الفنان غسان أبو لبن.. الإنسان هدف تعبيره وملهم تنويعات إبداعه

13/7/2021

0

 بقلم: غـازي انـعـيـم

تعد تجربة الفنان التشكيلي (غسان أبو لبن) الذي صاغ لنفسه رؤية خاصة، جمع فيها بين أصالة الواقع المحلي وحداثة الشكل وتقنياته المعاصرة، من التجارب الهامة في التشكيل الأردني المعاصر، حيث تميزت بالأصالة وبخصائص جمالية واضحة، تجلت في تفرده وغزارة إنتاجه، وتأكيده على أسلوبه المتفرد الذي دأب على إثرائه وتطويره.

والفنان (غسان أبو لبن) الذي فاز بالجائزة الأولى في مسابقة فن الشباب التي أقامها المركز الثقافي الاسباني العام 1988 في عمان، بدأ يفرض نفسه بقوة منذ ذلك التاريخ في الوسط الثقافي والتشكيلي، ولا زال مستمر، حيث تنبئ  تجربته عن حوار ممتد بين استقاء العناصر والأشكال من الواقع المحيط بالفنان، بعد أن تتحول بمرورها على ما يشبه المختبر، إلى مفردات (متجانسة) من الناس والأمكنة من ناحية، وحرية التأليف والتركيب والصياغة لتلك الأشكال، وفق مفاهيم متعددة تتراوح ما بين الواقعية والتعبيرية والتجريدية، من ناحية أخرى.

والفنان (غسان أبو لبن) الذي يركز على الإنسان وبشكل خاص المرأة كعنصر رئيس في لوحاته ويميل إلى الضربات اللونية السريعة من اجل منح فرشاته حرية التعبير عن الموضوع، يفكر في خلق الشكل، بعيدًا عن التفكير في نقل الموضوع، لذلك نراه يفتش عن ومضة الموضوع التي تولد الانبهار ما بين المتلقي واللوحة، حيث تتسم الأخيرة بالهارمونية والبهاء اللوني.فمن هو فناننا؟
 ولد الفنان (غسان أبو لبن) في مدينة بيت لحم العام 1964، وبعد هزيمة حزيران العام1967 استقرت عائلته في عمان، وفيها بدأت موهبته من خلال نسخ ونقل صور كبار الفنانين المرسومة على علب الشوكولاته ( سلفانا )، والتي كان يرسمها دون أي اختلاف..

وأثناء دراسته للمرحلة الابتدائية في جبل التاج في مدينة عمان، أتيحت له الفرصة لمشاهدة مستنسخات عن اللوحات الكلاسيكية، فشدت انتباهه وراح بعد ذلك يرسمها مرة تلو الأخرى.. دون ملل أو كلل.. ولم يكد يمر يوم دون أن يرسم على جدار أو فوق دفاتره أو أوراق كتبه المدرسية بأقلامه الملونة.. وقد ساهمت عمليات نقل الصور دورها، في تدريب (غسان أبو لبن) على الرسم والتلوين.. والتعرف على بعض أسرار الصنعة وألفة الألوان..

في المرحلة الإعدادية كلف عاشق الفن، (غسان أبو لبن)، بإعداد وإخراج ورسم وتلوين مجلة الحائط، وهذا شجعه على كتابة القصة، والشعر، والمسرح، إلى جانب المطالعة والقراءة لكبار الكتاب والشعراء أمثال: نجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، ومحمود درويش..

في المرحلة الثانوية تطورت ملكاته الإبداعية.. وأصبح الإنسان هدف تعبيره وملهم تنويعات إبداعه.. فظهر على مسطحات لوحاته من خلال البورتريه الذي كان يرسمه سواء للأساتذة أو لرفاقه الطلاب.. كما تناول في هذه المرحلة العديد من الموضوعات الإنسانية والاجتماعية والوطنية المستمدة من الواقع المحيط به.

بعد حصوله على الثانوية العامة كان الرسم قد تملكه إلى درجة الشغف، وأن مصيره بات مرتبطا بالفن، لذلك قرر أن يواصل تحصيله الفني في كلية الفنون الجميلة بجامعة اليرموك، وأثناء الدراسة انكب على البحث والتجريب.. فدرس الأساليب الفنية.. وأعمال كبار الفنانين.. وتاريخ الفن.. كما كانت معالجاته الفنية تميل إلى الاعتماد على النظام الخطي، مع استغلال إمكاناته، وإيقاعاته في نقل الموديلات ودراسة التشريح والتكوين.. بمعنى آخر التزم أبو لبن في انجازاته بالتعاليم الأكاديمية.

بعد تخرجه في كلية الفنون الجميلة العام 1987، أقام (غسان أبو لبن) معرضه الأول في رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين، وقدم من خلاله أعمالاً تتسم بالأكاديمية والواقعية التسجيلية، ولكن في إطار المذهب التعبيري، فظهرت شخوصه قوية تضجُّ بالحركة وقوة التعبير حينًا، وبالحس المأساوي حينًا آخر.

وكان تشكيل الفكرة في أعمال معرضه الثاني الذي أقامه في جاليري البتراء العام 1989 يبدأ أولاً بالخط الذي يقسم بناء اللوحة ويوزع الحدث على مساحتها، ومن ثم يأخذ اللون دوره ليملأ الفراغات التي حددها الخط كإطار للمكان والزمان وحدود الحدث، بالإضافة إلى إجادته للعبة الخط وتوظيفه في نقل المضمون أو الفكرة لتبرز معرفته العميقة باستخدام اللون وتنوع وظيفته ورموزه.

ولوحات تلك المرحلة تؤكد اهتمام الفنان بالمضمون والمعنى الأدبي الواضح المعالم حيث لجأ في أسلوبه إلى استخدام التكثيف في عناصر موضوعة وذلك لخلق جو درامي يؤكد الفكرة في عمق واتزان.

ويستمر الفنان في إنتاجه الدائب والبحث عن أفضل شكل للتعبير طوال الوقت.. فأقام مجموعة من المعارض المتتالية في الأعوام ” 91، 92، 93 ، 96 ، 1999 ، 2007.. 2017 ” حيث بدا يميل في لوحاته إلى التبسيط والاختزال في الأشكال بأسلوب تجريدي بنائي متماسك..

وحول هذه المرحلة يقول الفنان: ” في هذه المرحلة أبحث عن أفضل شكل للتعبير، وأنا ما زلت أبحث وأجرب، فالتجريد إحدى الخطوات في البحث عن الأسلوب الذي يمكن من خلاله أن أعبر عما يدور في داخلي بالمذهب أو المدرسة التي أريد، سواء بالواقعية أو الرمزية، فكل مدرسة لها إطارها، فمثلاً التجريدية مسطحة ولا تتحدث عن كل شيء “.البورتريه
في العام 1994، طرح (غسان أبو لبن) في معرض الصور الشخصية الذي أقامه في جاليري (الفينيق) وجوه الأدباء ورجال الفكر والصحافة، باستخدام تقنيات مختلفة بـ ” الباستيل ” و ” المائي ” و ” قلم الرصاص ” وسجل من خلال تلك التقنيات المغرية بتناغمها الموسيقي، ورهافة خطها الخارجي.. العديد من الشخصيات الثقافية سواء من الذاكرة أو نسخ عن الصور ـ ما نشر في ملحق الدستور الثقافي ـ أو أثناء جلوس وأحاديث تلك الشخصيات في المقاهي، لذلك كانت تؤخذ اللقطة حسب وضع جلوس الشخصية، سواء بشكل أمامي أو بشكل جانبي.

استخدم الفنان في ذلك المعرض اللون الواحد وتدريجاته، فأظهر من خلال استمرارية الخط، الظل والنور، كما في بورتريه الشاعر عدنان الصايغ وبورتريه الفنان نفسه.
وفي مجموعة أخرى استخدم الفنان لونين مع تدرجاتهما في بورتريه الكاتب محمد البطراوي والشعراء: ” محمد العامري، وطاهر رياض، وعبد الوهاب البياتي “.
كما مال الفنان إلى الاقتصاد في الدرجات اللونية، فنراه يركز على إبراز الظل والنور في منطقة الرأس دون بقية الجسم، وبشكل خاص الوجه، وذلك لإبراز الحالة النفسية وللتأكيد على القيمة التعبيرية كما في بورتريه: ” نصر الزعبي، ومحمد القيسي، وزهير أبو شايب وعمر شبانة “.ويتألق الفنان عبر خطوطه السريعة والجريئة في رسم القاص (محمود الريماوي) والشاعر (غسان زقطان).

ونلاحظ في بعض البورتريهات بأن الفنان تعامل بإحساس اللون الزيتي من حيث المعالجة بالكثافة اللونية، كما في بورتريه القاص يوسف ضمرة وكل من الشعراء، زكريا محمد وعز الدين المناصرة.
وأثناء وجوده في مرسمه وعمله في ملحق الدستور الثقافي رسم الفنان (غسان أبو لبن) العديد من الشخصيات الثقافية نذكر منها: ” هشام شرابي، أدونيس، أحمد فؤاد نجم، مصطفى الحلاج، جمال أبو حمدان، حسين مروة، حيدر محمود، غسان كنفاني، رسمي أبو علي، ممدوح عدوان، خليل السواحري، سالم النحاس، تيسسر سبول، وجدان علي، يوسف ضمرة وسعد الله ونوس “.

والفنان (غسان أبو لبن) أجاد رسم البورتريه لأنه لم يتقيد بالشكل ( المرسوم ) أمامه، كما انه قطعة من الأثاث، وإنما انطلق منه ليعبر عما في نفسه من انفعالات حيث التزم بما تحمله من مقومات الشخصية التي ينفرد بها صاحب البورتريه ( المرسوم )، بالإضافة إلى مراعاته للقيم الجمالية كالتدرج اللوني والتوازن والتكامل والإيقاع ومثال ذلك بورترية الشاعر الفلسطيني محمود درويش.

 

تلك البورتريهات التي رسمها فناننا تعتبر زاده اليومي ووسيلته للتعبير.. كما تعتبر ابتسامات هادئة لمبدعينا تثير الإحساس بالتفاؤل والمحبة التي نسجت بأصابع (غسان) فسالت من بينها بعذوبة وشاعرية رقيقة لتؤرخ مرحلة من حياتهم، فهذه الشخصيات التي رسمها فناننا، ما هي إلا ثمرة علاقة فكرية ووجدانية ما بين الرسام والمرسوم.

في العام 1998 تحرك شيطان الفن بداخله يحثه على المشاركة بشكل فعال في مسابقة مئوية لوركا، التي أقامها معهد (سيرفانتس) الاسباني في عمان، حيث فاز غسان بالجائزة الثانية، وفي العام التالي فاز بالجائزة الأولى، التي أقامها نفس المعهد حول دون كيخوتة.

في الألفية الجديدة واصل (غسان أبو لبن) رحلة البحث عن الذات والأسلوب، ومضى يشق لنفسه طريقًا فنيًا خاصًا به، بعد أن عزز معارفه الثقافية والفنية.. فأقام في العام 2000 بجاليري الأورفلي، معرض أشعار ورسومات، وفي العام التالي أقام في متحف أتلبورو، بالولايات المتحدة، معرض حوارات وبورتريهات، وفي العام 2002 أقام في بوسطن، بالولايات المتحدة معرض شخص / مكان، في مارك جاليري.

وبما أن الطموح كان يدفعه دائمًا إلى تطوير أسلوبه والى التجديد في الشكل مع مراعاة الاحتفاظ بالمضمون.. فقد أنتج (غسان أبو لبن) بعد عودته من الولايات المتحدة الأمريكية مجموع كبيرة من الأعمال الفنية النابعة من وجدانه وعواطفه.. وأقام بها في العام 2004 معرض حوار في جاليري الأورفلي، وفي العام 2006، أقام معرض هوية، في جاليري رؤى، وكان آخر معرض له في غاليري المشرق، العام 2007.

قدم (غسان أبو لبن) من خلال تلك المعارض عالمًا من الإيقاعات والعناصر التشكيلية المستوحاة من الطبيعة والإنسان، التي تشير إلى السهول الخضراء ولم تر معالم السهل، وتلمح فيها سحر الورود، ولم تر معالم الوردة، كما أن فيها عالماً تشخيصيًا تجريديًا تلوح فيه الأماكن والتجمعات الإنسانية المختزلة، وفي بعض المحطات ذابت وجوه وأجسام شخوصه داخل ألوانه الممتزجة مع بعضها والمتباينة برقة، وحلت البساطة المتناهية في مفرداته، حيث كان وراء تلك البساطة خبرة أبو لبن المميزة عبر المراحل الماضية.

ونلاحظ في هذه المرحلة أن اهتمام الفنان انصب من أجل تحقيق البنائية التكوينية والمساحات اللونية المتناغمة أفقيًا ورأسيًا لتصنع نسيجًا عضويًا ولتحقق في النهاية هارمونية العمل الفني، مع التأكيد على البناء الجمالي.

وباستعراض أعمال الفنان (غسان أبو لبن) في جميع مراحله.. نلاحظ بأن وحدة العمل الفني لديه، أشبه بالبناء السيمفوني الذي تنساب منه الألحان الموسيقية بأنغام لونية وتراكيب مختلفة حتى تتحقق ذروة المتعة الفنية، لأنه يخضع اللوحة لمنطق الخلق الموسيقي، وهو هنا يقنعنا بأن اللمسة قد تتحول في يد الفنان إلى نغم ولحن.. واللوحة إلى قصيدة شعرية.

أخيرًا استطاع (غسان أبو لبن) الذي يعمل محاضرا منذ عام 2000 في كلية الفنون والتصميم في الجامعة الأردنية، بملكاته اللونية، ولإدراكه للعمل الفني وإحساسه الرهيف بسر الإيقاع الموسيقي أن يجعل من لوحاته مقطوعات شعرية بالغة الرقة والعذوبة مستفيداً من تجربته الشعرية، حيث صدر له ديوان (لا أرى فِيَّ سواي)، واستطاع أيضًا من خلال فهمه الواعي للغة الفن المعاصر، أن يتقدم صفوف جيله من الفنانين بكل ثقة وجدارة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*