فـرانشيسكو جـوزيـه دى غـويا ولوحة الثالث من مايو عام 1808م

2/7/2020

0

كتب / غـازى انـعـيـم

يعد الفنان غويا الذى ولد فى قرية ” فوند بنودس ” بجوار سارا جوسا بإقليم أراجون بأسبانيا فى 30 مارس 1746 م، من عمالقة تاريخ التصوير.. وأعظم مصورى عصره.. وكان تأثيره على مستقبل التصوير بالغ القوة، ومبعث إلهام خصب حتى يومنا هذا لكثير من الفنانين وللحركات الفنية المختلفة.
وقد رحل غويا وهو فى سن الثامنة والسبعين ـ إلى باريس، وأخذ يتنقل بين مدنها إلى أن انتهى به المطاف فى مدينة ( بوردو ) عام 1828 م، وقد دفن فيها لمدة سبعين عامًا حتى جاء عام 1900م، ولم يعد من اللائق بقاء فنان أسبانيا الأول خارج وطنه، وعاد رفاته فى تابوت إلى مدريد، سحبته ثمانية خيول بصحبة ثمانية خدام، وخرجت كل مدريد حينها لاستقبال تابوت فنان أسبانيا العظيم.

أما اللوحة التي سنتناولها فهي لوحة الثالث من مايو عام 1808 م،القياس: 266 × 345 سم ( متحف البرادو ـ مدريد ).

  • رسم ” غويا ” تلك اللوحة عام 1814 م، بالألوان الزيتية تعبيرًا عن المذبحة التى ارتكبها جنود نابليون ضد المدنيين العزل، حتى سالت بحار من الدماء على تلك البقعة من الأرض، هذا هو موضوع اللوحة، أما مضمونها فهو تصوير أهوال تلك المأساة، التى كانت بمثابة فترة جديدة فى فنه.
  • ركز الفنان فى هذه اللوحة على الإضاءة من خلال مصباح كبير موضوع على الأرض، وقد فصل المصباح من خلال إضاءته ما بين الظلام الذى يمثله صف متراص من الجنود المتعطشين للقتل، والذين يمتازون بظهور متينة ضخمة وأجساد مائلة إلى الأمام، وأرجل متباعدة بوضعية عسكرية قتالية، وأيادى ممتدة إلى الأمام، وهي قابضة على البنادق المصوبة فوهتها إلى صدور المنتفضين الأبرياء، والعزَّل من السلاح، الذين يقفون فى صفوف تلو الصفوف، غير آبهين بآلة القتل، حتى أن الإضاءة توحي للمشاهد بأن وقفة الجموع البشرية الغاضبة، أكثر سيطرة على الوضع من الوقفة المهتزة للجنود المدججين بالسلاح.
  • شكَّل ضوء المصباح حاجز بين الجنود وجموع الناس وما بين الظلام الحالك الذى خيَّم فوق المشهد لجهة التل الذى رسمه الفنان دون وضوح خلف حشود المنتفضين والذين سقطوا برصاص الغزاة، وفى الأفق من يسار اللوحة خيَّم الظلام الدامس فوق كنيسة بعيدة، وكأن ما يجرى من قتل وسفك للدماء لا يعنيها، لقد أراد غويا أن يوصل رسالة للمتلقى فى ذلك الوقت مفادها أن الكنيسة كانت شاهد بارد على القتل فى ليلة الثالث من مايو / أيار.
  • كما فصل ضوء المصباح، ما بين الظلام الذى يمثله الجنود القتلة، وما بين الجانب المضيء المتمثل بالشاب المتمرد ذو القميص الأبيض، والذى يقف على ركبتيه بشكل قوى وراسخ فوق تراب وطنه، وقد دفع صدره إلى الأمام نحو البنادق، ورفع يديه المفتوحتين نحو السماء المظلمة، معلنًا تحديه للجنود، ورفضه للاحتلال، وكان لسان حاله يقول:” أطلقوا النار أيها القتلة الفاشيون “، فالحرية قادمة رغم ما تفعلون.
  • ورسم غويا إلى يمين الشاب المتمرد رجل يرفع رأسه وقبضة يده إلى الأعلى، وقد ارتسم على وجهه تعبيرات من الحقد والغضب، ويلاحظ المشاهد وجود راهب إلى جانب هذا الرجل، وقد مد يديه المضمومتين بقوة إلى الأمام، تعبيرًا عن عدم مقدرته فعل أى شيء، فهو مستسلم لقدره المحتوم، بينما يرقد إلى جانبه وخلفه مجموعة من القتلى الذين يسبحون فى دمائهم، والمدقق فى اللوحة يلاحظ وجود مجموعة من المنتفضين وهم يخفون وجوههم وعيونهم عن هذا المشهد الدامى كي لا يروا الموت، ورسم الفنان خلف هذه الجموع إلى يسار الشاب المتمرد، حشود بشرية تصل نهايتها إلى أطراف الكنيسة، وقد جمدها الهول فى تشنجات الخوف والقنوط، فى انتظار مصيرها المحتوم، وسط ليل مظلم قد يطول.
  • استخدم ” غويا “، هارمونية من الألوان الساخنة فى وسط اللوحة، لتأكيد درامية الموضوع وتحقيق النسيج العفوى فى اللوحة، كما استخدم التباين اللونى لإعطاء الحد الأقصى من الفاعلية فى تصوير الموضوع، وقد جاء التكوين فى اللوحة متزن راسخ البناء.
  • أخيرًا، استطاع ” غويا ” أن يضعنا فى قلب الحدث، وجعلنا نعانى الانفعال والتوتر ونعيش المأساة لحظة إطلاق النار من قبل الجنود، وجعلنا أيضًا نبحر معه عبر ما يقارب القرنين لنجد أن هذا المشهد، ما زال يتكرر فى كل لحظة فوق ترابنا العربى فى فلسطين ولبنان والعراق، وسوريا ، وليبيا ، والصومال. .. ومناطق أخرى. … حيث يقوم الجنود القادمون عبر المحيطات، بثقافتهم العنصرية الحاقدة، بعمليات قتل وتدمير وتهجير، و بحرب تطهير عرقى ضد أصحاب الأرض الذين قرروا أن يدافعوا عن دينهم وأرضهم وكرامتهم حتى النفس الأخير، على أن يستسلموا للغزاة.

إن ما يجري فى فلسطين من قتل وتدمير وتهجير وكذلك فى بعض الدول العربية لم نشاهده فى أى لوحة عبر التاريخ التشكيلى، ولم نشهد له مثيلاً فى أى مكان آخر فى العالم، وما شاهدناه فى لوحة الثالث من مايو لجهة وقوف الكنيسة صامتة على ما جرى من إعدام، يقف العالم اليوم بأناسه ومؤسساته الإنسانية والدينية والرسمية وغيرها، نفس الموقف وسط صمت مريب ومخجل، على ما يجرى من مذابح، فلماذا هذا الصمت على هذه الجرائم؟ وأين هو الضمير الإنسانى؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*