الحرف والذاكرة والأثر- شجون التعبير في تجربة الفنانة (حصة كلا)
كَتب/ محيي الدين ملك
العنوان هاجس اتكالي متعلق بالأثر الذي “لا يتأبد لأنه أرسى معنى وحيدًا، ولكنه كذلك لأنه يوحي بدلالات مختلفة لإنسان واحد، يتكلم دائمًا اللغة الرمزية ذاتها عبر أزمنة متعددة، فالأثر يقترح والإنسان يتصرف”، كما يقول (رولان بارت). وهذا الكلام بمثابة الدخول إلى الأعمال الفنية.. إلى الأشكال التي تعدُّ إيقاظًا للحروف، لذاكرة في مساحات النسيان، ومازالت ترافق الإنسان.
شجون التعبير، بطريقة ما، “محو” كلمات في سبيل لغةٍ عاليةٍ، أو مسحُ لفظٍ بقصد معنى، أو تحويل نقاط إلى ثقوبٍ في جدار الذاكرة.. أداة.. وبحث في أسئلة حياتية وأسلوبية شاقة.. صدى مغامرة جمالية شبه مختلفة على سطح يعاند أحوال الزمن، ومخالف للنظر إلى الذات والعالم.. إلى الحياة والحرف ووميض النقطة.. إلى لغة فنية جديدة وبلاغة جمالية للكتابة التصويرية.
علامات على خدوش في المكان، بفعل الزمن.. وحالة رحيل بين الصدوع والتشققات التي حدثت بيقين التشكيل المتجسّد.. دون أن تتنكر لمأزق الواقع، أولاً، والبحث عن المعنى، ثانيًا. وهنا تتجلى العلاقة الجمالية الغاوية للذات الفنية المنقسمة بين خطين، واحد مرئي والآخر غير مرئي.. بين شكل يحضن مضمونه.. كتلة تسبح ثم تستقر في الفراغ.. بين حرف محجوب وآخر مكشوف.. لكنهما، لم يلتقيا بعد.. وكأن المبتغى مُحال.
ولأن كل شيء قابل للمحو، في زمن النسيان.. كان لا بد من الاستعانة بالكلمة، والحرف، والنقطة.. والألوان، وأشياء أخرى لتصوير ما خفي عن العين، وما ران “وجْدًا” في القلب.. لجوء إلى التشبيه، واتكاء على الاستعارة، ونزوح إلى الرمز. وفي هذا، وقبل النظر – شرحًا – في تجربة الفنانة (حصة كلا)، نودّ التمهيد عبر نصّيّات تنحو نحو تجربتها، تمهيدًا للشرح، وتحديدًا للمعنى:
قديمًا، قيل: “الخط هندسة روحانية.. بآلة جسمانية”. وأن “الكتابة هي الرسم الهندسي، أو: تطابق نقاء الكتابة ونقاء الروح”. و”الخط، هو رسوم وأشكال حَرْفيّة تنهض بالمبنى في سبيل المعنى.. كلمات مسموعة دالة على ما في النفس” وحديثًا، قال (بيكاسو): “إن أقصى نقطة أردت الوصول إليها في فن الرسم وجدت أن الخط العربي قد سبقني إليها منذ أمد بعيد”.. و”أربعون ألف سنة من لغة الإنسان ولا يمكنك أن تجد حرفًا واحدًا، يصف الشعور الذي بداخلك، تمامًا”. وأيضًا، “قال: مما تبتغيه يبدو محالاً! قلت: إن المحال مأمولي”.
حاصله، بعد هذه العتبات المعرفية في الخط، والحرف، وما تتخللها من تشكيلات فنية، وبما أن اللغة، والخط، مغامرة فنية – تشكيلية، فإن هذه العتبات تجعلنا نقف عند تجربة الفنانة (حصة كلا)، كون العتبات من تلك التجربة، وبالعكس.في التجربة تقوم الحروف والكلمات بأفعال تصويرية تتيح للأشكال والألوان قوة تشكيلية فاعلة، مثل السطوح والفراغات، وأوهام بصرية، وأمكنة، وأزمنة وأشياء أخرى، تجعل النقاط والحروف والكلمات سرعان ما تتحول إلى جغرافيات تصويرية وعوالم أشبه بحضور حقيقي لكلمات عالقة، لتغدو الحالة بذاتها عمل فني، ومحاولة لقراءة النقطة والحرف من نسق آخر. نسق مضمر هو مزيجٌ من الرغبة والذاكرة.. توق إلى أمكنة لا تلبث أن تتحول إلى صورة من عوالم الحرف، إلى رؤية.
الرُقُم والأختام المنسية، وحيطان الطفولة التي اندثرت واختفت مع الزمن، تعاود الرجوع لكي تتحول إلى صورٍ دافقة دون انقطاع – تبدو في حضورها التشكيلي سِجِلٌّ حافل، وتنهض كل مرة بحضور جديد لإثارة الشكل الجمالي والحسَ الفني، باستمرار.
هذه العوالم مصدر لا ينضب لخيال مثقلٍ برغبة الحرف وذاكرة المكان، ليس لشيء! بل لفيض يسعى من الأقصى ليقبض على حرف يحفر بهدوء.. أثره. للوعة مستعادة، وقدرة على تحويل أشكال الحروف إلى إيحاء بصريٍّ، مستمد من اللون سيلان أو ذوبان الحرف، بل، قلْ: هذيان في الكتابة يجعل المكتوب رُقْمًا أو منمنمة، وشطحات في الرسم تعطي انطباعًا بأن الفنانة (حصة كلا) كانت ستنطق الكلمات ذاتها، فإذا هي ترسمها.
تجربة محمّلة بذاكرة الحرف، والرغبة الجمالية، وبعبارة “.. المحال مأمولي..”، تلك التي تخفق في خبيئة اللوحة، وتسعى إليها الفنانة حصة كلا.