة وظلّت أسيرة ذكرياتها الّتي تعبق بالحبّ ومتانة الرّوابط العائليّة الّتي عاشتها داخل “برج الأجداد”، والّتي مازالت تطوق إلى ذلك العهد، وهذا ما نَلمسُهُ في أعمالها، عوالم غامضة متناقضة، ساحرة بأضوائها وألوانها وسط العَتْمَة الّتي تسيطر عليها، عوالم مثيرة للقلق، تتشابك فيها الخيوط وتفاعلاتها مع الألوان لتنتج مشهديّات متنوّعة مثّلت انعكاسا لما يختلجها من مشاعر وحنين عند استحضارها لصور مسقط رأسها “البرج”.تسعى الفنّانة “تهاني الهنتاتي” لابتكار وإثراء وتوسيع إدراك المتلقّي، وذلك لما يعيشه من تجارب إدراكيّة ومعرفيّة أثناء تأمّله لتنصيبتها والّتي هي عبارة عن متاهة تشبه الحلم، تنصيبة تفاعليّة تستدعي من خلالها الزّائر لدخول عالمها الذّاتي عبر تواجده داخل التّنصيبة، يقتفي خطًى رسمتها الفنّانة للسّير داخل هذا العالم الخيالي المنسوج، عالم شاعري طغت عليه التّشابكات في مختلف الإتّجاهات، تشابكات الخيوط الصّوفيّة الّتي كانت بالنّسبة للفنّانة بمثابة خيوط جامعة لمشاعر متناقضة عاشتها في صغرها داخل “البرج”، مقابل أخرى تملّكتها عندما تحوّل ذلك المكان إلى سراب وما طرأ على إثره من تحوّلات غابت فيها صفة الحميمي. شملت التّنصيبة اهتزازات توحي بنوع من الخداع البصري لخلق شعور بالحركة عبر أسلوب الخيوط المتكرّرة والمتداخلة في الإتّجاهات الأفقيّة والعموديّة والمائلة بواسطة درجات لونيّة وقيم ضوئيّة متضادّة ضمن إيقاع ساهم في منحها بعدا تفاعليّا.
استعادت الفنّانة في بنائها للتّنصيبة أشياء من الذّاكرة تعود بها إلى المكان المنطلق منه “كالنّافذة”، الّتي تعتبرها وسيطا يُمَكّننا من أن نوجّه من خلاله نظرتنا نحو المساحات الّتي نحلم بها والّتي نوَدُّ استعادتها. ومن هذا المنطلق، عملت تهاني على تطوير تجربتها باستخدام ضوء أسود يضيء مسار المتاهة، ولكنّه في نفس الوقت يخلق روحا جديدة داخل فضاء التّنصيبة الّتي في نهاية المطاف سوف تتشتّت وتتلاشى مع مرور الزّمن، ولكن لحسن الحظّ، يظلّ محتواها وقيمتها العاطفيّة راسخة في الذّاكرة، وتتحوّل بذلك إلى صورة ذهنيّة مثلما هو الشّيء بالنّسبة “للبرج” الّذي مازال عالقا بذاكرة الفنّانة رغم تحوّله إلى خراب.
يتجلّى في هذا المعرض تنوّع للأساليب والوسائط التّعبيريّة التّشكيليّة، حيث نجد حضور “تنصيبة الفيديو” تحثّ المشاهد إلى إجراء قراءة إدراكيّة خاصّة، مستوحاة من نشاطه العقلي ومهاراته التَّخَيُّليَّة. ومن هذا المنظور، تدعو الفنّانة، من خلال تنصيبة الفيديو، المتلقّي إلى تقديم مقترحات أخرى للصّورة الذّهنيّة النّاتجة عن الأنشطة الإدراكيّة، وإثارة عوالم وفضاءات أخرى، فهي ترى أنّ في تقنية الفيديو إعادة إنتاج للواقع، لكونه مساحة للخيال وهو أيضا توثيق للعمل الفنّي الزّائل كالتّنصيبة مثلا، فهو يعتبر ضرورة لأنّه أسلوب يستَخدَمُ كمجال لخلود العمل الفنّي. من فيديو لآخر، رحلة متاهة مضيئة تعبّر عن مشاعر الفنّانة وهويّتها الذّاتيّة خاصّة وأنّها ابنة صفاقس، أين يعتبر “البرج” مكانا للذّاكرة والخصوصيّة، أي مكانا لهويّتها وأصالتها.
ويبقى البحث في قدرة التّعبير بالفنّ عن الهويّة وما تستحضره الذّاكرة الفرديّة موضوعا هامّا يطرح عدّة تساؤلات خاصّة عند اقترانه بمفهوم المكان. فانطلاقا من مساءلة الذّات والهويّة تكاثفت تفاعلات الواقع والخيال، لتنتج مفاهيم وأبعاد جديدة أثْرت التّجارب الفنّيّة، حيث تعتبر الفنّانة “تهاني الهنتاتي” أنّ مع كلّ فكرة تتبلور بأسلوب جديد تتجدّد تجربتها وتبرز رؤى جماليّة متغيّرة ومبتكرة تتلاءم مع روح العصر، فهي تستند إلى ثقافة جديدة فعّلت حضور التّكنولوجيا المعاصرة لغاية تجاوز الوضع النّسقي المألوف.