كيبرنيسكي وصورة بوشكين أو الحالمون.. للكاتب محيي الدين ملك

0

كَتب/ محيي الدين ملك
حكاية، هي ترجمة حياة عن أحب رسامي العالم المغمورين في السواد الأعظم.. حياة لم تكن جريانًا منسابًا من الأحداث والتأملات.. بل مضطربة. متفجرة، كعاصفة تهدر، ولا تهدأ، عاصفة من قلق يضفي الاستمرار على عدم الرضى.. واندفاع عارم نحو فكرة سامية تجسدت من كلمات الشاعر الكسندر بوشكين:

لأمد طويل سأظل محبوبًا بين الناس

فقد أيقظت فيهم قيثارتي المشاعر النبيلة

وفي هذا الزمن القاسي مجّدت الحرية

وناديت بالرحمة للساقطين.
إنه الفنان الرقيق (أوريست كيبرنيسكي)، الذي تعارك طوال الحياة مع المتاعب، وقد ظل طوال الحياة يتعلم ويطمح إلى التحقيق “الأخلاقي في الجمالي”. في بداياته، خضع للرومانسية. وكان يبحث عنها بجموح في كل مكان. ينقل على الورق تماثيل لزيوس وأفروديت، ويخرج إلى الشواطئ ويدخل الغابات، ويتجول، ويترنم بأبيات لشاعر مغمور:
أسدى الليل الظلام على الحدائق القديمة. والريح تصفر وتعصف في فَرَجَات الغاب. والقلب الرقيق كله في ضِرام وجِراح. يخفق من منتصف الليل حتى نجمة الصباح. آه، يا معشوقي، لقد تأكد نصيبي. نفير الحرب ينشد في هذا الليل ذي المائة عين. والسحب تعصف، فكأن يد القدر. تلوح بسيف ثقيل فوق رأسي.
وكانت هذه الأبيات تترك الدموع تسيل من عيني (كيبرنيسكي). كتب فيما بعد: غالبًا ما يتراءى لي طريق أسود معرّش بالأشجار. وتبدو الأرض متحجرة، وحتى الآن تحتفظ بمظهر الفزع.
ذلك هو تضاد الألوان والواقع. و (كيبرينسكي) يحب الألوان المجنحة، وهو الذي عرف خفايا اللون في الطبيعة وفي الإنسان. لكن العالم المحيط به بدأ يتغير، فجأة: رجّة داخلية شديدة. أنَّى يوجه بصره يرى ألواناً صافية، كثيفة تارة، وشفافة أخرى أبدعها نور شمس الشمال.
وذات يوم، حين وصل إلى حجرته ألقى عنه معطفه المبلل، وجلس عند الموقد المشتعل، وتمتم في حنين: أين أجد اللون لأصور هذا السكون الشتائي، وهذه اللآلئ والقصور التي فقدت حجومها وثقلها، وأخيرًا، لأصور قلق قلبي؟ وبأية ريشة إلهية أستطيع أن أنقل النشوة الخرساء لهذا الصباح؟. مع هذه الألوان البنفسجية والأرجوانية، والنور، والخيال، والافتقار إلى قوة عميقة ودائمة، تكمن المأساة..
وعندما شرع يرسم (بوشكين)، أحس بحنين الرسام إلى بلاد الإلهامات السامية (روما)، التي غادرها قبل وقت غير بعيد، فأنشد: هناك، حيث غنى توركفادو الجبار.. الحياة في المرمر المطواع، وبايرون المعذب الصارم، كان يتعذب ويحب ويلعن. ولكن، صورة بوشكين أصبحت خالدة.
وفي اللحظات الأخيرة من حياته، قال بهدوء: أشعر بثقل في دمي. الأصباغ تجمّدت في عروقي، أقصد في دمي، فهو لا يدفئني، بل يبرد قلبي.. وبعد أن صمت برهة قال بصوت خافت: القلب الرقيق كله في ضِرام وجِراح، يخفق من منتصف الليل حتى نجمة الصباح.
وفجأة، سقط على الفراش.. وترامى في القاعة الخالية صدى خطوات عجلى.. وكانت ريح الخريف تعصف فوق روما. لقد وجد طريقه، وللأبد..

“أولئك الذين يقرعون الأجراس لا يساهمون في مواكب الاحتفالات” – هذا ما قاله حالم آخر. ولكن (كيبرينسكي) لم يقرع الأجراس ولم يساهم في مواكب الاحتفالات. قيل أنه رسم كل شيء حوله، لذلك، بقي فنه نديًا لا يذبل.
“في صوره لا توجد وجوه، فقط، بل وكل حياة الأشخاص الذين رسمهم”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*