الفنانة التشكيلية المصرية انـجــى أفــلاطــون عاشقـة الفن والحريـة
كتب / غـازى انـعـيـم
تعد الفنانة ” انجى أفلاطون ” من أهم فنانات الحركة التشكيلية فى مصر طوال تاريخها الحديث بشكل خاص، والوطن العربى بشكل عام، فقد كان لها دور فعال ومؤثر على مدار تاريخ الحياة الفنية فى مصر، فقد جسدت فى أعمالها فترات مضيئة من تاريخ مصر الحديث، وتمكنت من إثبات وجودها فى حقبة كانت القيود المفروضة على المرأة كثيرة، خاصة إذا ما أرادت احتراف العمل الفنى، فتمردت على طبقتها الأرستقراطية بخروجها من محيط أسرتها إلى العمل اليومى فى زمن كانت سبل الترقى الاجتماعي مفتوحة أمام أفراد طبقتها.
ونشطت بالعمل الاجتماعى والسياسى، ومزجت حب الوطن بحب الفن، فرسمت الريف والواحات والبحر الأحمر والصحراء، وأكدت على البيئة الشعبية من خلال تصوير الفلاحين والفلاحات والعمال..
ولم يقتصر اهتمامها على المواضيع المصرية، بل التفتت إلى كافة القضايا القومية فرسمت بريشتها نضال الفلسطينيين وعمليات المقاومة الوطنية فى جنوب لبنان، وكشفت من خلال لوحاتها عن أهمية الضوء كقيمة جمالية فى الحياة والفن فى آن واحد.
وكانت رحلتها مع الفن عبارة عن مراحل فنية، كل مرحلة منها جزء من المرحلة التى كانت تعيشها مصر، كما أنها عبر رحلتها التشكيلية الطويلة ساهمت برفع الفن القومى إلى مستوى العالمية.
ـ من هى فنانتنا؟
ـ وماذا عن رحلتها التشكيلية؟
ولدت الفنانة التشكيلية المصرية ” أنجى أفلاطون ” عام 1924 م، فى بيئة أرستقراطية منفتحة تقدر الأدب والفنون، كان والدها ” حسن بك أفلاطون ” أستاذًا وعالمًا فى ميدان ” الحشرات “، فهو الذى افتتح قسم دراسة علم الحشرات فى كلية العلوم بالجامعة المصرية ( جامعة القاهرة حاليًا )، كما تولى منصب عميد كلية العلوم.
أما أمها ” صالحة أفلاطون ” كانت سيدة من سيدات المجتمع النشيطات، وهى أول مصرية تعمل بتصميم الأزياء، وقد افتتحت عام 1936 م، بالتعاون مع طلعت حرب باشا مؤسس صناعة النسيج فى مصر: ” محل صالحة للأزياء الراقية “، وكان أول مشغل للأزياء يقام بأيد عربية ورأسمال عربى، فى زمن كان فيه عمل المرأة نقيصة تؤخذ عليها.
وكان لها شقيقتان: الصغرى فنانة تشكيلية توفيت فى سن مبكرة، أما شقيقتها الكبرى، أديبة معروفة بين المتحدثين بالفرنسية، تكتب قصص الأطفال منذ مراهقتها المبكرة، وكانت تسلم ما تكتبه لأختها ” انجى ” التي تضع لها رسومًا من خيالها، ثم يُنشر ذلك فى إحدى المجلات الفرنسية التى كان يعمل بها زوج خالتها، الكاتب والناقد المعروف ” أحمد راسم “، وكانت ” أنجى ” فى العاشرة من عمرها، بينما كانت في المدرسة شيئًا آخر، فقد كانت ترفض أن تتحول إلى ” كارت بوستال “.
فى المرحلة الدراسية الثانوية كان والدها يحاول أن يوجه ميلها الفطرى للفن بتكليفها برسم المناظر الطبيعية نقلاً عن الصور المطبوعة وتكبير الصور الشخصية واستنساخ بعض الأعمال الفنية العالمية، فكانت تستجيب مرة، وتنفر مرات، ولكنها تمردت على هذا النوع من الرسم الذى يلغى ذاتيتها ويركز على النقل الأمين بغير انفعال ويجعل عينها كعين الكاميرا… وطلبت من والدها بأن يكون مدرسها أستاذًا أو فنانًا.
نقـطـة التحـول
عندما حدثت نقطة التحول الرئيسية فى حياتها، كان عمرها لا يتجاوز ستة عشر عامًا، فقد استقر رأى الأسرة على أن تأخذ ” أنجى ” دروسًا خاصة فى الرسم، وقد سمحت علاقة عائلتها بأهل الفن والفكر أن تتصل بالفنان الراحل ” كامل تلمسانى ” الذى كان معروفًا كأحد مؤسسى ” جماعة الفن والحرية ” التى كانت تدعو لإتباع المذهب السريالى فى الفنون الجميلة وهى أول جمعية فنية فى مصر تدعو إلى تحرير الفن من قيود الأكاديمية والشكلية التى كانت ( موضة ) ذلك العصر، قبل أن يعمل بالإخراج السينمائى الذى تركه وسافر إلى بيروت ليعمل مستشارًا فنيًا لفرقة إخوان رحبانى حتى وفاته.
الدرس الأول
فى الدرس الأول طَلب منها الفنان ” تلمسانى ” أن ترسم ( لوحة ) ليراها فى الزيارة الثانية، وعلى أساس حُكمه يُقرر كيف يتعامل مع هذه التلميذة الأرستقراطية، وخلال أسبوع واحد رسمت” انجى ” ما يجول فى داخلها، لوحة تعبر عن رفضها وتمردها على المجتمع.
فى الزيارة الثانية: فوجئ ” التلمسانى ” باللوحة التي رسمتها ” انجى ” بأنها اتجهت اتجاهًا غير متوقع، بل والنقيض لكل ما يراه فى حياتها، فقد كانت لوحتها محملة بالرموز التى صورت فيها نفسها بشعر طويل وهى تحاول الخروج من فتحة فى شجرة تحاصرها النيران وتحيط بها الثعابين، وقد تركت الفنانة الصغيرة لنفسها العنان، فتحركت فرشاتها بجرأة وحيوية تنم عن شخصية قوية وكان ذلك بداية الموقف الذى استمرت عليه ” انجى ” حتى وفاتها.
انبهر أستاذها بالشحنة التعبيرية فى تلك اللوحة، وأيقن من أن فى داخل شكلها الرقيق بركانًا مضادًا لقهر الإنسان وحصاره، فقرر أن يهتم بها بإعطائها المبادئ الأولية فى الألوان، وعرَّفها بتاريخ الفن والاتجاهات الفكرية والسياسية فى العالم، كما منحها فرصة الظهور للتمرد الداخلى، وفتح لها نافذة كبيرة مع العالم، فألهب فيها الحماس للقضايا الوطنية والقومية والنزول إلى الشارع المصرى وهى ذات التربية البرجوازية، إذ كانت حتى الثامنة عشرة من عمرها تتحدث بالفرنسية ولا تعرف إلا القليل من لغتها العربية، لكن عشقها للفن والفكر دفعها إلى دراسة اللغة العربية وإجادتها، وقد حصلت على شهادة التوجيهى ( الثانوية العامة ) ثم واصلت دراسة اللغة والتحدث بها حتى أجادتها، كان هذا هو طريقها للاندماج بالشعب العربى المصرى، لأن عائلتها من العائلات التركية التى استقرت فى مصر.
تقول الفنانة: ” انفتح لى باب الفن على يدى الفنان التلمسانى، ومنه فهمت ما هو الفن، وعرفت انه تعبير عن المجتمع، علمنى كيف أرى وكيف أنسى كل القيود. وعلى يديه قرأت تاريخ الفن فى العالم “.
وفى عام 1941 م، كانت ” أنجى ” تلميذة بمدرسة الليسية وقت تأثرت وقتها بما قرأت عن الثورة الفرنسية، وصورت كل ما خطر على بالها من أحلام وكوابيس بطريقة روائية، فرسمت لوحة ثانية ” الوحش الطائر ـ 1941 م “، تُمثِّل فتاة تجري فوق صخرة، ويجري خلفها طائر متوحش رهيب الهيئة.. وقد عبرت الفنانة عما يجيش بداخلها من رغبة فى التحرر والتمرد على المجتمع دون معرفة الأسباب، ودون وجود خط واضح يحدد ماذا بعد التمرد!!
جماعة الفن والحرية
لم يمض عام على الدرس الأول، حتى كانت التلميذة ضمن جماعة ” الفن والحرية ” الطليعية، وقد شاركت فى معرض الجماعة الثالث عام 1942 م، ومن بين لوحاتها، لوحة ” الحديقة السوداء ـ 1942م، وتمثل جبال وأشجار على هيئة آدمية، تود لو تخلع جذورها التى تربطها بالأرض، فكانت مفاجأة المعرض كونها أصغر الفنانين المشاركين سنًا، وتردد اسمها بين أسماء جورج حنين وكامل التلمسانى وفؤاد كامل ورمسيس يونان.. وغيرهم.
وقد كتب أحد النقاد يقول: ” أنجى أفلاطون ذات السبعة ربيعًا، تلميذة التلمسانى منذ عامين، رائعة هى هذه المناظر الليلية، بخضرتها المتداخلة وكأنما هى أدغال من الأفاعى.. وكأنها ساحرة ركبت فرشاتها..
لقد كشف التلمسانى عن مواهبه كأستاذ ممتاز، فلم يكتف بأن جنب تلميذته تأثير إنتاجه هو، بل علَّمها كيف تستخدم ألوانها على نحو لم يعد هو نفسه قادرًا عليه. ولو قدر لهذا النجاح ألا يدير رأس ” أنجى ” سوف تكون رسامة من المستوى الذى نحبه “.
كما كتب المفكر جورج حنين فى نقده للمعرض يقول: ” إن مفاجأة المعرض الثالث للفن المستقل تتمثل فى تنوع أشكال الخضرة البالغ حد الهذيان فى لوحات أنجى أفلاطون، هذه الفنانة الشابة صغرى فنانى مصر ” المستقلين “، تستثمر الإمكانيات الفنية ـ المحدودة نسبيًا ـ المتاحة لها بذكاء نادر “.
كما شاركت فى معرض عام 1943 م، ومن لوحاتها، ” انتقام شجرة ـ 1943 م، وتمثل شجرة كأنها كائن بشرى، تسيل دماؤها لِتُغرق حطابها عقابًا وانتقامًا، وكانت مفاجأة مهدت لمرحلة جديدة من حياة انجى أفلاطون، وفى ذلك تقول: ” بدأت أقرأ، وأحضُر المحاضرات والندوات التى كانت تقام فى نادى الأبحاث العلمية، وهو ملتقى المثقفين الثوريين حينذاك واكتشفت لماذا أنا متمردة، كنت جزءاً من مجتمع متمرد على القهر والاستعمار، لذلك كانت المرحلة الثانية من رحلتى هى مرحلة العمل الوطنى “.
لقد فتح لها هذا النشاط نافذة ثقافية أطلت منا الفنانة الصغيرة على حقيقة مصر، ومشاكل مواطنيها خلال فترة الحرب العالمية الثانية، وقد انبهرت بالأسلوب السريالى الذى يحطم الأشكال التقليدية، ويهتم بإدهاش المشاهد أو القارئ، وقد طغت على أعمالها فى هذه المرحلة المبكرة الخطوط العريضة والألوان الداكنة.
في معترك السياسة
فى النصف الثانى من الأربعينيات انقطعت انجى عن أستاذها التلمسانى وجماعة الفن والحرية لتدخل معترك الحياة السياسية والعمل النسائى الاجتماعى، فقد أسست عام 1945 م، مع زميلاتها أول حركة نسائية تقدمية جديدة فى مصر ” رابطة فتيات الجامعة والمعاهد “.
فى عام 1945 م، سافرت إلى باريس لحضور أول مؤتمر نسائى بعد الحرب العالمية الثانية، وقد ربطت فى كلمتها بين وضعية المرأة والاستعمار والرجعية.
ويعتبر هذا المؤتمر من أهم العلامات فى تاريخ الحركة النسائية العالمية، حيث اختارت هيئة الأمم المتحدة عام 1975 م، كعام عالمى للمرأة بمناسبة مرور ثلاثين عامًا على انعقاد هذا المؤتمر، ولم تعش الرابطة طويلاً بسبب معاهدة إسماعيل صدقى بك التي أوقفت نشاط الجمعيات الوطنية.
واستمرت انجى فى كفاحها وشاركت خلال الأربعينيات من القرن الماضى فى الحركة الوطنية من خلال لجنة الطلبة والعمال، وكانت ضمن اثنتى عشرة فتاة فى اللجنة التنفيذية العليا. وفي عام 1946 م، شاركت فى المؤتمر التأسيسى لاتحاد الطلبة العالمى فى براغ، وفي عام 1947 م، شاركت فى مهرجان الشباب العالمى.
فى هذه الفترة كانت انجى من ضمن اللائي تقدمن بمطالب المرأة ” الأجر المتساوى للعمل المتساوى “، ” وحق الانتخاب للمرأة المتعلمة ” وباختصار تركت انجى الرسم على مدى عامين ” 1946 ـ 1948 “، وانخرطت بشكل كامل بالحركة الوطنية إلى جانب زميلاتها الدكتوره لطيفة الزيات وسعاد بدير وهدى شعراوى..
لم تكن عائلة انجى غائبة تمامًا عن ما تقوم به، بل كانت تحاول تقويمه من وجهة نظرها، لذلك حاولت أن تبعدها عن مصر، وعن السياسة، وحجتها فى ذلك السفر إلى باريس لاستكمال دراسة الرسم، لكن ” أنجى ” رفضت الفكرة لا كُرهًا بالفن، لكن التزامًا بمسؤولياتها الوطنية، ومن أجل ذلك قررت أن تعمل حتى لا ينحنى الخط الذى رسمته لحياتها أمام الضغط الاقتصادى.
وتحولت ” انجى ” إلى الكتابة، كأداة أسرع وأوضح فى توصيل أفكارها والتعبير عن مطالب المرأة بعد الحرب العالمية الثانية, وفى عام 1947 م، صدر لها كتاب بعنوان ” 80 مليون امرأة معنا ” كتب مقدمته عميد الأدب العربى د. طه حسين، وهو يتحدث عن الحركة النسائية فى العالم وضرورة ارتباط الحركة النسائية المصرية بها.
العودة إلى الرسم
لكن من قال أن الفنان المبدع يستطيع أن يتوقف عن الإبداع؟
كان على انجي أن تتعلم أصول الرسم من جديد ومن البداية، حتى تتمكن من أسرار الصنعة، مدركة أن الفن إذا كان رسالة حياة، ينبغى أن يكتمل بالتدريب اليومى على أيدى الأساتذة الكبار، فترددت ما بين عام ” 1948 ـ 1954 ” على مراسم الفنانين ومراكز تعلم أصول الرسم.
وعندما عادت إلى الرسم اختارت مصر لتكون أداة التعبير عنها، فقررت أن تتمرد على الأوضاع الاجتماعية لبيئتها الموروثة عندما أصبح ما تحمله من آراء وأفكار ليس مجرد بذخ أو رفاهية فكرية وإنما عقيدة راسخة فإذا بها تقرر أن تعتمد على نفسها فى كسب قوتها وحريتها، فعملت فترة مقابل ستة جنيهات فى الشهر بمعمل للتحاليل الطبية، ثم مدرسة للرسم واللغة الفرنسية فى المدرسة التى تعلَّمت فيها.. كما عملت بالصحافة وكانت مسئولة عن صفحة المرأة فى جريدة ” المصرى ” وكان هذا المنبر يُمثل وسيلتها لنشر آرائها وأفكارها.
وفي عام 1948 م، تزوجت من محمد محمود أبي العلا، وكان يومئذ وكيلاً للنيابة، فشجعها على العودة للأصل، أى للرسم، ومرة ثانية لجأت للفن كى تُعبر عن مصر، فاتجهت إلى الريف الذى ظل من ذلك التاريخ وحتى وفاتها موضوعها المفضَّل، تصور طبيعته وفلاحيه وفلاحاته…
وفي عام 1949 م، أصدرت كتابها الثانى بعنوان ” نحن النساء المصريات ” الذى يشرح القضايا الاقتصادية والاجتماعية للمرأة المصرية ويحدد مطالبها قبيل منتصف القرن العشرين، وقد كتب مقدمة هذا الكتاب المؤرخ المصرى عبد الرحمن الرافعى.
وفي عام 1951 م، نشرت كتابها الثالث بعنوان: ” السلام والجلاء ” معبرًا عن ارتباط قضية السلام العالمى، بجلاء الإنجليز عن أرض مصر، وقضايا التحرر من الاستعمار فى العالم.
المعرض الأول
أقامت الفنانة معرضها الخاص الأول فى شهر مارس عام 1952 م، بقاعة ” آدم ” فى القاهرة، أى بعد حريق القاهرة وقبل قيام الثورة، وقد دارت مواضيع لوحاتها حول ظروف المرأة المصرية الفقيرة، المستلبة، المغلوب على أمرها من كل جانب، والمعرض كان صرخة احتجاج نلمسها من عناوين اللوحات مثل: ” زوجة الأربعة ” و ” روحي وأنتِ طالق “.. تعبيرًا عن هيمنة الرجل على مقدرات المرأة، كما احتوى المعرض على عدد من اللوحات التي تمثل صورًا للمقاومة الشعبية والمقاومة النسائية التى كانت فى بور سعيد ضد قوات الاحتلال البريطانى، منها واحدة بعنوان ” لن ننسى ” تمثل شهداء 14 نوفمبر ( شهداء معارك قناة السويس ).
كان أسلوبها فى هذا المعرض تعبيريًا وألوانها قاتمة أحيانًا، ويسود اللوحات جو مشحون، وقد كان الإنسان هو العنصر الرئيس فى أعمالها.
توالت معارضها بعد ذلك، وحصلت فى عام 1956 ـ 1957 م، على جائزتين من معرض صالون القاهرة الذى تنظمه سنويًا جمعية محبى الفنون الجميلة في مصر.
وفى عام 1957 م، توفى زوجها وهو فى الرابعة والثلاثين من عمره، وعندما كانت تذكره الفنانة كانت تقول: “.. كان إنسانًا عظيمًا ومتحررًا “.
ورفضت أن تتزوج مرة أخرى، وتعلق بالقول على ذلك:” من الصعب أن تجد الإنسان الذى يقبل المرأة المتحررة كزوجة، ومن الصعب أن تجد إنسانًا متقدمًا فكريًا ويطبق أفكاره فى الواقع الفعلى، فيقبل أن يكون لزوجته عمل وفن تكرس له جل وقتها “.
فى عام 1959 م، نظمت الإدارة العامة للفنون الجميلة والمتاحف بمصر معرضًا لأعمالها، سُجلت فى مقدمته كلمة كان قد كتبها الفنان المكسيكى المناضل ” جوزيه سيكيروس ” عندما زار مصر وشاهد أعمالها عام 1957 م، بعد العدوان الثلاثى على مصر، ويقول ” سيكيروس ” فى كلمته: ” اتخذت انجى أفلاطون الطريق إلى فن اجتماعى وواقعى فى نفس الوقت، ويبدأ من الإحساس العميق بالقومية ويتحرك بتصميم فى المجالات الفنية مع الكائنات والحياة الكاملة للناس فى بلدها.
ولطريقة رسمها خواص فنية جيدة سواء فى الشكل واللون أو الملمس، وهى لا ينقصها شيء مما يقود إلى الواقعية الحديثة: الواقعية الجديدة الأكثر بلاغة وأغنى من الواقعية القديمة، الواقعية التى سارت نحو احتواء كل ما سبقها من أبحاث واكتشافات، كما أنها حققت اكتشافات عظمى تشير إلى مستقبل هذا الاتجاه، إنها تسير بكل ما لديها من عاطفة فياضة وفردية نحو فن قومى ذي أصداء عالمية “.
وهذا المعرض كان تأكيدًا لمعرضها الأول من حيث الاحتفال بالإنسان الذى احتل قلب اللوحة، فركزت على العاملات والفلاحات وعمال المصانع.
أعوام السجن 1959 ـ 1963
اعتقلت فى عام 1959 م، فى أول قرار جمهورى يصدر لاعتقال ” المرأة ” لنشاطها السياسى وقضت فى سجن النساء الذى يقع فى منطقة القناطر الخيرية ذات الجمال الأخاذ أربع سنوات ونصف، وفى نفس العام الذى سجنت فيه فازت بالجائزة الأولى وقيمتها 500 جنيه في مسابقة المنظر الطبيعى، وهذه الجائزة كانت مقدمة من وزارة الثقافة والإعلام.
أثناء وجودها فى السجن أزعجها أن تحرم من الضوء الذى ألفته ومناظر الريف المصرى بفلاحيه وعماله، وأزعجها أكثر أن تتوقف عن الرسم فلجأت مرة أخرى إلى رسم الواقع من داخل السجن، فكان ذلك معركة بالنسبة لانجي، فاللوحة الأولى التى رسمتها صادرتها إدارة السجن، فلجأت إلى تهريب لوحاتها، ثم قاموا بمنع دخول الألوان والأوراق إلى زنزانتها، وفى أحد الأيام قام المدير العام بزيارة تفقديه للسجينات، وكان لهذا المدير ميول فنية، وعندما رأى ” انجي ” حتى أبدى دهشته موجهًا سؤاله إلى مأمور السجن: كيف تكون عندك انجي ولا تستغل وجودها استغلالاً فنيًا؟ ثم أصدر أمره بالسماح لانجي بالرسم شرط أن لا ترسم السجن، فوافقت انجى على الشرط، وبدأت ترسم كل شيء، وتعبر عما تراه بصدق، حتى أنها كانت تبيع بعض لوحاتها لصالح السجن، ثم ما لبثت أن مللت البؤس ومشاكل المجتمع ، فتحولت إلى رسم الطبيعة، وبدأت برسم غروب الشمس من خلف القضبان، وأشرعة القوارب البيضاء وهى تتحرك من بعيد فى النيل، ولون السماء الصافية، كما تعلقت برسم شجرة خلف الأسوار، لدرجة أنها أطلقت عليها لقب ” شجرتى ” كانت الفنانة بالداخل ترسم ما تحدثه تحولات الفصول بالشجرة، ترسمها متألقة بالألوان فى الربيع، باردة، وحزينة، ووحيدة فى الشتاء والخريف.
كانت فى المعتقل أمام عالمين متناقضين: عالم خارج الأسوار الذى سُمح برسمه، وعالم داخل الأسوار حيث مُنعت من تناوله، إلا أنها تمردت على هذا القرار وقامت برسم مجموعة من اللوحات التى تمثل زميلاتها من المعتقلات وغيرهن، وهن يقمن بممارسة حياتهن اليومية داخل المعتقل، ومن أبرز لوحات المعتقل:” العنبر، الجالسة، شجرة الأمل “، كما رسمت بعض ( البورتريهات ) لسجينات عاديات اتسمت بالتلخيص البليغ، والتركيز على الجانب التعبيرى فى الوجوه، مخالف لكل ما شاهدناه من لوحات فيما بعد.. من غنائية وبهجة.
وتقول الفنانة عن هذه الفترة: ” بالنسبة لى تعتبر فترة السجن مرحلة النضوج الفنى والإنسانى، ولا أنكر حدوث بعض التغييرات.
قبل السجن كان الإنسان بالنسبة لى قبل الطبيعة، أما بعد السجن فقد أصبحت الطبيعة أولا، وفى الواحات تأكد لى ذلك، بعد أن اكتشفت أن الطبيعة عملاق والإنسان نملة تكافح قسوة الطبيعة.
بعد السجن دخلت مرحلة البحث عن الضوء، تعبيرًا عن اهتمامى بالنور، وذلك لخصوصية الضوء عندنا فى الوطن العربى وقد بدا ذلك يترك مساحات بيضاء لإبراز شيئين، هما الضوء والحركة، وذلك باستعمال الفراغات بين المساحات المرسومة، وهذا اتجاه جديد فى الرسم، أشاروا إليه فى إيطاليا “.
وعن فترة سجنها فى حقبة القائد الراحل عبد الناصر تقول الفنانة: ” هنا أحب أن أشير أني رغم سنوات السجن لم أكن أبدًا ضد سياسة عبد الناصر التى تميزت بمواقفها الوطنية، حتى أنى عندما عرضت فى باريس عام 1967 م، رفضت الإشارة إلى مسألة السجن، خاصة وأننا كنا نعيش مرحلة الهزيمة التى أعتبرها هزيمة جميع الوطنيين والطامحين إلى التغيير “.
بعد خروجها من السجن أقامت معرضًا جديدًا لأعمالها عام 1964م، ثم حصلت على منحة التفرغ للإنتاج الفنى من وزارة الثقافة المصرية عام 1965 م، ولمدة عام كامل، وحصلت على الجائزة الثانية فى معرض أقيم فى المجر عن الريف، وفى مؤتمر السلام بهلسنكي التقت الفنانة بعدد كبير من رجال الفكر والأدب والفن أمثال ” سارتر، واليا أهرنبرج، والشاعر التشيلي بابلو نيرودا “.وأقامت في عام 1967 م، معرضًا فى قاعة ” لانيو فابيزا ” فى روما.
وفى عام 1970 م أقامت معرضًا خاصًا لأعمالها فى مدينة ” درسدن ” ثم برلين بألمانيا الشرقية آنذاك، وقد قالوا ” انه معرض خاص بالمرأة ” بينما قالت انجى:” بل أنه تعبير عن الواقع، وقد تمكنت بصفتي امرأة من أن أدخل بيوت الفلاحين، وأجلس مع الفلاحات، وأرى على الطبيعة كيف تعيش المرأة فى الريف، كامرأة عاملة، نعم المرأة فى الريف تعمل فى كل مكان، ففى الحقل رأيت المحاصيل الأساسية تجمعها امرأة، والقطن تجنيه امرأة، والبرتقال تجمعه امرأة، وكذلك القمح، والموز، كل هذه المحاصيل تجمعها أو تضمها أو تجنيها امرأة.
وفى البيت تطبخ، وتعجن، وتربي الأولاد، هى إذن المرأة عاملة تتحدى الفقر وترعى الأسرة “.
أما نساء الحضر، فقد عبرت عنهن انجى كصورة واقعية عندما رسمت صورة المرأة البطلة ـ المكافحة من أجل قضيتها ـ فرسمت بورتريهًا للشهيدة سناء المحيدلى عام 1985 م، تبدو فيه عروسًا تزين الطرحة البيضاء رأسها والبندقية بيدها، فالزفاف لم يتم فاستبدلت به زفافًا آخر هو الشهادة.
وتقول الفنانة حول هذا الموضوع: ” عندما رسمت ” تحية إلى عروس الجنوب ” كنت أعكس واقع المرأة العربية المناضلة التى جسدتها ” سناء المحيدلى “، فالمرأة عندى تعبير عن واقع إنسانى أينما كان، بصرف النظر عن اللون والمكان “.
وشاركت ” انجى ” ضمن الوفد المصرى فى مهرجان الواسطي بالعراق، و فى ملتقى الفنانين العرب بتونس عام 1973 م، ثم أقامت فى عامي 1974، 1975 م، معرضًا متجولاً أقيم فى عدد من العواصم الأوروبية، كما ساهمت فى نفس العام وبمناسبة السنة الدولية للمرأة بتنظيم المعرض التاريخى الكبير الذى أقيم تحت اسم ” عشر فنانات مصريات فى نصف قرن ” الذى أقيم فى القاهرة، وفى عام 1976 م كانت ممثلة مصر فنيًا والمشرفة على جناح الشرف للفن المصرى المعاصر الذى أقيم فى الصالون رقم 87 للمستقلين بباريس في قاعة القصر الكبير.
وفى عام 1979 أقامت معرضًا لأعمالها فى نيودلهى، وفي عام 1981 م، عرضت أعمالها فى أكاديمية الفنون الجميلة فى روما.
فى عام 1984 م، منحتها الحكومة الفرنسية وسام الشرف بدرجة ” فارس “، وفى عام 1985 م، أقامت معرضًا شاملا يجسد نشاطها الفنى منذ عام 1942 م، فى قاعة اخناتون فى القاهرة، وتنتشر أعمالها فى العديد من المتاحف العربية والعالمية.
المراحل التي ميزت تطورها الفني
يمكن تأريخ أعمال انجى أفلاطون إذا جاز التعبير بأربع مراحل مهمة ميزت تطورها الفنى، وهى:
ـ المرحلة الأولى: تميزت عند انجى بالسريالية فرسمت أحلامها وكوابيسها ومزجت الواقع بالرمز فى حبكة درامية عنيفة تغلب عليها الخطوط الحادة والملتوية والألوان القاتمة، لكن ما كان يميز لوحاتها هو غلبة الحس الاجتماعى عليها.
ـ المرحلة الثانية: كانت مع بداية عام 1946 م، حيث بدأت أعمالها تتجرد من طابعها السريالى وذلك عقب اندماجها الكلى فى العمل السياسى والاجتماعى النسائى، حيث تقول:
” أحسست بضرورة وقفة مع نفسى بعد هذه النقلة الفكرية والنفسية ـ فكان لا بد لى من طريقة جديدة فى تعبيرى الفنى تناسب هذا التحول، وبدأت مرحلة البحث عن شخصية الإنسان المصرى وخصوصية الطبيعة التى تحيط به ـ وتواكب هذا ـ فى الوقت نفسه مع بحثى عن جذورى وهويتى، فاتجهت إلى الريف ” العميق ” أعايش الفلاحين، أتجول فى القرى والنجوع الممتدة بطول وعرض البلاد وحتى الصحراء. أحاول أن أعبر عن واقع وأحلام الإنسان البسيط المقهور الذى يعمل فى صمت وصبر، وأحاول أن أمجد العمل من خلال مجاميع الفلاحات وهن يقمن بجمع المحاصيل المختلفة، ألتقط الحركة السريعة لأجسام وأيادى العاملات وهن فى قمة توحدهن الإنسانى فى لحظة العمل الجماعى “.
ـ المرحلة الثالثة: مرحلة السجن ( 1959 ـ 1963 )، إذا كان السجن بمثابة ضريبة اشتغالها بالنشاط السياسي والحزبي، إلا انه كان أيضًا بداية لرحلة إبداعها فى مرحلته الثالثة والخصبة حيث ألهمتها قيم الحرية ومعاناة البشر، فحلت الألوان المضيئة المشرقة، محل الألوان القاتمة المعتمة، وسمحت لبعض الضوء الساقط بأن يحقق لمسات من الحرية التى كانت تتمناها.
ـ المرحلة الرابعة: بعد خروجها من السجن عام 1963 م، بدأت مرحلة جديدة فى حياتها كرحالة تجوب ربوع مصر ترسم كل ما تحسه وما تراه من تنوعات الطبيعة وثرائها، وتميزت لوحاتها بتمجيد العمل وجهاد الفلاحين وجهاد المرأة فى أيام الحصاد، وفى موسم البرتقال أو الخوخ أو القطن أو الباذنجان، وجعلتنا نشعر مع فلاحيها كأنهم يتغنون ويفرحون بالألم وهم يؤدون رسالة الحياة، لكن هذا الألم الممتع سرعان ما يزول بعد تخزين المحصول وبيعة، كما رسمت الأشجار بأشكالها المختلفة.
فى هذه الفترة أصبح لها أسلوبها وشخصيتها المميزة، فلم تعد تعمل على تحضير سطح اللوحة واكتفت بوضع نقط بفرشاتها الممتلئة بالألوان، نقط متجاورة استطالت فيما بعد إلى خطوط، وتصف ” انجى ” أعمالها فى هذه المرحلة بأن البحث لديها استمر متصلاً بعنصرين مهمين في تشكيل اللوحة، وهما ـ والكلام لانجي ـ:
” الحركة والضوء، حيث توصلت بعد تجربتى الطويلة إلى مرحلة أساسها ( الضوء الأبيض ) فكنت فى البداية وبشكل تلقائى أترك بين شرائط الألوان فى ضربات الفرشاة المتلاحقة فراغات بيضاء ضيقة تساعد على إشاعة النور، ثم بدأت تتسع هذه الفراغات بعض الشيء، ثم اتسعت أكثر فأكثر حتى تجرأت أنا فى النهاية على ترك مساحات بيضاء كاملة من قماش اللوحة فارغة من اللون، فصارت هذه المساحات البيضاء تقدم بدور شديد الايجابية فى إضاءة الأشكال المرسومة والمشغولة مما يبرز لمسة أو لونًا أو ضربة فرشاة محسوبة بغاية الدقة، كما أن ضربات الفرشاة المتموجة والمتقاطعة التى تلاحظ فى أعمالى تهدف إلى التعبير عن الحركة الدائمة فى الطبيعة فى كل مظاهرها حتى لأكثر أشكالها ثبوتًا “.
أخيرًا رحلت الفنانة فى عام 1989 م، بعد رحلة مع المرض، لم تدم أكثر من شهر، ماتت بعدها على أثر جلطة فى الدماغ، تاركة وراءها تراثًا غنيًا من اللوحات الفنية ـ التى جسدت الصورة الإبداعية الصحيحة للمرأة العربية فى القرن العشرين، هذه الصورة التى شابتها الأساطير والخرافات والظلم عبر التاريخ ـ والكتابات الأدبية والسياسية والكفاح الطويل والنضال حتى السجون على طوال حياتها وحتى آخر نفس.
ورغم انتمائها إلى الطبقة الأرستقراطية التى عاشت من خيرات البلاد قبل ثورة 1952، إلا أنها انتمت بوعيها وفكرها وإنتاجها الفني إلى الطبقات الكادحة والشعبية الفقيرة.
وتركت أنجي حياة حافلة بالنشاط فى صحبة الريشة واللوحة ـ مليئة بالكفاح السياسي ـ بمشاركتها في المنتديات السياسية والأحزاب المعارضة فاستحقت التكريم والجوائز والأوسمة فى حياتها من مصر وخارج مصر واستحقت الوفاء من جمهورها الذى أحبها وأحب فنها المبهج فى زمن الحزن والكآبة.
– المقالة نشرت فى جريدة الفنون الكويتية
بالتوفيق