المرأة بين صورة وقصيدة… تأملات في تجربة الفنانة رحاب غنيمة

0

كتب/ محيي الدين ملك

لنتخذ من الرأي الفني، هذا، – في حدود الواقعية، مدخلاً تستند إليه الكتابة في تجربة الفنانة (رحاب غنيمة):

الفن، كنتاج إنساني، بصفة عامة، ميزة تجعله دائمًا: إمَّا قريبًا من الواقع أو بعيد عنه، وإمَّا متجاوزًا له، وذلك لإبراز تجربة إنسانية ما وإيصالها بصورة شكلانية، مرئية ومعبرة لتحقيق متعة جمالية. وعليه، فالنص الفني يسمح بقراءات وتفسيرات مختلفة، ولكنها في الأخير تكشف عن حقائق عديدة متعلقة بتلك التجربة وأهدافها وتعبيراتها. ومن هنا، فإنَّ مصطلح الواقعية تُستخدم كمعيار للقراءة والتحليل.. فالواقعية مثلاً توصل إلى قراءة مثالية تحتوي النص كاملاً، وبصرف النظر عن الاتجاهات والمدارس الفنية التي ينتمي إليها. فالواقعية مثلاً، تكشف عن الحقيقة الحياتية بأبعادها المختلفة، بينما التجريدية، هي قراءة مثالية فكرية لا تبتعد عن واقعها المحسوس، لكنها تحاول أنْ تخلق من تلك الوقائع علاقة حميمة لتجسيد المشاعر الذاتية لتجربة الفنان، أو أنَّها كما وصفها (هربرت ريد) بأنها “فردانية” الفنان في التعبير عن انفعالاته ومشاعره.

إنَّ النظرة الواردة، هنا، في هذا النص، تكشف عن هذه القفزات في الواقعية، واللمسات الخاصة في تجربة الفنانة )رحاب غنيمة(، عن نظرتها في رسم المرأة وتصويرها من النموذج نفسه، أو من ذاكرتها وعقلها، أو من وحي شكلها نفسه، وذاتها، وإذا أردنا أنْ نفهم هذه التجربة، والتجارب التي شاكلتها، فيجب أنْ نفهم ذلك، أي: امرأة بريشة امرأة، أو بتعبير آخر، تكون التجربة الفنية لديها هي أكثر توهجًا وتأثيرًا فيما لو رسمت موضوعات غير موضوع المرأة. أو قُل: لا يوجد فرق بين المرسوم والرسامة إلا من خلال الأسلوب الواقعي التي من خلالها تحاول الفنانة التعبير عن المرأة (صورةً وجوهرًا)، وبالتالي فإنَّ قراءة اللوحات في هذا النص تستند إلى تجسيد المرأة بلغة واقعية تحمل في طياتها الحالة التعبيرية، واللمسة التجريدية، بل نظرة بنكهة شاعرية وهاجس متباينة، تتجسد في اللوحات عبر خطوط وألوان. عبر تكوين وفراغ.

بمعنى، إنَّ أعمال الفنانة (رحاب)، هي لغة واستعارات ودلالات الفنانة نفسها: حضور شديد الكثافة، تجعل المتلقي وكأنَّ الطرفان (اللوحة الفنية والفنانة)، في حالة تطابق وطِباق عبر اللمسات الأنثوية الخاصة وهي تشق طريقها عبر اللون والخط إلى اللوحات.

فمن جهة الموضوع، والواقعية بأبعادها التجريدية والتعبيرية.. الخ، كمن يتأمل هذه الكلمات التي وردت على لسان أحد الباحثين: .. أمَّا من وجهة نظر المرأة ذاتها، فإنَّها لا تعتز بشيء في حياتها قدر ما تعتز بأنوثتها وما وهبها الله من جمال وجاذبية.. وتعتبرها أثمن كنوزها على الإطلاق. لذلك نجد أنَّ هذه الودائع الثمينة عي وسيلتها في التأثير والانتباه.. بل وفي التفوق والسيطرة بلا حدود حسب الظروف والأهداف والغايات التي تنشدها في حياتها.. وعلى قدر مواهبها في الذكاء لاستثمار هذه المقومات  الأنثوية.

واللوحة بريشة فنانة هي واحدة من تلك المواهب التي تستثمرها (رحاب غنيمة). ففي أعمالها تحوّل المسافة إلى عطر فواح يمتد بين الحمامة وحاسة الشم، وما يزال الحمام يرفرف في فراغ اللوحة. وكيف أن الحصان رفض براري الطبيعة، وظل بالقرب من هذا الكائن البشري الرقيق..

   منذ البداية، يلاحظ المشاهد محاولة الفنانة (رحاب) أنْ تجعل من المرأة – الأنثى موضوعًا يدور حول عوالمها، فالأنثى فضاء أرحب، وجمالها يُلمس باللمسة الرفيقة والرقيقة. يجدها المشاهد تتحرك في لوحاتها باستمرار. تعجن الألوان وتمزجها. تحرّك الفرشاة كشاعرة على شاطئ الأنثى. التأمل والعمق بحثًا عن دلالات ومعان تتجاوز بها الدلالات والمعاني لتتجاور مقاصد الفنانة، بمعنى التعبير عن العذب والعذاب.. عن الألم والأمل، وكلها تؤدي إلى الإبداع. لأن الفنانة ترسم المرأة بحب من وحي نفسها، ثم تصوغ ثانية، لترد الحالة إلى اللوحة، ذلك أن اللوحة بقاء.

إنَّ تجربة الفنانة (رحاب) هي في الوقت ذاته تجربتها، نفسها. فحين ترسم المرأة الريفية  بزيِّها، وزينتها، إنما ترسم المرأة كلها. وحين ترسم عن الأحزان، إنما ترسم أحزن العالم كله. وحين تضع مع المرأة حمامة أو فرسًا، فإنها تحاول أنْ تضع السماء والأرض، أيضًا.

قرأت في كتاب، كلمات في مديح المرأة. تقول:

المرأة، كانت ذات يوم وردة في عروة ثوبي، خاتمًا في إصبعي، همًّا جميلاً.. والمرأة عندي الآن ليست ليرة ذهبية ملفوفة بالقطن.. المرأة هي الآن عندي أرض ثورية، ووسيلة من وسائل التحرير. إنني أربط قضيتها بحرب التحرير الاجتماعية.. إني أريد أنْ أنهي حالة المرأة.. وأحررها من سيف عنترة وأبي زيد الهلالي.

ران في خاطري هذا السؤال، ماذا لو أنَّ في النظرة الشعرية دلالات تصطدم بتجربة الفنانة (رحاب). فهي أيضًا ترسم المرأة. وهي أيضًا جزء من أرض، ومجتمع من عادات وتقاليد، وتاريخ له ماضٍ وحاضرٍ، وتراث ثقافي.. ولعل هذه التجربة – بشكل أو بآخر – من تلك الحالة ببعدها الإنساني. ومن تجربة ذاتية – وبمجرد أنْ تتحول إلى عجائن لونية.. إلى خطوط ونقاط.. إلى كتلٍ وفراغات – تحاول الفنانة أنْ تبث فيها من جمال المرأة والحياة.. ربما، تتعدى هذه التجربة ذاتها، ويراها العالم.

لوحات تحكي حكايات المرأة، لأجلها، ولأجل الحياة والجمال. لأنَّها رمز الخير والعطاء، ونبع الخصوبة. وما وجودها إلا من أجل الإحساس بالأمان والعطاء. يقول الشاعر:

فلن يخرج الربيع إلا من بين أصابعك

ولن تتشكل الحضارة إلا على ضفاف أنهارك

ولن يخرج الذهب إلا من مناجم أنوثتك.

تناص من الكلمات والعبارات تنسج خطوطها وألوان.. ليتردد صداها في أعمال الفنانة (رحاب).

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*