مسرحة الجسد على السطح التصويري في لوحات تقى عمرو

17/3/2021

0

رياض إبراهيم الدليمي

لا شك أن اكتشاف الجسد بآلية اللون والظل والنور والتصور القصداني التشكيلي تنم عن القدرة على الفهم والوعي للفن البصري والثقافة والوعي والبصيرة للأشياء والذات وتبادلية الحوار بينهما .

إن تعرية الجسد على السطح التصويري هو لحظة اكتشاف ماهيته وأدائه على سطح المسرح الحياتي ودراسة ماهية الخطوط الرابطة بين أعضاء الجسد وتعبيراته واتصاله بالإيماءة أو الفعل مع الأجساد الأخرى في حركات اندماجية واتصالية وتأملية تمثل لحظة اكتشاف أولى إلى الذات أولا ومن ثم للذات الأخرى وكيفية التعبير بلغة الرغبة بالتعايش مع الاثنين، فإنهما سيشكلان الوجود بثنائية، من هنا يمكن القول بعد اكتشاف الذات تأتي مرحلة الكشف الوجودي والشراكة في تأسيس ثنائية ستقوم بقيام الوجود لصناعة شكلا لهذه الحياة فتدور أحداثها على هذا المسرح القديم الجديد من صراعات أو مشتركات تعايش واندماج وتفجير لهذه الطاقة الثنائية وتحريرها لتكون مستعدة للبحث والكشف والمقاومة .

إن تعرية الجسد على سطح اللوحة في كثير من أعمال ( تقى عمرو) هو بمثابة درس تدريبي لتمثلات الجسد وتشريحاته فهو يعتبر تدريبًا أدائيًا لأناملها وتصوراتها الذهنية، فهو درس أكاديمي ومن ثم تصور بصري ذاتي لوعي الفنانة ورؤاها لهذا الجسد الآدمي وكيف تجسمه بألوانها وخطوطها وكتلها والحركة التعبيرية الوظيفية التي يؤديها الجسد في لوحتها، فنراها تجرب مختلف الخامات من ( ورق وخشب وقماش ) والألوان والأفكار لإظهار جمالية الجسد وحركته وسيميائيته على السطح.

إن حالة الاتصال بين الأجساد التي تصورها ( تقى) في أعم لوحاتها هى شارة دلالية لحالة الالتصاق والدمج الثنائية وعدم وضع أية خطوط عزل بين الاثنين إلا في حالات تتطلبها الثقافة السائدة لكي لا تصل اللوحة إلى ملامسة المحرّم الاجتماعي والميثولوجي.

إن إحالة الجسد إلى الأصل أي تصوير الجسد بمادته الأولى الطينية يعد العودة إلى النشئ والنوع والوظيفة البكر وهى محاكاة تصورها وتعيد تصويرها ( تقى ) بشكل فني بصري أدائي لتتيح لنفسها فسحة التأمل والتفكر لماهية الجسد وتعبيراته دون مؤثرات أو تخطيط مسبق واسقاطات التاريخ ومساهمته في تشكل الذات البشرية، لذا تجد الجسد في منظور ( تقى ) الفني والرؤيوي جسدًا واحدًا رغم اختلاف تكوراته ومنحنياته وكتلة وأحجام قاماته وألوانه وصفاته الجسمانية التشريحية بشكل عام، إن الوعي والفهم والتصور ومحاولات الكشف واعادة الصياغة تندرج تحت يافطة روح الاكتشاف والجرأة لدى الفنانة ولإثبات هويتها الثقافية والجمالية في آن واحد رغم بساطة الأدوات والألوان التي وظفتها في رسوماتها، وخاصة في لوحاتها العشرة التي أسمتها (حالات صراع ).وكذلك في لوحاتها التي اسمتها ( نشيد آخر للرقص ) ولوحات ( تفصيلات ) وبشكل عام فهى لوحات رسمت بأقلام ( السوفت باستيل وألوان الجواش والحبر الأسود ) واستخدمت فيها الورق الأبيض، وهنا تجسد لوحاتها بأسلوب المذهب يجمع ما بين التعبيري والسريالي (فالتعبيرية اعتمدت هذه المدرسة أيضًا على صب كل ما يخطر على النفس البشرية داخل اللوحات، لتُصبح فنًا راقيًا يُعبر عما يدور داخل النفوس، ولا يُفترض أن ما يتم رسمه مرئي للعين البشرية، فهى تسمح برسم المرئي وغير المرئي أي المحسوس والمتخيَل)، تعد الرسمات العشرة وهى مشروع تخرج للفنانة ( تقى عمرو ) ومن ثم رسماتها التي ذكرناها آنفا بأشكال آدمية بدائية ودون تحديد هويتها وزمنها أو الافصاح عن تفاصيل ملامحها الخلقية والتصرف بحركاتها وتشظيها وامتداداتها وغرائبيتها هو بمثابة التحرر الكامل للتعبير عن هواجسها واحتدام أفكارها وتصوراتها وانفعالاتها العاطفية والفكرية التي تجول وتتلاطم في خاطرها، لذا تجدها أي الفنانة ترسم جنونها وأفكارها وتصورها للخلق وصراعه من رغبات وشهوات وغرائز وروح التملك بكل تلقائية وفطرة دون خوف وتوجس بروحية شبابية متطلعة وطموحة وخلاقة لتثبت لنفسها قدرتها على التجريب والتعلم والتخليق والابتكار في عالم المعرفة والفن والثقافة وصياغة الحياة التي تراها وتفهمها وتعييها .

تحرص التشكيلية ( تقى ) على توظيف رمزي للتفاحة في أعمالها لتعيد الذاكرة إلى أسطورة (  ايفروديت ) في الأساطير الإغريقية كرمز للغواية والحب والحرب والصراع الذي لن ينتهي وكذلك تستعيد في رسوماتها قصة ( آدم وحواء ) وفق رؤية الميثولوجيا المسيحية .

ثمة دلالة وشفرة تجدها مخيمة في لوحات تقى هى ثيمة التفاحة ومالها من دلالات إيحائية  ووجودية وأسطورية فتلقتها وفهمتها وفق الفهم الشائع أو وفق فهمها كفنانة تعي ما تجسد وما يلهمها من هذه المفردة ( التفاحة )، وخاصة أن شفرة التفاحة كثمرة من حيث شكلها الأحمر المجرد أو أشكالها اللونية الأخرى فكلها تشير إلى الجمالية من حيث الشكل والمذاق أو رمزيتها عبر ثقافات الشعوب من معتقدات وأساطير وميثولوجيا منذ بدء الخليقة وما زالت تشكل ثقافة سائدة تتوارثها الأجيال وتنم عن معان جمة فهى دالة للجمال والخصب والحب والغواية والحرب والصراع  وإلى شتى الغرائز الإنسانية (يمكن تفسير التفاحة على نطاق واسع على أنها صورة للرغبات الأرضية؛ في المسيحية، يرمز إلى التجربة والإغراء والفاكهة المحرمة؛ التفاح هو اللاتينية للمالوم، مثل الشر. تحمل التفاحة أيضًا علامة سقوط آدم. شجرة التفاح نفسها – شعار الخطيئة الأصلية – مكرسة للآلهة الرومانية سيريس، التي ترسل الجنون إلى الناس)، إنها نفحة إنسانية للعشق والغيرة والحميمية شكلتها هذه المفردة  لتدل على المعاني الانسانية في الرومانسية والأيروسية أو شارة للنزعة الشريرة للإنسان فغدت رمزية شائعة للخير والشر التي تكتنف سلوكية البشر منذ الخلق الأول ( لآدم وحواء ) وقصة الغواية والهبوط وشجرة التفاحة هى أول علامة لاكتشاف الأخر وفق الحاجة الذاتية إليه وهى لحظة كونية إنسانية قدرية وخطيئة لابد أن تقع لتولد الثنائية بين الرجل والمرأة نقصد هنا الكيميائية الروحية ليولد العالم وتبدء الخليقة بالتناسل رغم ما شابها من اقتتال بين الأخوة (هابيل وقابيل ) هذه الرواية التاريخية التي لخصت كل نزعات الإنسان وسلوكيته منذ الخلق وليتوارثها الإنسان ولتكن لصيقة به وفيه وتمثل هويته الأزلية، لذا عندما تتأمل تفاصيل لوحات ( تقى عمرو ) ستجد أن التفاحة بشكلها الطبيعي المجسم دون نحت عليه أو تصرف بالشكل أو سيلاحظ برمزية  اللون الأحمر المهيمن في داخل الأجسام وخارجها، أو ستجده أرضية للوحاتها، وتراه  يشكل اطاراتها وقد يشكل كتلا في فراغات اللوحة، كل هذا الوجود العيني أو الرمزي والدلالي فهى شارات مقصودة من لدن الفنانة للمتلقي عن الثيمة التي تريد بثها له وتوثق بها خطابها الفكري والنفسي والجمالي على حد سواء .

إن تكورات الجسد الطيني في لوحة ( حواء ) وإبراز جزئية الثدي الأنثوي في أكثر من لوحة للفنانة وحالة الانطواء والاتكاء في اللوحة التي يمكن تسميتها ( حواء ) وجلوس الصغار إلى جنبها بعيون مفتوحة مبحلقة  للأثداء وأفواههم  العطشة للاقتضاض على هذه الأثداء إنما تعد إلى لحظة كونية وسمة للأنوثة والأمومة التي يتشكل ويتناسل منها الخلق، وإعلاء لمكانة الأنثى والأنوثة في هذا الوجود رغم كل التحديات والمخاطر التي تواجهها وتواجه نسلها معا من خلال محاولة قطع الطريق أمامها من قبل الثعابين التي تجدها شاخصة في اللوحة جنبًا إلى جنب مع الأنثى والأولاد ،  لكن بذكاء وصبر ودهاء هذه الأنثى تتمكن لتجعل الثعبان مصدر دواء وليس موتا للبشرية للاستشفاء من السقم ولم تكن المرأة مصدرًا للغواية بقدر وظيفتها الراقية في نحت الحياة والوجود وزرع الطمأنينة والاستقرار ومصدرًا للجمال والإلهام للرجل.

إن الأسلوب السريالي الذي تراه في مختلف أعمال ( تقى ) وخاصة لوحات ( نشيد آخر للرقص وصراع  ) فثمة طيران وتحليق وتشظي للأجساد وخطوط متلاصقة وخطوط متباعدة وتسليط  للضوء وتبادل الأدوار معه ومع الظلال في اللوحة والفراغات التي تتركها في اللوحة لتعطي دلالات على الحركة الايمائية في مسرح اللوحة ولتشد  نظر المتلقي إلى هذه الحركة دون اشغاله بمجسمات أخرى التي خلت منها لوحاتها، وهى هنا حين تصر على الأسلوب السريالي، لأنها تدرك أن هذا الاسلوب هو الأقرب للتعبير عن فنتازيا أفكارها وتمردها وحالات العنف الذي يصيبها في حالات التفكر والأرق والتحليق والهيام لأفكارها التي لا يحدها  شيء سوى الورق والقماش والألوان والفرشاة والأقلام هذه الأدوات هى الوحيدة القادرة على ترويض أفكارها وهواجسها لتصبها وتحولها إلى أشكال لونية بديعة .( السريالية أو الفوق واقعيّة (بالإنجليزية: Surrealism)‏، مُشتقة من الفرنسية (Surréalisme) التي تعني حرفياً “فوق الواقع”، هى حركة ثقافية في الفن الحديث والأدب تهدف إلى التعبير عن العقل الباطن بصورة يعوزها النظام والمنطق وحسب مُنظهرها أندريه بريتون فهى آليّة أو تلقائية نفسية خالصة، من خلالها يمكن التعبير عن واقع اشتغال الفكر إما شفويًا أو كتابيًا أو بأي طريقة أخرى، وهى “فوق جميع الحركات الثورية”. إذن فالأمر يتعلق حقيقة بقواعد إملائية للفكر، مركبة بعيدة كل البعد عن أي تحكم خارجي أو مراقبة تمارس من طرف العقل وخارجه عن نطاق أي انشغال جمالي أو أخلاقي وقد اعتمد السرياليون في رسوماتهم على الأشياء الواقعية في استخدامها كرموز للتعبير عن أحلامهم والارتقاء بالأشكال الطبيعية إلى ما فوق الواقع المرئي. )

عند تأمل لوحة  (عزاء عروس ) ستسرح مع ثيمة العمل الثنائي اللون وأحادية الجسد فهذا المخيال الثيماتي لم يكن خياليًا في موضوعه لأنه يعبر عن حالة اجتماعية شائعة في المجتمعات الشرقية التي تستسهل من قتل المرأة لغسل عار العشيرة والأسرة وفق فهمها لقداسة الشرف الأنثوي وشرف العشيرة في آن واحد .

إن لدلالة الدم بعدًا ميتافيزيقيًا أولا قبل أن يكون سلوكًا اجتماعيًا فهذا البعد الفلسفي الروحي العقائدي يندرج فهمنا لرمزيته  في لوحة  (عزاء امرأة ) وتشكل حالة فارقة بين النزعة البتولية للأنثى بكل تفاصيلها المتوارثة  كسلوك اجتماعي وأخلاقي وديني الذي تَمثل بأن المساس ببتولية الأنثى إنما هو مسًا بالعقيدة والشرفية ولابد أن يراق الدم وتزهق الأرواح من أجله، إنه مشهد بصري جسدته ( تقى عمرو ) بتقنيات بسيطة لجسد امرأة مزهوق ومدمى باللون الأحمر ولون أزرق يمثل الروح السماوية للأنثى، فهو صراع بين لونين الأحمر المضرج على جسد الأنثى المقتولة التي ارتدت فستان العرس الأبيض هذا اللون الرمز للبتولية والعذرية في ليلة زفافها والذي وظفته الذاكرة المجتمعية للذاكرة الجمعية المتوارثة، أما اللون الأزرق فهو يرمز هنا إلى الحياة المفعمة بالأمل والفرح والتجدد والحيوية والطاقة المتفجرة والنابضة بالحياة، وفي لحظة يغدو الأبيض دمًا والأزرق لحظة ارتعاش وموت وروح تزهق تغادر بالجسد إلى السماء، ويلاحظ قد جسدت الأنثى بحركة ترنح ومطوح في لحظة سقوط بكل عنف وفزع وذهول، وتصور لنا يد العروس ماسكة طرف فستانها من الأعلى وهى دلالة تشبثها بآدميتها وأخلاقيتها ووجودها الأنثوي ماسكة فرحها وآمالها اللذان يتهاوا ويتطايرا في لحظات الموت، وتلاحظ أرجلها تتقاطع في حالة تهاو كأقدام خيل تكبو لتنهض من جديد فهى أرجل لا تهوى السقوط والوقوع تحت ذرائع المفاهيم المجتمعية القاصرة، لكن تضرج جسدها العاري الذي جسدته الفنانة بكل ملامح الأنوثة الملطخة بالدم من رأسها حتى قدميها لتشير للمتلقي بأن الدم تغلب على نقاء الأنثى وأنوثتها وأحلامها ووجودها، لذا هنا تجد غلبة الدم والموت والأقصاء حلّ بديلا عن وجود الأنثى في هذا الخلق وهذا الوجود الأحادي الذكوري الخالي من البصمة الأنثوية في تشكيل وصناعة هذا المسرح الوجودي الثنائي .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*