رياض إبراهيم الدليمى / العراق
يعد التنوع الثقافى فى بيئة ما ( كمصر ) مركزًا جاذبًا وملهمًا لمختلف الفنانين والأدباء والمفكرين على مختلف مشاربهم واتجاهاتهم، لذا كانت هذه الميزات الثقافية عامل إنتاج وإبداع خلاق على مرّ العصور منذ حضارة الفراعنة والقبط والمسلمين فعُدت أرض خصبة مخلقة للإبداع والصناعة للأثر الفنى والفكرى الغزير فى قيمته الثقافية .
ونحن نتحدث عن تجربة ثرية لفنان تشكيلى مصرى استلهم من كل عناصر بيئته وحضارته على مختلف أزمانها وعصورها لتشكل وتكون سفرًا فنيًا ثريًا أنتجه التشكيلى (أنيس الزغبى) الذى لم ينكفأ فى توظيف مختلف المذاهب والأساليب الفنية التشكيلية وخط لنفسه أسلوبًا خاصًا به يمثله هو يمكن أن نطلق عليه الأسلوب (الحر غير المقيد) فى تجسيد ثيمة على سطوح لوحاته فخاض برسوماته بين عدة أساليب فنية ما بين الفن الواقعى والانطباعى والتجريدى والتعبيرى والتكعيبى .لقد هيمنت العوامل الثقافية والبيئية على فكر وميول (الزغبى) فى مختلف أعماله منذ النشئة إلى الآن، انعكست الظواهر الخارجية على مجمل أعماله التشكيلية وخاصة الطبيعة المصرية والشخصية المصرية فى كل محمولاتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والواقع المعيشى للمجتمع ليوظفها بأسلوبه السلسل الجاذب للمتلقى وبألوانه المريحة للناظر وبتقنية محترفة فى تطويع الألوان ومدى انسجامها مع ثيمه ومداها على سطح لوحته لتشكل فضاء مرئيًا يسر الناظر ويغوص فيها رغمًا عنه فى امتدادات ألوانها وتكسرات خطوطها ومنحنياتها فى كتل لونية متدرجة فى إشعاعها النورانى من المركز وهو العمق الروحى الفيضى إلى الخارج ليشكلا نسيجًا فنيًا متكاملا فى المعنى والمبنى فى آن واحد.أى بمعنى أخر إن التشكيلى( أنيس الزغبى ) يتقن حرفة جعل لوحته ومتلقيها مشهدًا واحدًا أحدهما يحاكى الأخر فى ثنائية منسجمة مكملان لبعضها البعض غير متضادين أو منفرين وهما المنتج الفنان الذى صاغ وكون هواجس المجتمع وثقافته واهتماماته وصبها على سطح لوحته فى خلق فنى اجتهد ليبدع به والمتلقى الذى وجد ضالته فى أعمال الفنان ليعبر من خلالها عن وجوده وهمومه وأحلامه وليعبر عن شخصيته المصرية الغائرة بالقدم، هى شخصية مخلقة ومنتجة ومبدعة للجمال والبناء والخطاب الحضارى رغم الأسى والاحتلالات التى أصابت مصر بين فترة وأخرى كما باقى الدول الأخرى، أو ما يعانيه هذا الفرد الصبور الذى عانى ما عاناه من ويلات وفقر وجلد بين حقبة وأخرى.لذا ترى أعمال أنيس الزغبى زاخرة فى تنوعها الثقافى لتعبر مرة عن الازدهار الحضارى المجتمعى فى حاضره وماضيه فتزدان لوحاته من ترف روحى وميثيولوجى وفطرة الطبيعة بورد حدائقها وخضرة حقولها ومرح أطفالها وحركة الفلاحين الصاخبة بالدينامية والجمال لذا وظف ( الزغبى ) هذا الثراء الطبيعى والحركى والحضارى فى مختلف أعماله الفنية وعلى مر فترات حياته .ثمة نظرة عميقة ومتأملة لأعمال( الزغبى) تجد أن المؤثر الروحى قد طغى على أعماله والذى يستثمر تجربته الروحية والنفسية والفكرية لتشكل هالة فنية تستدعى الوقوف عندها والتأمل الفاحص بها، فهو يتخذ من الحرف العربى وجمالياته ليغدو ثيمة وحالة فنية بطراز تشكيلى يمثله هو ويمثل مقاربته فى انتاج جمالياته، وفى مشاهد عرفانية طقوسية.
يتخذ من المشهد العرفانى بؤرة ومركزًا فى ألوان باردة غامقة للدلالة عن ضريح مقدس وهالة قدسية؛ رغم عدم اتضاح ملامحها الحقيقية وبقصدانية ليفلت عن الشخصانية ليسمو إلى دلالاتها الروحية التى شكلت حالة نفسية لديه وليحيط هذه البؤرة الخضراء بإشعاع نورانى احتوى المكان برمته ليقول للمتلقى إن جوهر المكان قد اضفى هالة شعورية نورانية ألمت به وانعكست على الناظر فصارا حالة واحة أى التشكيل وهو من صنع الفنان والرائى الذى اندمج نفسيًا ووجوديًا معه، أى اندماج ظاهرى وجوهرى، وهذه الغاية التى اجتهد الفنان ليصل اليها فى أعماله التشكيلية بدءا من السطح التصويرى الذى جسم عليه خطوطه وتعرجاته وتشظياته الحسية والروحية وألوانه المنسجمة مع بعضها ودلالاتها، أى اللونين الأخضر والأبيض فى إحدى لوحاته وكأنه أراد القول أن العين فى خضرتها وبياض أحداقها هى بمثابة انعكاس لطقس المكان الروحى السماوى وشكلا حالة واحدة .لذا يمكن القول إن الظاهر الخارج الشاخص والباطن الغيبى لم يكونا فى حالة اغتراب بل هما غاية واحدة تدعو إلى الاطمئنان النفسى فى تلقى الحياة وجمالها ووجودها ولابد من استثمار هذا الوجود الغيبى والفضائل والخلق الربانى فى صناعة إنسان ثرى بوجوده وعارف ومؤمن بهذا الخلق والخالق والصانع للوجود .
إن إيمان الفنان بالحالة الثقافية المكونة للمجتمع قد حفزته على تناول هذه الخصوصية الفلسفية التصوفية العرفانية والطقوس والشعائر الدينية الشائعة فى المجتمع التى دفعته لينغمس فيها فنيًا وربما شخصيًا، إنه اعتناق فنى ونفسى وثقافى لذا تجد أن الابتكار والتخليق فى مقاربة اسماء الله ورسله فى تشكيلات فنية عديدة انتجها (أنيس الزغبى) لتعطى هوية خاصة به لا من حيث الشكل الفنى فحسب بل بمقاربته لهذه القناعات الراسخة.
ففى لوحة جسدت كلمة ( الله ) وامتداد حروف اسم جلالته على فضاء اللوحة وببعديها العرضى والعمودى لتعبر عن دلالة الهيمنة الروحية لاسم الجلالة فى تجسيد ثيمته وغزارتها وانعكاساتها على المتلقى لذا يغدو الذاتى الذى يمثله المنتج والذات المتلقية تشكلان عملاً واحدًا وذاتًا واحدة، وهذا ينسحب على لوحة أخرى اسماها (هو الله)، إن اللون والشكل والمتلقى هم حالة روحية نفسية وعقد غير قابل للانفراط بل مصاغ بريشة محترف ممتهن بحذق للخطاب الفنى التشكيلى برؤية فلسفية ثاقبة .