غـازي انـعـيـم
يعد الفنان السوري ( نذير نبعة ) أحد أهم رواد الجيل الثاني الذين أثبتوا جدارتهم في الفن التشكيلي السوري، وأحد أهم الفنانين التشكيليين العرب الذين أسسوا بحماسة للغة تشكيلية حديثة، وهو إلى ذلك تميز بميله نحو بيئته وتراثه وقضيته الوطنية والقومية، وسعى إلى الأجواء الأسطورية عن طريق اللون والخط والتكوين.. واستفاد من الأسطورة كتراث ـ كينبوع ـ لفهم التفكير الجمالي لدى أولئك الأجداد الذين صاغوا الأسطورة.
ـ فمن هو فناننا؟
ولد الفنان ( نذير نبعة) في بستان من بساتين ( المزة ) التابعة لريف دمشق، عام 1938، وكان بستان جدته ( أم محمود ) هو المكان الذي تعلم فيه تربية البصر والبصيرة كما كان ” بيت جدته الغارق بين أشجار التين والجوز والتوت، وحكايا (الزير أبو ليلى المهلهل ) و (أبو الفوارس عنترة بن شداد ) و ( الغولة ) و ( العصفور الأخضر ) أول مرسم له.. ومن بستان جدته تعرف إلى ملمس السطح الخشن من شجرة الحور.. كما تعرف إلى التفاحة والرمانة والورود والأزهار التي تسيدت مسطح لوحاته فيما بعد.
ظهرت موهبته في الرسم منذ طفولته الأولى، عندما كان يرسم الورود والعصافير على صدور ثياب الفلاحات بخيوط من الحرير، تلك كانت أول علاقة عملية له مع الخط، وتأكدت هذه الموهبة في سن مبكرة عندما كان تلميذًا في المرحلة الابتدائية، على يد أستاذ الرسم (ثابت القباني) ( عم الشاعر المعروف نزار قباني ) الذي كان فرحًا بموهبته وبرسوماته.. وفي بيت أستاذه (ثابت القباني) تعرف على أول لوحات الانطباعيين السوريين، كما تعرف على بعض المعلمين الأوائل مثل الفنان ( صلاح الناشف ) الذي علمه لاحقًا في المرحلة الإعدادية، كما تعرف عن طريق صديقه ( خالد جلال ) ابن الفنان ( محمود جلال ) على أبيه وأثناء زياراته لبيت صديقه كان يقف مطولا أمام لوحات الفنان ( محمود جلال ) وتحديدًا لوحة ( الراعي ) التي سحرته بألوانها.. وفي بيته أيضًا تعرّف على الألوان الزيتية والمائية والفرش.
خلال هذه المرحلة كان يدرس في مدرسة ( حافظ إبراهيم الابتدائية )، وكان الرسم شغله الشاغل في المدرسة، التي كانت تقيم معرضًا سنويًا لطلابها، وكانت ترصد الجوائز للأعمال الفنية الفائزة، وكان من ضمن الذين فازوا بجوائز المعرض السنوي الفتى (نذير نبعة) ، حيث حصل على الجائزة الثانية، وكانت الجائزة عبارة عن رواية من أدب شكسبير. هذه الجائزة حفّزت (نذير نبعة) بالتعرف على قواعد الرسم، وتقنياته أكثر، وأكثر.
بعد حصوله على الشهادة الابتدائية انتقل من قريته إلى مدينة دمشق لمتابعة دراسته الإعدادية والثانوية، وفيهما كوّن صداقات. وبدا وعيه بالتشكل على الأدب والشعر والأفكار والانتماء، وبدأ يعبر عن رأيه ضد ما يحدث بالمظاهرات.
وفي مرسم المدرسة تعرف إلى الفنان ( ناظم الجعفري ) الذي عرّفه وعلمه على استعمال الخامات:” ” القلم الرصاص، أصابع الفحم، الألوان المائية، أنواع الورق، الألوان الزيتية، القماش، تحضير القماش “.
يقول الفنان ( نذير) عن هذه المرحلة:
” كنت أتعلم الرسم بشكل علمي ومدرسي، وكان أستاذنا يشيع بشخصيته الصارمة جوًا من الجدية والاحترام في مراسم المدرسة مما كان يساعدنا على استيعاب ملاحظاته وتعاليمه المكثفة، ويعلمنا درسًا ثمينًا في تقديس العمل واحترام الفن، ثم بعد فترة، سمح لي بدخول مرسمه الخاص في شارع بغداد، كنت أهبط الدرجات القليلة في مدخل المكان متهيبًا كما لو أني أدخل معبدًا، وكنت أحمل إليه ما أنجزه من رسوم ليبدي ملاحظاته القليلة والمهمة، وأحيانًا يسعفني الحظ، فأرى لوحة جديدة على الحامل أنجزها الأستاذ حديثًا، وعندما يضبطني أنظر إليها خلسة، يدلني على ما حققه فيها من انجازات فنية في التقنية واللون والتعبير “. ( 1 )
في هذه المرحلة، زار الفنان (نذير نبعة) مرسم الفنان ( نصير شورى )، ” وتعرف على أعماله الانطباعية، وكانت الانطباعية هي الفن السائد في هذه المرحلة، ولكن ( نذيرًا ) لم يتجه إلى الانطباعية، ولم يكن واقعيًا بالمعنى المعروف عند الفنانين الواقعيين، ولهذا لم يفضل الرسم المباشر للموضوعات، بل آثر أن يختار شجرة من هنا وشجرة من هناك ليؤلف لوحات المناظر ويجمع هذه العناصر المؤلفة في لوحة “. ( 2 )
كما أتيحت ” الفرصة له أن يتعرف على التجارب الفنية الحديثة التي قدمها الفنان الراحل ( أدهم إسماعيل )، الذي عبر عن طريق الخط العربي اللا متناهي، وقدم فنًا عربيًا حديثًا، وكذلك شاهد أعمال الفنان الراحل ( نعيم إسماعيل ) الذي رسم عدة موضوعات سياسية بروح عربية، وأعمال الفنان الشاب ( مروان قصاب باشي ) الذي حاول التعبير بلغة حديثة في تلك الفترة، و ( برهان كركوتلي ) الذي قدم تجارب واقعية، تختلف عن تجارب الرواد “. ( 3 )
كما تعرف على رائد النحت السوري النحات ( فتحي محمد ).
في هذه الفترة أثبت موهبته، ونستطيع اكتشاف هذه الموهبة التي تدل على إتقان لقواعد الفن، وعلى قدرته على تسجيل الموضوع المرسوم من خلال اللوحات التي تمثل: ( المنظر الطبيعي، والطبيعة الصامتة والبورترية… )، وفي عام 1952 بدأ يشارك في معارض ( الجمعية السورية للفنون الجميلة ) التي تأسست عام 1950، بعد أن أصبح احد أعضاءها، ولم تكن تلك المشاركة بالنسبة له إلا البداية الأولى. وهذه البداية جاءت في زمن ازدهار الحركة التشكيلية السورية التي بدأت تتبلور وتتضح معالمها التي تزامنت مع نمو الإحساس الوطني بعد الاستقلال حيث لم تعد الحركة التشكيلية أسيرة لما تركه الاستعمار الفرنسي من ثقافة ( المدرسة الانطباعية )، بل تبلورت وكشفت عن حركة تشكيلية غنية بمدارسها وفنانيها بإبداعاتهم المتميزة والمبتكرة.
كانت فترة منتصف خمسينات القرن الماضي بالنسبة للفنان ( نذير نبعة ) بمثابة مرحلة تأسيس، فيها تعرف إلى حروفيات ( أدهم إسماعيل )و ( محمود حماد ) وفيها تعرف إلى الزخارف الفلكلورية للفنان ( نعيم إسماعيل )، كما بدا يتعرف على الحداثة من خلال الفنانين ( فاتح المدرس ) و( مروان قصاب باشي ) و ( برهان كركوتلي )، وفي هذه الفترة تعلق بالفن، وفيها تكونت لديه القناعة بدراسة الفن واختياره كطريق في الحياة.
بعد حصوله في عام 1958 على الثانوية العامة حصل على منحة لدراسة التصوير بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة ” وهناك قاده الفنانون: ( حسين بيكار وعبد العزيز درويش وعبد الهادي الجزار وحامد ندا )، إلى عالم الفن القديم: ( الآشوري والبابلي والفينيقي والفرعوني واليوناني والروماني )، والمعاصر بمختلف مدارسه “. ( 4 )
وفي كلية الفنون اتسعت آفاق الفن أمامه، فمن انطباعية( حسني البناني ) الغارقة في عرس من الألوان والضوء ورشاقة اللمسة، إلى بنائية التكعيبيين في تعاليم( عبد العزيز درويش ) العاشق للفنان ( سيزان ) أبي التكعيبية، كما أنه لم يشعر بالغربة أمام الأجواء السريالية التي كان يبدعها( عبد الهادي الجزار ) و( حامد ندا ).
لقد استوعب الفنان( نبعة )خلال وجوده بالقاهرة التي كانت تعيش في ستينات القرن الماضي فترة ازدهار فكري وثقافي في كل الفنون والآداب.. وتحفل بروح تجريبية خصبة.. تراث الفن التشكيلي المحلي والعالمي، وانعكس كل ذلك على أعمال مشروع تخرجه عام 1964، الذي اتسم ” بملامح من الواقعية الحديثة ـ المتحررة ـ من حيث بناء عناصر اللوحة والعلاقات بينها، وكان مضمون الأعمال، العمل والعمال “. ( 5 ) حيث صورهم في مجموعات مترابطة مع بعضهم، وأشعرنا من خلال تلك المجموعات باستمرارية العمل عندما أكد على حركة العمال.
” على الرغم من أهمية النتائج التي حصل عليها أثناء الدراسة، لكن تجارب ( نذير ) الفنية، كانت في مجملها دراسية، يلح فيها على ( التأليف ) ويقدم المضمون الاجتماعي بلغة فنية واقعية دقيقة، وينطبق ذلك على لوحته الهامة ( عمال مقالع الأحجار ) التي تدل على المستوى الفني المتميز الذي حققه في التعبير الواقعي، وخصوصًا في مجال ( التكوين )، الذي نراه حيًا متحركا، فيه الفهم الصحيح لمعالجة الموضوع.. ” ( 6 )
بعد عودته إلى سوريا اكتشف أن المفاهيم التي بنيت عليها أعماله حتى عام 1964 مفاهيم غربية تأسست عليها اتجاهات وأساليب، فقرر أن يقترب من تراثه الشرقي والعربي، والإسلامي منه بشكل خاص، فبدأت معه مغامرة بناء اللوحة على أساس ما تطرحه أعمال تراثنا من قيم جمالية.. ولذلك ارتبط بريف بلاده وفنونها بشكل خاص، وأتاحت له فرصة الإقامة في مدينة ( دير الزور ) للتدريس فيها، أن يبلور رؤية جديدة مختلفة تمامًا عما رسمه أثناء دراسته الجامعية، فبدأ رحلة جديدة مع الفن، تجاوز فيها المرحلة الدراسية، ركز فيها على العناصر والرموز الشعبية المستقاة من البيئة المحلية. بالإضافة إلى تناول حياة الإنسان وبشكل خاص الفلاحين والعمال، وعلاقتهم مع الأرض والحياة كمحور أساس في التعبير الفني، كما وجد في عنصر المرأة ما يساعده على التعبير، فأصبحت رمزًا للأرض وللوطن وحملت المفاهيم التي ارتبطت بها.
في منتصف الستينيات خاض الفنان (نذير نبعة) مغامرة بناء اللوحة الحديثة ذات البناء المتين، والتكوين المتماسك، على أساس ما تطرحه أعمال تراثنا من قيم جمالية، فتناول في معرضه الأول الذي أقامه عام 1965، في صالة الفن الحديث في دمشق، الأساطير القديمة والحكايات القادمة من أعماق الصحراء.. مثل (ننليل) و (عشتار) و (كاهنة مردوخ) و (خسوف القمر) و (ساعة التنفيذ) و (الزير) و (صرخة سيزيف). هذه الشخصيات والمشاهد الأسطورية لم يكن يعنيه من رسمها صنع صورة الحكاية أو صورة توضيحية للنص الأسطوري أو الملحمي، بقدر ما كانت غايته ابتداع شكل بصري لرموزها ومعانيها، وعلاقة ذلك بالحاضر.
هذه اللوحات ” تدل على امتزاج بين أكثر من عالم واحد، وعلى تداخل أكثر من فكرة في لوحة واحدة، فنحن نرى ( الأسطوري ) لأبعد الحدود، الذي أخذه من الأساطير القديمة في بلادنا، ومن الأساطير الشعبية، ومن الأساطير العالمية، إلى جانب ( الرموز ) التي تنوعت بين ( رموز تشكيلية ) لها طابعها الفني، كاللون الموحد الأزرق المخضر الذي يعطي المشاهد نغما حزينا، وبين ( رموز أسطورية ) إذ أضفى على ( سيزيف ) و ( انليل ) و ( إسرافيل ) و ( كاهنة مردوخ ) وغيرها المفاهيم الرمزية التي عبرت عن قضايا معاصرة تماما، و ( رموز شعبية ) أخذها من الحياة التي حوله، مثل ( الحوت يبتلع القمر ) و ( الزير ) وقدم عبرها رؤيته الجديدة، وهناك ( الموز السريالية ) التي أصبحت معروفة في الفن التشكيلي العالمي والتي أعاد استخدامها للتعبير عن أفكاره، مثل ( القواقع ) و ( المحار ) وغيرها “. ( 7 )
عكس هذا المعرض الأسلوب الخاص للفنان( نبعة )، ومثّل تجربة جديدة على صلة بالواقع وبعيدة عن الاتجاهات الفنية المختلفة التي تأثر فيها في مرحلة الدراسة، مثّل نهاية مرحلة، وبداية مرحلة جديدة.
بعد ذلك اتجه نحو جماليات النحت السومري، والتدمري، وجداريات ما بين النهرين، ورسوم الفخار والخزف، حيث استلهم من هذه الفنون الينابيع الأولى للجماليات الخاصة بالأمة، وكان هذا الهاجس قد لازم الفنان ( نبعة ) بعد معرضه الأول عندما سعى لـ ( خلق فن محلي أو فن عربي )، ثم سعى إلى الحداثة الفنية وجدد نفسه في المعرض الثاني الذي نظمه في عام 1966 في صالة ( الصيوان ) بدمشق، عندما قدم الفن الذي يملك وحدة الأسلوب والصيغة التشكيلية المتماسكة.
في عام 1967 وتحديدًا بعد نكسة حزيران خضعت تجربة ( نبعة )لاختبار وتبدلات هامة، وقد هزته النكسة وهبطت عليه كالصاعقة، كما هزت غيره من الفنانين لما حفلت به من احتلال للأرض وضباع للقدس واقتلاع للإنسان من أرضه… كانت تلك الأحداث عميقة التأثير على تجربته الفنية مما جعله يعيد النظر في تجربته الفنية، فقدم صياغة جديدة قادرة على التعبير عن الأحداث عندما انتقل إلى الموضوع السياسي ورسم مجموعة من الموتيفات، وأغلفة كتب ومجلات تتحدث عن الواقع الفلسطيني..
كما ركز في هذه المرحلة على رسم الفدائي الفلسطيني الذي ظهر في تلك الفترة على مسرح الأحداث ( كمنقذ من الخيبة والإحباط )، وكغيره من فناني تلك المرحلة رسم الفدائي عبر علاقات أسطورية كشكل ومحتوى، وأعطاه صفة الاستمرار والخلود.. كما نفذ مجموعة من الرسوم الغ رافيكية ( بالأبيض والأسود ) مستوحاة من قصائد شعراء الأرض المحتلة، تعود للشاعر( سميح القاسم ) و( محمود درويش ) و( توفيق زياد )، و( سالم جبران )، و( راشد حسين )، وقد وفق( نذير )بين نبل الموضوع وأهميه، واللغة الفنية العالية التي اقتصرها على الخطوط ( الرسم ) وعلاقة الأسود والأبيض، وهذه الأعمال تحديدًا، قدمته رسامًا مهمًا، ومؤلفًا ( غرافيكيًا ) من الطراز الرفيع “. ( 8 ) كما صمم ( ماكيت ) مجلة ( فلسطين الثورة )التي كانت تصدر في ذلك الوقت من دمشق، بالإضافة إلى تنفيذه لـ ” مجموعة متميزة من الملصقات والشعارات، أخذت طريقها إلى العالم، عبر المعارض والمهرجانات والمؤتمرات والمنشورات المختلفة، وهذا الالتزام شيء طبيعي بالنسبة لنذير نبعة، الذي يعتقد انه لا يوجد فنان غير ملتزم بالقضية. فالفنان الذي لا يتخذ موقفًا إزاء قوى الظلام والشر التي تستهدف حضارة أمته بأكملها، ليس فنانًا بالتأكيد. فالفنان هو القلب المبدع للحضارة، وبالتالي هو المدافع الأول عنها “. ( 9 )
لكن الالتزام كما يراه ( نذير )لا يعني أن يُمسخ العمل الفني إلى عمل إعلاني يقع في السطحيّة، وهو ليس وعظًا أو إرشادًا، وإن كان من وظيفته الأساسية أن يهيئ لإحداث تغيير عميق في جذور الحياة الاجتماعيّة. فالفنان العظيم هو ذلك الذي يُعبّر بفنه عن وجدان الشعب، وضمير العصر “. ( 10 )
” ما يلفت الانتباه في أعمال هذه المرحلة، عدا عن التزام نذير الصريح والقوي والصادق، بقضايا وطنه وأمته، الصيغة الفنيّة العالية التي عكس من خلالها، هذا الالتزام، حيث جمع فيها بين ( ثوريّة ) الموضوع و ( فنيّة ) أداة التعبير، الأمر الذي شكّل رافعة للشكل والمضمون في أعماله، وعكس بأمانة، المقولة التي تؤكد على ضرورة مواكبة الشكل والمضمون، في العمل الفني، لا سيما العمل الذي يتصدى لقضايا الثورة والتحرر والنضال، والذي جاء لدى العديد من الفنانين التشكيليين العرب، ضعيفًا وبعيدًا، عن الجوهر الحقيقي للقضايا الكبيرة والحساسة التي تصدى لها “. ( 11 )
كما قام في هذه الفترة بتصميم أغلفة ورسوم الكتب المدرسية، بالإضافة إلى عمله في مجلة الطليعة السورية ما بين عام 1971 و 1974 ككاتب ورسام صحفي، وكتب عن بعض المعارض التشكيلية، وهو أيضًا من الذين أسسوا مجلة (أسامة) للأطفال، كما أنجز بعض الديكورات لبعض مسرحيات المسرح القومي وديكورات لمسرح العرائس.. وهكذا استطاع الفنان (نذير نبعة) بخبراته المتنوعة والذي اتخذ من انفعالاته مصدرًا من مصادر التعبير أن يتفاعل مع الأحداث، وأن يربط الواقعية بالمواضيع السياسية، وأن يُسخِّر فنه للتعبير عن المضمون الذي يريد.
وقد ساهمت هذه الفترة بان يلتقط الفنان (نذير نبعة) أنفاسه ويستعيد توازنه ويعود إلى اللوحة بنفس اختلط فيه الهم الفكري بالهم الجمالي.. فابتعد عن المباشرة في التعبير، وبدأ يقدم موضوعات ضمن مفاهيم جديدة وبحلول هندسية للتكوين، لكن ضمن بناء حديث للوحة، فلجأ إلى التراث الحضاري السوري القديم، وكذلك عاد إلى الكثير من الأشكال الآشورية ودمجها بالجوانب الشعبية، وضمن هذا السياق لجأ إلى ملمس السطح الخشن للأرضية، وكذلك للون الصحراوي، ولجأ إلى الرموز المختلفة ليعبر عما يجول في أعماقه، فرسم المرأة التي تعزف بالناي، والبيوت الشعبية والقباب والمآذن والزخارف التقليدية.. وهكذا دلل على عمق ترابط المرأة مع تلك العناصر التي أعطت الإيحاءات المرتبطة بمدينة دمشق التي عاش نذير نبعة فيها، وكشفت هذه المرحلة عن قدراته التعبيرية المتميزة.
ظلت تجاربه تنحو هذا المنحى حتى سافر في عام 1975 إلى فرنسا لمواصلة دراسته الفنية في المدرسة العليا للفنون الجميلة بباريس، وقد شغلته الدراسة الثانية التي كانت مهمة بالنسبة له حيث وضعته بشكل مباشر ومواجه مع الثقافة الغربية، وبشكل مباشر مع الفن العالمي من خلال المتاحف الفنية المليئة بالتراث الإنساني الكلاسيكي وكذلك من خلال المعارض الفنية الشاملة لفنانين عالميين، أمثال: فان كوخ، ماتيس، ماكس أرنست، سلفادور دالي، فرنسيس بيكون وغيرهم.. وقد أتاحت له مدينة باريس مشاهدة التراث الفني الإنساني عن قرب وليس من خلال الكتب أو الصحف والمجلات.
وقد شكلت هذه الفترة بالنسبة لـ (نذير نبعة) البداية التي مهدت الطريق أمام مرحلة جديدة من التعبير الفني وهو ربط ( التجريد بالواقع )، فرسم في هذه المرحلة ( النباتات، والمنظر، والوجه، والطبيعة الصامتة… )، ولكي يزيد الفنان نذير نبعة من عمق صلته بالواقع رسم في باريس ” العديد من الأعمال القلمية التي تكشف عن قدراته الفنية العالية في الرسم، وعاد إلى هذا الواقع يحلله إلى صيغ فنية هندسية، على أسس معمارية، ويعمق هذا التحوير للواقع حتى توصل غلى التجريد الذي نحس بأنه مشبع بالواقع، ومستخلص معه، ووصل إلى نتيجة هامة، وهي أن على الفنان ألا يقطع الصلة مع الواقع بشكل نهائي، ليفرق في الجوانب الذهنية المحضة، وألا يكون الحل الفني على حساب ( المضمون الفكري )، وأن يخلق التوازن المطلوب من الفنان “. ( 12 )
وقد ساعدته الدراسة على الوصول إلى حلول مختلفة، جعلته يتجاوز كل الأشكال الفنية التي لجأ إليها في الماضي، ولهذا نستطيع اعتبار ما رسمه في هذه المرحلة من لوحات لم يكن يتطرق إليها في الماضي، يمثل بداية مرحلة جديدة وأسلوب جديد في تجربته الفنية.
بعد عودته إلى دمشق، تجاوز كل الأشكال الفنية التي لجأ إليها في المراحل السابقة ولجا إلى الأساطير والرموز المستقاة من الحياة الواقعية، ولعل أهمها ( المرأة )، وكان الفنان نبعة، صريحا في تحديد قيمة المرأة: الحبيبة، الزوجة، الأم، أو المرأة كجزء من البقاء والتطور… وجعل من رمز المرأة بمعناه الواقعي أو الرمزي، قيمة فلسفية واقعية لمعنى أو محتوى ” الأمل.. وقيمة تتجاوز معنى الأمومة إلى: المعنى الشامل، والمعبر عن معنى الحياة.
و(نذير نبعة) الذي لم يغفل قط الاستفادة من التراث الشعبي – الفلكلور – حاول أن يربطه بالمرأة ويجسده بعدة جوانب: تارة شكلية في رصد الحياة اليومية، ومضمونية في التعبير عن المحتوى، وكذلك، في الاستفادة من الأشكال المعاصرة للتعبير عن مضامين يومية معاشة ومعروفة. ولوحاته الدمشقية تمثل هذه الفكرة بصورة تجعلنا أن نفهم أن الفنان استفاد من التراث الشعبي كتوجه لدراسة الفن الشعبي: الزخارف، والفن اليومي – إن جاز التعبير – المرتبط بحياة الناس، وتحويل ذلك، ومن خلال دراسة الفنون المعاصرة، إلى رؤية تجعل من الحاضر القيمة الأولى، ولربما تجيء الأعمال الفنية الدمشقية تجسيدا لهذا التوجه ففي هذه الأعمال التي تتسيدها المرأة استفادة شاملة لا من التراث العربي القديم، في الأسطورة وفي الأحاسيس، فحسب، وإنما من التراث الشعبي الحي، أصلا ومن هنا تتجسد قيمة أعمال (نذير نبعة) الذي رسم المرأة في عشرات الأعمال الفنية وهي تقف أمام المرآة، أو مع حصان، أو أمام البحر.. وقدمها ضمن أجواء دمشق الحميمة، محاطة بالزخارف والخشب الدمشقي المصدف، والزجاجات المتنوعة، والأزهار، ونباتات الزينة، وثمار الرمان، والياسمين، وسنابل القمح، والفواكه بكافة أنواعها، والأواني الخزفية، والصدفيات، والآلات الموسيقية ـ الناي والعود ـ والمصابيح والسيوف والمباخر وأطباق القش مع تركيزه على الجواهر والحلي، من أساور، وأقراط، وعقود من الذهب والفضة والخرز… التي تتحلى بها المرأة، إلى جانب إبراز ثنيات ثوب المرأة الذي يسيطر على مجمل مساحة العمل الفني مما أضفى الحيوية والحركة على الجو العام للوحاته.
لوحات هذه المرحلة والتي تمثل فترة ما بعد منتصف السبعينات، أطلق عليها ( الدمشقيات )، وفي هذه اللوحات ” تبدت معلميّة( نذير ) في التوفيق بين ما تزخر به الحياة الشعبيّة السوريّة من مشغولات ورموز ومفردات وبين المرأة التي قدمها بوضعيات وأشكال مختلفة. ففي بعض الأعمال، اكتفى بوجهها ويديها، وفي أخرى، اخذ جذعها العلوي مع اليدين، أو كاملة، محاطة بغطاء الرأس والثياب الشفيفة المتناثرة التي تغطي كامل الجسد، أو تتجمع منحسرة عن الصدر واليدين والرجلين والوجه، إضافة إلى حشد كبير من المنمنمات الدقيقة التي صوّرها بواقعيّة تصل حد الصورة الضوئيّة لدقة تفاصيلها، وبراعة ألوانها، وقوة رسمها. لقد صرف نذير في انجاز دمشقياته، وقتًا وجهدًا كبيرين، باحثًا ومنقبًا، عن أفضل إطار لتقديم جماليات المرأة الدمشقية ومحيطها الشعبي والطبيعي المحقون بالخيال وتداعيات الذاكرة البصريّة الأولى للفنان التي ( كما يبدو ) أحاطت بتفاصيل هذا العالم الذي سرعان ما تداعى وارتمى فوق سطح اللوحة، بمجرد تمكن الفنان من امتلاك أدوات تعبيره، والخبرة في التعامل معها، بفعل الدراسة الأكاديمية والممارسة والاطلاع “. ( 13 )
ومن خلال ما أشرنا إليه ” لا نرى شيئا في لوحته يضعه عبثًا، ولا نحس بأنه يرسم شيئًا للزينة وحدها لأن كل العناصر لها مدلولاتها التي لا تقل أهمية عن وجود المرأة. وهكذا توصل ( نذير نبعة ) إلى صياغة جديدة، قريبة من المشاهد ومفهومه منه، لكنها تحمل الدلالات العميقة التي تؤكد لنا على أن ( نذيرا ) يعطي تجربته عمقا، ورموزا خاصة، تجعل لوحته غنية، وقادرة على إعطاء كل المعاني التي يريد، وتقدم الأفكار اللامتناهية، التي تفترض وجود الرؤية العميقة التي تربط الظاهر بما هو عميق ورمزي “. ( 14 )
” وهذا هو الأسلوب الذي لجأ إليه حين رسم لوحاته الهامة مثل لوحة ( الشهيد ) أو ( عشتار تزور الفرات ) أو ( خولة ) وغيرها من الأعمال الهامة، التي عبرت عن رؤية متميزة، فيها الرموز والصيغ الفنية المتداخلة مع بعضها والتي ارتبطت به وحده “. ( 15 )
في عام 1996 شهد جنوب لبنان مجزرة مروعة ارتكبها الصهاينة بحق أهالي قرية ( قانا ) وذهب ضحيتها العشرات من الأطفال والنساء والشيوخ، وقد هزت هذه المجزرة مشاعر الفنان( نذير نبعة ) الذي تفاعل مع الحدث ورسم مجموعة من اللوحات تمثل ( وجوه الشهداء ) بتقنية ( الحبر الأسود على الورق ).
وعندما اختار الفنان نبعة التعبير عن ( قانا ) لم يتبع أسلوبه الزخرفي ( الجميل )، بل قادته أفكاره في التعبير إلى الاختزال في استخدام الألوان واقتصارها على اللون الأسود الذي عكس قوة في الخطوط وكذلك حدة في التعبير، مع إهمال نسبي للجانب الزخرفي، الذي طالما أثّر على أعمال (نذير نبعة). إن ما قدمه فناننا من أعمال فنية في هذا الموضوع تدل على وعيه بالقضية وبتأثيرات العمل على المشاهد، كما أن شكل الوجوه التي رسمها، تعكس تماسك في التعبير عن الألم والموت.
ما عبر عنه الفنان (نذير نبعة) ، لا ينفصل عن الواقع السياسي الذي تمر به الأمة العربية، حيث عبرت لوحاته عن موقفه الملتزم بقضية الإنسان وقضية الدفاع عن أرضه، ووطنه، ووجوده، وكرامته ومصيره.
تجليات..
في الألفية الجديدة قدم (نذير نبعة) تجربة جديدة أطلق عليها اسم ( تجليات )، هذه التجربة التي تعتبر من نوع خاص، كانت بمثابة تتويج لكل تجاربه الماضية، واستراحة بعد 55 عامًا من العطاء المتواصل والمتميز، لذلك نستطيع القول بأن ( نذير نبعة ) الذي ابتعد في صياغاته عن الأجواء الشرقية التي اتسمت بالجمالية والتزينية، انطلق هذه المرة من اللون إلى آفاق الخلق الواسعة، واعتمد في بناء لوحته على حركة الألوان، وعلاقات المساحات وتناغمها، ووظف عجينة اللون التي توحي بأشكال الصخور والطبيعة، لتقديم لوحة تجريدية ضمن مفاهيم معاصرة للفن، وتلك الأشكال التي استعان بها من الطبيعة، منبثقة من مشاهدات الفنان، لجروف صخرية شاهقة اكتشفها أثناء تأملاته ـ على حد قوله ـ لبعض المناطق الجبلية المحيطة بمدينة اللاذقية.
ومن خلال هذه الخلاصة نصل إلى نتيجة مفادها أن الفنان (نذير نبعة) سعى إلى إتقان العمل الفني دون إهمال الجانب التقني أو لم يكونا ( العمل الفني والتقنية ) على حساب الموضوع أو الأفكار المستقاة من الطبيعة، كمصدر مهم وأساس، لأعماله، كما استفاد من التراث العربي الزخرفي وتحديدا الفلكلور الشامي بالذات، استفادة تتجسد في الخطوط واللون والتقنية.. وهذا كان من الممكن أن لا يتأتى لولا إدراك وفهم وفلسفة الفنان الذي ارتكز بشكل أساس على فهم معاصر يتمثل بصياغة الأفكار والعواطف ضمن حدود العمل الفني.
لقد توصل (نذير نبعة) إلى أسلوب يناسب أفكاره. لذلك عكست أعماله الفنية عبر مراحله الفنية المختلفة والمستقاة من الواقع والتراث والملامح الشعبية والمحلية.. أصالته وإخلاصه، وأعتقد أن الفنان نبعة الذي قدّم رؤية تجديدية للتراث، والتي تعتمد على الجذور ولا تهمل التجديدات المعاصرة، قد أعاد للأذهان فكرة أن الفن لا ينفصل عن البيئة والواقع.
أخيرًا، منح (نذير نبعة) في العام 2005 وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة، عرفانًا وتقديرًا لتجربته الفنية المتميزة، وما قدمه من إخلاص عبر 50 عامًا لرسالة الفن، ومحبة الوطن، وانتماء أصيل للأمة، وسمو في المناقب.