محيي الدين ملك : ما وراء المعنى في لوحة (العشاء الأخير)

0

كَتب/ محيي الدين ملك
روايات كثيرة تحدثت عن الظروف التي رافقت ومهدت لقيام (دافنشي) بهذا العمل المثير. الغامض، والمُلغِّز. ولعل أقرب رواية، هذه:
عندما بدأ (دافنشي) برسم هذا العمل، واجهته مشكلة غاية في الصعوبة والإرباك. لم تكن المشكلة تقنية، وهو الذي لا تنقصه المهارة، كما أن براعته الفنية قفزة في الظلام. كانت المشكلة هي في إيجاد الصورة التي تليق بصورة المسيح. وفي المقابل، الصورة التي تستحق أن تكون صورة يهوذا. بمعنى آخر: عليه أن يرسم الخير من خلال صورة يسوع، والشر، مًشخصًا بيهوذا، التلميذ الذي قرر أن يخون أثناء العشاء (كما تقول الروايات التاريخية). فتوقف (دافنشي) عن العمل، ومضى باحثًا عن نماذج حية – مثالية.

وذات يوم عندما كان يستمع إلى حفلة موسيقية – دينية، لمح في وجه أحد المنشدين الصورة التَّامّة للمسيح، فدعاه إلى مرسمه، وقام برسمه في حالات ووضعيات مختلفة حتى توصل إلى الشكل المثالي والمضمون الأمثل.
اللوحة كاملة إلا من شخص يهوذا. ثلاث سنوات ودافنشي يفتش عن النموذج الملائم ليهوذا، وراعي الكنيسة يلحُّ على دافنشي ويحثّه لإنجاز الجدارية.
وفي يوم ما، اهتدى دافنشي إلى شاب بدت عليه علامات التّرَهُل والشيخوخة قبل أوانه، مرتدياً أسمالاً، متعتعًا من السكر، ملقى على أطراف خراب، وفي حال يُرثى له. فنقله مباشرة إلى الكنيسة، لأنه لم يعد يملك الوقت ليقوم برسوم تحضيرية. وهناك، استطاع (دافنشي) نسخ سمات الكفر، والخطيئة، والأنانية، النافرة بقوة على ذلك الوجه الغائر في بؤسه.
كان المتشرد في حالة لاوعي عندما انتهى دافنشي من إنجاز اللوحة بالكامل. ولمّا عاد إلى وعيه، وفتح عينيه.. أصابته الدهشة والافتتان بروعة اللوحة، ثم صاح في غفلة من وعي حزين:

– سبق لي أن شاهدت هذه اللوحة!

– دافنشي (مندهشًا)، متى؟!

– منذ ثلاث سنوات، قبل أن أفقد كل ما لدي. ففي ذلك الوقت كنت مُنْشِدًا في جوقة، وحققت كل أحلامي، ودعاني الرسام ليأخذ من ملامحي ويرسم بها وجه يسوع.
راح (دافنشي) يداعب لحيته الطويلة وهو متعجبٌ. كأنه كان يشعر أن الخير والشر يخوضان، في داخله، صراعًا لا هوادة فيه. هل استخدم دافنشي الآخرين ليحلّ نزاعاته الشخصية؟
بعد زمن طويل يظهر (فرويد)، ويحاول أن يكتشف عن مناطق النزاع في أعماق الإنسان، ويكتب كتابًا يتحدث فيه عن موضوعات شتى عن دافنشي / الإنسان الذي يعيش صراعه- الفنان الذي يحلم بحلٍ..
كان (دافنشي) ألدُّ أعداء نفسه. لم يعجز عن تنفيذ أي عمل فني رغب في تنفيذه. كان يفتقد إلى شيء يعرفه جيدًا. ولذلك، لم ير جدوى إتمام أكثر اللوحات التي لقد ظلت ناقصة.
كأن كل شيء كان يدّخره من أجل الغد، “ولكن الغد لا يأتي أبدًا. أما الحاضر فليس إلا جسرًا وعلى هذا الجسر لا يكفّون عن الأنين، كما يئن العالم، ولا يفكر أبلهٌ في نسف ذلك الجسر”..
بحسب اللوحة – ربما كان (دافنشي) نظيفًا إلى درجة مؤلمة. وغير مرة، حاول أن يفتح طاقة في اللوحة تؤدي إلى حيث ترتاح روحه. لكن، اللوحة.. سردية كبرى واحدة. وهي الوحيدة التي تروح إلى / وتجيء من أعماق النفس، ولهذا السبب، ربما، انطوت اللوحة على نقصٍ، حتى لو أن (دافنشي) نفسه رسمها.

مثل هذه الأعمال، تجعل الرسم بدايات لا تنتهي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*