جماليات المكان في أعمال الفنانة الكويتية مريم المسباح

0

كتب/محيي الدين ملك

كبداية افتتاحية، يمكن القول، أنَّ للمكان علاقة شعرية وشعورية قوية بالإنسان- فنان كان أم مُشاهد – إذ أنَّه في عمومه وفي خصوصيته الفنية، وثيق الصلة بأحاسيس الفنان ومزاجه وطباعه، فينتج بذلك تناغمًا بين طبيعته الإبداعية وطبيعة المكان المراد رسمه. والذي هو بعبارة أخرى “مكمن القوى النفسية والعقلية والعاطفية للكائن الحي”، وللمبدع على وجه التحديد.

وخلال هذه العتبة، يمكن تتبع رصد المكان في الأعمال الفنية، وفي ثناياها، وعلاقته بفن التصوير انطلاقًا من (جماليات المكان) لـ (غاستون باشلار) الذي تناول الجانب الجمالي للأمكنة، حيث أنَّه “النقطة الأساسية التي ينطلق منها (باشلار) هي أنَّ البيت القديم بيت الطفولة.. هو مكان الأٌلفة، ومركز تكيِّف وتكثيف الخيال، وعندما نبتعد عنه نظل دائمًا نستعيد ذكراه ونسقط على الكثير من مظاهر الحياة المادية، ذلك الإحساس بالجمالية والأمن اللذين كانا يوفرهما لنا البيت القديم”.

وتظل خصوصية المكان القديم، بيت الطفولة، ذات تأثيرٍ كبيرٍ على ذاكرة الإنسان مهما ابتعد عنه جسديًا، بل ويظل قابعًا ومحفورًا في ذاكرته. كما أن (باشلار) اكتشف أنَّ المكان الذي ينجذب نحوه الخيال، لا يمكن أنْ يبقى مكانًا لا مباليًا ذات أبعاد هندسية وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بَشَرٌ ليس بشكلٍ موضوعيٍ، فقط، بل بكل ما في الخيال من تحيُّز. كأنَّه يريد أنْ يقول ” لا يوجد موضوع دون ذات، بل الخيال بالنسبة للمكان يلغي تلك الموضوعية. فهو يجعل للذات موضوعها الخاص المستقل عن الواقع”، ذلك، لأنَّ “الإحساس في المتناهي في الكِبَر يوجَدُ في داخلنا، ولا يرتبط بالضرورة بشيء”.

إذًا، فالمكان يمثل هوية الإنسان / الفنان. هو “الكيان الذي يحتوي خلاصة التفاعل بينه ويسن مجتمعه”. والفنان يلعب دورًا حيويًا في هذه الثنائية، للاستحواذ عليهما ما استطاع إليه سبيلا، حتى يجعل للمكان دلالة. كما وتتجلى أهمية المكان وتأثيره من خلال علاقته بعناصر بناء اللوحة التي تتناغم لتخلق المكان وتبثَّ المتعة لدى المُشاهِد، وهذه الخاصية تؤدي إلى بناء صلة وصْلٍ بين العمل الفني والمُشاهد. ولا شك أنَّ الفنان في علاقته مع المكان سيكون أكثر عمقًا وإدراكًا عند عملية الرسم، بل سيضفي على لوحاته لمسات جمالية جديدة.

هكذا يظهر الوعي الفني – الجمالي في تحويل الأمكنة، سواء في ربطه بالأشياء وبالخيال أو بالإحساس. وبناء عليه، يكمن المحاولة لقراءة تشكّلات المكان وجمالياته في أعمال الفنانة “مريم المسباح”.

عند مشاهدة هذه اللوحة، يبرز المكان كعنصر مُهيمن، يغطي كامل المشهد، وكأنَّه السمة الأساسية التي تراهن عليها الفنانة. فاللوحة وهي مع المكان، كأنَّها لوحة تامّة، ومكتملة، ومزينة بثوب الجمال المعهود من الطبيعة ومن الإنسان. والملاحظ أنَّ الفنانة قدَّمت – في لوحتها– المكان على الإنسان، كما قدمته على الزمان. وأبدت عنايتها الرقيقة وشغفها الشفاف لسهب على المكان، حتى باتت اللوحة سردٌ بصريٌّ في سيرة مكان، هي سيرة بيتها الريفي، وهي سيرة البيت، فقط.

هذا التفاعل مع الأمكنة الأليفة والأنيسة والمشحونة بالذكريات يتسم في لوحة الفنانة مريم بالثراء والسخاء والعطاء الذي لا حدَّ له. وكأنَّ اللوحة بهذا الشكل تمنح لنفسها اسمًا ومكانًا وزمانًا، وهوية، وخصوصية، ومجالاً لحكايات الجدات. ولهذه المسألة أهمية كبيرة، لأنَّ المكان الأليف عندما يتجسد داخل الإطار، تكون له خاصية الكشف والتجلي، ودلالة تفضي، شيئًا فشيئًا إلى اللون، والخط، والكتلة والفراغ، والإيقاع.. وبالتالي، تنحو نحو حالة تكون الشحنة الداخلية قد سرت في جميع العناصر – المكانية والفنية – بما هي جزء من المكان / اللوحة.

لقد استطاعت الفنانة (مريم) بارتباطها بالمكان وأنواعه، خاصة الريف، والصحراء، والمكان الخيالي أنْ تبث رؤاها وتصوراتها في تلك الأمكنة ونقلها إلى المُشاهد عبر لوحاتها، كما استطاعت معالجة أحاسيسها بلغة فنية تجاه تلك الأمكنة، وتستدعي مفردات علاماتية تتصل بعوالم المكان وعالمه.

في عمل آخر، يُلاحظ أن المكان خرج عن كونه مكان مادي إلى فضاءات إنسانية تنبض بحالة من الحضور في حضرة الغياب، كما في لوحة (الشيخ صباح الأحمد). لقد جعلت الفنانة من المكان مكانًا خياليًا، ذلك أنَّ المكان غائب بغياب الإنسان.

إذًا، وخلال مشاهدة جملة من أعمال الفنانة (مريم)، تظهر على الفور الدلالات النفسية التي تربط المكان بها، وتربطها بالحيِّز الحيوي. والحقيقة أنَّ المكان في لوحاتها، يتعين في حياة الريف كما رأينا، وفي صدى الصحراء، كما في لوحتها التالية. وهكذا تتكشف القيم الجمالية بين الفنانة وأصلها المكاني.

يقال: إنَّ المكان حالة روحية يعني تجاوز حالة الفراغ والمحيط وبوصفه بيئة إلى حالة تُمَكِّنهُ من الكائن، وتوغله عميقًا في الجسد، بكل أبعاده وأسراره وجغرافيته وقيمه وأساطيره، ورموزه، حيث يختزن في طيات الروح، ويصبح هوية فارقة، يمتاز بها الكائن، ويبلغ الاندغام حدود التماهي والانصهار، بين المكان والكائن، وبموجب ذلك يتجذَّر الانتماء راسخًا بين الحديث، ويغدو الاغتراب حالة طارئة من حالات المعايشة مع المكان..بل إنَّ الإفراط في عشق المكان ومعايشته روحيًا، يدفع بالكائن إلى قلق عنيف بشأن المكان.. وهذا ما يشعر به المشاهد وهو يرى تموجات الخطوط وايقاعات اللون كيف تعيد رسم البيت الخليجي القديم، بأجزائه وتفاصيله: أرض الدار وفضائه. الأبواب والنوافذ. الشجر، والناس بالزيِّ التقليدي الخ، في سحر جذاب لا يقاوم، وجمال لا يمكن الإحاطة به إلا في الذي عاشه – مكانًا وزمانًا، ورسمه – شكلاً ومضمونًا.

هكذا يمكن الاتكاء على ما ظهرت من تجليات المكان في أعمال الفنانة مريم، كمُفتتح بصري – جمالي للأمكنة المرسومة، وهي تتحلَّى بجمال في تضاريس العمل الفني.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*