رياض إبراهيم الدليمى
تغدو أية تجربة معرفية وثقافية مقرونة بنظريتها من خلال تجسيد مفاهيمها وآليات تشكيلها بفعل فنى جمالى فى حقيقة الأمر تهدف إلى ترسيخ هذه المفاهيم، وليس من المستبعد أن تُعد مجازفة بحد ذاتها، ولكن فى كل الأحوال لا شك هى جديرة بالدراسة والبحث وتستحق تسليط الضوء عليها وهى من مهام القارئ المكتشف والمتشوق لقراءة مثل هكذا تجارب ثقافية متحررة من اسقاطات الزمن الماضى والحاضر المتمثلة بالمعارف والتجارب والخبرات والمسلمات التى آمنت بها البشرية وتحولت إلى قوانين ومعارف وتقاليد وباتت ضمن سياقها الحضارى والاجتماعى .
الحديث هنا عن تجربة فنان شاب مجتهد وهو التشكيلى جوان عطو الذى اتخذ لنفسه خطًا فنيًا واتجاهًا معرفيًا وكمًا أسماه “النظرية الخطئية” وهى إعادة فهم الوجود وماهيته وفق مبدأ الجدلية وطرح الأسئلة الفلسفية وتحرير العقل والخبرات من الحكمة لتنطلق إلى إدراك اللا مدرك إيمانًا منه على أن ماهية الإنسان وماهية وجوده هما أساس الوجود فهو يقول فى مخطوطته الفلسفية:”هى مدرسة فلسفية وحركة فنية تهدف إلى تسليط الضوء على أهمية الأخطاء ودورها كعوامل أساسية فى نشأة وارتقاء الوجود بكافة تجلياته، فهى منظور جديد يسمح للعقل بالإحاطة بكافة المعارف الإنسانية وإعادة صياغتها بما يسمح للتناقض أن يكون عاملاً للفهم والتفهم، والاستفادة من العماه (Chaos) للوصول إلى الحلول القابعة خلف نِطاق الاحتمالات، هذه الحلول التى تتميز بالبساطة و ذات بُعد عمومى(Chaos) للوصول إلى الحلول القابعة خلف نِطاق الاحتمالات، هذه الحلول التى تتميز بالبساطة و ذات بُعد عمومى (Universality)، والتى تحاكى مبدأ الفعل الأدنى (Least action principle) بما يعزز التوازن والانسجام بين الجزء و الكُل”.
أنا هنا معنى بالبحث والقراءة النقدية لأعمال ( جوان ) التشكيلية ومدى موائمة مقولاته الفلسفية ورؤاه فى مختلف الجوانب المعرفية والحياتية مع تشكيلاته الفنية، فتأمل بعضًا من أعماله التى قد تتجاوز على ثلاثمائة عمل تشكيلى بين رسم تقليدى ورقمى .
منذ الوهلة الأولى حينما تنظر لأية لوحة من لوحاته ستجد المختلف وستصاب بالدهشة وتأخذ الأسئلة تطرح نفسها عليك عن ماهية التكوينات والمجسمات اللونية الغريبة والتى لا تشبه غيرها من الأعمال وخاصة أن أغلب أعماله قد تكون بلون واحد ومجسم شكلى أحادى التكوين من أعلاه لأسفله ومن شماله ليمينه فيقول هنا ( جوان عطو ) بهذا الصدد : (لا يمكن التنبؤ بشكل اللوحة حينما تتحرك العين ضمن فضائها لأنها لا تتبع أى منطق واضح ) وهذا ما يلمسه المتلقى فعلا .
عند العودة إلى أعماله التشكيلية ولواحدة أعتبرها من أهم اشتغالاته والتى اتفقنا على وضع عنونة فهم لها بإطلاق تسمية عليها ( الحركة الخطئية ) رغم أن الفنان يكرر أن لا تسميات محددة لأعماله، فقد صور خلال لوحته العالم بوصفه ماهية الوجود وجوهره الإنسان الذى يعتبر هدف الوجود فى خلقه ووجوده وابتعد عن جدلية فلسفة الوجود وعدمه والذى لم يقف عند هذه المقولة بل تعداها ليدلى بوعيه وفهمه لهذه العلاقة الجدلية بين الكون والإنسان وكيميائية الوجود التى تجمعهما بوصفها الحاضنة الحياتية والوجودية للاثنين.فعند النظر إلى المجسمات التصويرية التى تكوّن وتوحد أغلب أعماله فى تفاصيلها الصغيرة فى منظاره هو المشّكل والمجسد لها نفهم إلى أنه يريد القول للمتلقى إن هذا العالم مازال صغيرًا فهو لم يزل يبحث ويتيح الفرص للكشف عنه وعن أسراره، والخطأ مسموح به قد الصواب فيه لأن الخطأ هو مقاربة صائبة للنتائج التى يسعى إليها الإنسان (لولا الأخطاء لما تطور شئ فى هذا الوجود ولما كان هناك وجود من الأساس).
ثمة علاقات جامعة لمجمل المجسمات على السطح التصويرى للوحة موضوعة البحث والتى أشرنا اليها آنفا فنجد هذه التفاصيل الدقيقة فى جزئياتها الظاهرية والعميقة فى دلالاتها الشكلية والمعنوية فهى تتشابه مع بعضها، وقد جسدت بمثابة معادن وكائنات حية أو بالأحرى كائنات سبقت وجودها لتولد باحثة عن جوهرها وماهيتها وذواتها لتتخذ حيزًا لتذويت جغرافيتها وحيزها الكونى والتاريخي اللحظوى بألوانها البدئية أى بدئية الخلق بلون غبارها وترابها وطينها وسدمها لأنها مخلوقات وموجودات يعتقد هو أن العالم لم يسبق له أن اكتشفها ولابد من الاجتهاد لصياغة فهمه لها ويعيد تسميتها لتتماشى مع زمنها وليس مع قدمها .(أى مزج عناصر لا تمزج عادة معًا وارتكاب أخطاء مقصود طبعًا فى غالب الأحيان إذ لا نجد نتيجة جيدة لكن حينما يصدف ونجد شئ فهو يبقى سرًا للصنعة ) .
إن تكوينات ( جوان عطو ) التجريدية تفهم كما يفهما هو التجريد باعتبار (الفن التجريدى فن يعتمد فى الأداء على أشكال ونماذج مجردة تنأى عن مشابهة المشخصات والمرئيات فى صورتها الطبيعية والواقعية. ويتميز بمقدرة وبقدرة الفنان على رسم الشكل الذى يتخيله سواء من الواقع أو الخيال فى شكل جديد تماما قد يتشابه أو لا يتشابه مع الشكل الأصلى للرسم النهائى مع البعد عن الأشكال الهندسية ) لذا إن تجريداته وهى السمة البارزة لفنه وفى مختلف أعماله فنلاحظ الخطوط المستقيمة المتعامدة بلونها الواحد وهى تبدو شكلا كأنها نتوءات صغيرة تمثل صورًا جوية للطبيعة بكل ما تحتويه من موجودات كبساتين وحقول وغابات ومياه أو تضاريس جغرافية فإنه يصورها مرة من الأعلى وفى أخرى من نظرة مستوية أفقية وبعض الأحيان جسدها ثلاثية الأبعاد للدلالة على وسع الكون وامتداد آفاقه، ومازال الإنسان يعد ما اكتشفه وفهمه إلا جزءًا يسيرًا عنه.وينبغى القول أن سرّ الوجود يكمن فى غموضه واتساعه ولابد من البحث فيه وعدم الالتفات إلى أخطاء البحث ولابد من تصويره وتجسيده برؤى وأفق مختلفة وأبعاد وزوايا غير متشابه لنصيغه وفق وعينا وفهمنا وإدراكنا، وإن اختلاف زوايا النظر هى أدوات بحثية توصلنا إلى الغايات التى يصارع الإنسان للوصول اليها وبلوغها، ويجسد أيضا فى أعماله من خلال لوحاته إلى عدم العودة إلى الاشكال والصور التى تمت معرفتها بل لابد من النظر إلى ما وراء الطبيعة والحقيقة المكتشفة برؤى نفسية وروحية وحدسية وعقلية لتنسجم مع بعضها لتفند الحتميات والمسلمات من أجل أن يبقى السؤال مطروحًا إلى الأبد وعدم الوقوف أو الارتهان إلى الحقائق التى ينتهى اليها الجواب لأن حقيقة التجريد هى (تشخيص الظواهر النفسية دون تمثيلها: أى عدم العودة إلى الأشكال التى تمّت معرفتها، إنّما الاعتماد على ما يصدر من الروح الإنسانية بشكل مُطلق، بالإضافة إلى الاستناد إلى ما هو وراء الأمر الواقعى، وبقى الاعتماد على ذلك حتّى وصل الفن التجريدى إلى كونه فن الواقع اللا موضوعى. الاعتماد على العناصر التعبيرية التصويرية: أى الاعتماد على التعابير التحليلية التى ترتبط بكلّ ما هو وراء الطبيعة، أو ممّا يصعب فهمه بسبب العمق الذى فيها، أو ممّا يتعلّق فى إظهار العاطفة بشكل أكثر وضوحًا ومُباشرةً، وذلك من خلال التعبير بإشارات محسوسة، أو دلالات ورموز تظهر من خلال الخطوط، والألوان، والأحجام، ممّا لا يُخلّ بالأصل، فعند رسم شئ ما يتمّ الاعتماد على جماليّته بعيدًا عمّا يملكه من خصائص طبيعية).
اللوحة لدى ( جوان عطو ) هى بمثابة ايقاع موسيقى منتظم يبدأ من الجوهر وهو عمق لوحاته ومركزها ومتنها إلى سطحها الخارجى فيشد المتلقى بعفوية واسترخاء تام مع تشكل تفاصيل اللوحة من خطوط وتعرجات ومنحنيات إلى استواء اللوحة بمنظرها الخارجى وكأنها نغمات لحنية تنطلق من لحظة السكون إلى تنامى تصاعد سلمها الموسيقى لتبقى للناظر لها على ذات الدرجة من التشويق وهو يتأملها بعمق ويتوحد معها لتحقق نبوءة الفنان بالتذويت إلى نظرته ورؤيته إلى الفن التشكيلى وإلى ثقافته ورؤاه الفلسفية العميقة للكون والإنسان والوجود والميتافيزيقا .