لقد اتسمت تجربة الفنانة التشكيلية البحرينية( ضوية العلويات )بالفطرة والتلقائية وحب التعلم للتقنيات التشكيلية؛ فأخذت تخط لنفسها أساليبًا عديدة بالرسم، وربما يعد الشغف والحب للتعلم وصقل الموهبة أهم بكثير من الدراسة الأكاديمية لأصول التشكيل؛ لأنَّ الرغبة هنا بالتعلم والاطلاع قد تكون جامحة ودافعة لها بشكل كبير لإصرارها على صقل موهبتها،وبالتالي إبداعها.
وليس بالضرورة أنَّ كل متعلم هو فنان، إنَّما الموهبة هى الاشتراط الأهم للإبداع في أي حقل فني وثقافي؛ لهذا جاءت موهبة وتجربة( ضوية )ضمن هذا السياق الفطري في صقل إمكاناتها الذاتية بالرسم فقطعت شوطًا مهمًا في تنمية وتمكين مهاراتها بأصول التشكيل ومبادئه فساهم في تطوير خبراتها وصقلها مما أسهم في بلورة تجربة شبابية أخذت تضع خطواتها في مسيرة التشكيل البحريني ويشار إليها بالبنان لأنَّها فنانة مجتهدة وتمتلك روح الجد والعزم بالاطلاع على كافة المذاهب الفنية ومدارسها والأساليب القديم منها والحيث، وتجرب الواقعية والانطباعية والتجريد وفن (الكولاج) بالإضافة إلى الفن الفطري في تجسيد عوالمها وأفكارها وبيئتها وثقافتها وأحلامها .
البحرينية(ضوية العلويات )تلك الصبية التي غامرت في رحلتها وهى تجوب الفيافي والحقول والبساتين باحثة عن سرّ الحياة والخلود في أرض ( دلمون ) أرض الأجداد علَّها تعثر على وصية الإله( آنكي )؛ لتشفي علّتها وولعها بالفن والفرشاة والتلوين، وهى تتخطى وسط جزر البحرين حتى فاجأها فارس ليقطع عليها الطريق ويسرق منها ألوانها وفرشاتها وخامات عدة تحملها على ظهرها (إنكي) هو إله سومري إله الحكمة والذكاء والمياه العذبة والخصوبة، وقد جاء ذكر دلمون في أساطير السومريين بأنَّها بلاد مشرقة، وبأنَّها جنة الفردوس المنشودة التي لا موت فيها ولا مرض، وبأنَّها بلاد المياه العذبة.
جاء بهذه البلاد إله الشمس(أوتو)من عالم خارج الأرض، منفذًا طلب إله الحكمة (إنكي)، فأصبحت هذه البلاد فيما بعد جنة كاملة، دفعت الآلهة إلى السكن فيها، حيث عاشتْ في دلمون الإلهة الأم(نينهوراساج)، وعاش فيها إله الحكمة (إنكي)، لم يكن لدى الصبية (ضوية ) شيئا تقايضه إياه سوى أنْ تفهم عما يبحث عنه هذا الفارس الهمام، فأفشى لها عما يبحث عنه من أرض يسكنها فيها الماء والخصب والأمان وزوجة تعلمه فن الحياة، فأخذت الصبية ترسم بفرشاتها أرضًا تشبه جنات الفردوس وعيون ماء تشبه عين ماء قريتها( عين العذاري ) وموديلات لنساء شتى، ففرح الفارس واجتمعت الطيور وعمت الخضرة ومرح الأطفال في جنة الفردوس على سطح لوحتها فأهدته إياه فنام تحت شجرة النخيل بعد أنْ هدّهُ التعب وهو يجوب المدن ويقطع الصحاري فارًا من قسوة الشمس وهلاك الجوع والعطش، فما أنْ غفى حتى نفذت بجلدها خائفة مرتجفة لتواصل رحلتها إلى أمها (ننهورساج)، أم الأرض (امتدت حضارة الدلمون على طول الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية؛ من الكويت عند جزيرة فيلكا، حتى حدود حضارة مجان في سلطنة عمان، وحضارة أم النار في إمارة أبوظبي في دولة الإمارات العربية المتحدة. وقد عرفت (دلمون) بهذا الاسم عبر التاريخ لأنها محاطة بالماء؛ مياه البحر من كل ناحية ).
ما إنْ وصلت( ضوية )الجزيرة حتى رأت الصبية يخطون بالفحم على الجدران نقوشهم ورسومهم ويحفرون على الصخور وحافات عيون الماء وضفاف أنهارها وساحاتها أشكالا لامرأة كأنَّها إله وملكة، فسألتهم عن هذه الاشكال التى يرسمونها فأجابها الصبية : إنَّها طقوس يومية اعتدناها وحسب وصايا أمنا(ننهورساج)وأكثرنا حرفة بالتجسيد فهو أكثرنا تعبدًا وطاعة للأم، فسترضى عنا وتدخلنا جناتها العدن، شمرت( ضوية )عن حملها وما تحويه في جعبتها من أدوات الرسم وأخذت ترسم على جدران ساحة وقوف السيارات وجدرن البيوت أشكالا وألوانًا لأطفال ونساء وأراجيح وعوائل يجتمعون حول(عين العذاري )، ويفترشون ظلال بساتينها ونخيلها وأعنابها ويغنون ويدبكون، فشكلت على سطح الجدران مجسمات وتكوينات لرجال ونساء متشابكي الأيدي وهم يهزجون، وتتمايل أجسادهم رقصًا وفرحًا حتى سرّ الصبية بما شكلته على الجدران وأخبروها بأنَّ الآلهة سوف ترضى عنها، وسوف تمنحها الخلود وتقلدها قلادة الشمس الأبدية، فستحرسها وتحميها من كل مرض وسوء، وسوف تخبرها بكل الأسرار وتلهمها بما تحب وتهوى(أتقن الدلمونيون فنون الرسم على جدران المعابد والمقابر، وكذلك التصوير على القطع الفخارية ) .
الفن لدى( ضوية )هو تعبير عن الأثر المكاني في تكوين شخصية الفرد وتكوينها المعرفي والشخصي وما يتركه المكان من هواجس في ذاكرتها باعتباره الوطن الأم الذي شكل تجربة( ضوية )كإنسانة وفنانة، والمكان في بيئة سطحها التصويري حافلا بالأثر والعمران والخصب والثقافة وجماليات التصوير لأنَّه مكانًا شكلته الطبيعة والتاريخ والإنسان فغدا مكانًا مفعمًا بالألفة والحميمية والجمال والذكريات وقصص شتى علقت في خاطرها فتغنت بها في معظم لوحاتها ومعارضها ومنها معرض( جنة ذكريات2015ومعرض سيناريو 2017 ومعرض على الحائط 2018 ).
تجربة البحرينية تركزت حول مفاهيم معرفية وثقافية واجتماعية طغت على تشكيلاتها وأساليبها ومنها الأمكنة وجماليات الأنثى جسدًا وروحًا وفكرًا وكذلك الأثر والطبيعة وقضايا الإنسان والتي شغلت تفكيرها، فتراها قد غزت جل أعمالها لأنَّ الإنسان يشكل قضية مركزية في فكرها وروحها ووجدانها؛ لذا جاءت عدد من أعمالها لتعبر عن قضايا الإنسان وهمومه وأحلامه وتطلعاته وخاصة تمثّل ذلك في لوحات ( موديلات نسائية وكنا هنا و مجموعة لوحات عن الهجرة ) .
المكان هو ثقافة قبل أنْ يكون تضاريسًا وحكايات ، فله الدور المهم في صياغة ثقافة ورحية الإنسان وما يتركه على بناء الشخصية الفردية والجمعية من أثر وذاكرة وربما يكون طاغيًا ولا يستطيع الإنسان أنْ يزيل عنه هذا الأثر مهما سافر وجال العالم أجمع، فلم يستطع أنْ ينفك من هذا الارتباط الوجودي والوجداني لأنَّه يمثل الرحم الأول والذاكرة الأولى للإنسان، وخاصة إذا كان هذا المكان يتمتع بالجماليات الإنسانية والمكانية معًا، وتعد قرية( عين العذاري )واحدة من الأمكنة التي يتغنى بها البحرينيون لما له من سحر الطبيعة وجمالها ممثلا بعيون المياه والبساتين والخضرة وفطرة ناسها وطيبتهم وعفويتهم ومكانًا يجذب السواح لقدمه وجماله الخصب .لذا ترى المكان بوصفه مادة شكلية وروحية له سحره الخاص فقد جسدته( ضوية )بأكثر من عمل ومنها لوحات( القرية وكنا هنا وبين الأزقة وغيرها ).
تنوعت أساليب ومدارس التشكيل لدى( ضوية )في تجسيد تكويناتها وكذلك توظيف عناصر مختلفة في هذه الأعمال، فمنها الرسم على القماش بالزيت والرسم على الورق واستخدمت الألوان المائية وكذلك احترفت أسلوب فن الكولاج على الورق والقماش والخشب ، وتعد ثيمة المكان كحاضر وماض ومستقبل لدى الفنانة وملهما لها وقد يغدو قضية بنفس الوقت وتاريخ محفور في قلبها وفكرها لأنَّه يشكل هويتها وانتمائها وفخرها لما يمتلك من خصوصية حضارية وتاريخية وجغرافية بدءا من حضارة( دلمون )الغائرة بالقدم والتي أخذ تاريخها يتشكل منذ الأف الثالث( ق . م )، ومازالت آثاره ماثلة لحد الآن، فهو علامة مضيئة وتأريخ ناصع ومشرق للشعب البحريني خاصة لما تركه من آثار عظيمة تحكي قصة بلد فيه بدأ الخلق يتشكل بعد الطوفان حسب أسطورة الخلق البابلية( الايمانلوليش )فنشأت السلالات وتعاقبت عليها ودونت منجزاتها على التلال والصخور والمعابد والأختام والحصون والفخار.
عندما تتأمل تشكيلات( ضوية العلويات )ستكتشف أنَّها تميل إلى أسلوب ما بعد الانطباعية، فهى تعتمد على ضربة الفرشاة القصيرة في تشكيل مجسماتها مكونة كتلا لونية كثيفة ومرصوفة بعناية وعلى شكل مستويات عمودية وأفقية، وتوظف في أغلب الأحيان في لوحاتها الأمكنة والأبنية بألوان دافئة مشرقة يمكن أنْ نسميها( ألوان شمسية ورملية )فهى تبتعد عن الألوان المعتمة لأنَّها ترى مدينتها وقريتها مشرقة ومبهجة وناصعة في ذاكرتها وتعكس هذا الإشراق والحب بألوان نقية وواضحة وصريحة وجليّة، وتترك فراغات وفضاءات في لوحاتها تحتل حيزًا كبيرًا لتعطي أفقًا منظوريًا يعبر عن سعة المكان بالنسبة للمتلقي، وهذا ينم عن حالة نفسية وفكرية للفنانة قد تكون فطرية تظهر بالعمل لتعبر عن طاقة إيجابية لروح مشبعة بالجمال والفرح والمحبة.
ونلاحظ في هذه الأعمال أيضًا التوأمة الجميلة والتناسق والتوازن بين الملصقات ككولاج وبين المجسمات اللونية على سطح اللوحة التصويري، وهذا التناغم اللوني والشكلي أعطى لأعمالها خاصة الجذب والتشويق للمشاهد فتجعل للرائي أريحية النظر دون النفور منها، والجدير بالذكر أنَّ( دلمون)تسمى مدينة الشمس لهذا جاء اكتساب ثقافة اللون الشمسي الدافئ بالنسبة إلى ( ضوية ) من وهج الطبيعة لمدينتها التي تحيا فيها وتأريخها(دلمون، التي توصف أحيانًا بأنَّها “المكان الذي تشرق فيه الشمس” و”أرض الأحياء”، هى مسرح لبعض نسخ أسطورة الخلق السومرية، وهى المكان الذي كان فيه بطل الطوفان السومري المُؤلَّه، أوتنابيشتيم (زيوسودرا)الذي اتخذته الآلهة ليعيش إلى الأبد) .
اتسمت أعمال( ضوية )برسم البورتريهات والتجريب فاتخذت من الموديل كعنصر حي أو كصورة فوتوغراف كمادة غنية لأعمالها وعبرت من خلالها عن قضايا المرأة وهمومها ومشاعرها ويومياتها بأدق تفاصيلها، وهى ميول واضحة من لدنها دون لبس فيه إلى جمال الأنوثة وحيازة ومكانة المرأة في المجتمع والحياة كعنصر ديناميكي فاعل ومشارك ومخلق في هذا الوجود ومفعم بالطاقة والحركية والتخليق لهذا جسدت عدد من اللوحات لموديلات نسائية كثر منها جماعية ومنها فردية وبأساليب مختلفة منها الواقعي والرمزي والتجريدي .
ونحن نتحدث عن تجربة تخط طريقها باستقامة من خلال التجريب والدراسة والتلاقح الثقافي من خلال مشاركاتها الداخلية والخارجية في مختلف الأنشطة الفنية، فوظفت التأريخ والأثر واليومي في أعمالها؛ لتعطي للأخر الصورة البهية والمشرقة لمجتمعها كماض وحاضر، لهذا وظفت قصة( كلكامش والأفعى )في بعض أعمالها وبحثه عن الخلود ومجيئه لأرض ( دلمون ) باحثًا عن عشبته وعن سعيه للقاء الإله ( آت نابشتيم ) إله الحياة والخلود من أجل أنْ يرشده إلى ضالته وهي العشبة، لكن في آخر المطاف قد سرقت عشبته وتأكد بعدها بأنَّ الخلود هو العمل الصالح من أجل الناس وهو العمل الخالد فقط.
وردَ ذكر(دلمون) في ملحمة(جلجامش)المعروفة، والتي تُعد واحدة من أهم الأعمال الأدبية في التاريخ البشري، ففي الجزء الثاني من هذه الملحمة يذهب (جلجامش) بطل الحكاية باحثًا عن سر الخلود في الحياة بعد أنْ فقد صديقه المقرَّب، وليجد سرَّ الخلود كان على(جلجامش)أنْ يبحث عن رجل اسمه(آت نابشتيم)، حيث إنَّ هذا الرجل هو الرجل الوحيد الذي يعرف سرَّ الخلود في هذه الحياة، وتذكر ملحمة جلجامش أنَّ(آت نابشتيم) كان يعيش في بلاد بعيدة، ذكر مفسرو ملحمة (جلجامش) أنَّ البلاد التي سكن بها(آت نابشتيم) هى دلمون ).