كتب / رياض إبراهيم الدليمي
نحن إزاء تجربة تعي أنَّ الفن فكرة وهدف ثاوٍ أو معلن تبثه برسائلها النصية البصرية وفق أي أسلوب جمالي تراه معبرًا عن أفكارها وبأية وسيلة اتصالية أو شكلية، فحولت الأمكنة إلى حروف وألوان وصور مشرقة عن الأصالة والهوية والإنتماء لأيقونات التراث الإماراتي وكل محمولاتها الثقافية والمعرفية (Cultural and cognitive predicates) وما اختزنته الذاكرة الجمعية لشعبها من رموز وما أحدثته النهضة العمرانية الحديثة في بلدها والتي أتاحت للجميع أنْ يعبر عن حبه وولائه لوطنه؛ مما أسهمت هذه العقيدة من إنتاج وصناعة الرمز والبطل الوطني في كافة الصعد.
لهذا فالثقافة الشائعة تبلورت كحافز للفنانة الإماراتية ( فاطمة الحمادي ) لصياغة شخصيتها وثقافتها وإبداعها وفق هذه المعطيات الوطنية ووفق هذه المساحة الجغرافية التي تقطنها وتاريخها الحافل بالمنجزات، وخاصة التاريخ الحديث لدولة الإمارات العربية بشكل عام وتاريخ إمارة (الشارقة ) على وجه الخصوص هذه الإمارة .العلامة هي التي تميز المكان والمدينة إنْ كانت بصفتها الإعلانية أو العلامات كدالة سيمولوجية ثقافية (Markers as a cultural symmetry function ) فتعطي للمكان بعده وأهميته وميزاته البنيوية في علم الجمال تعد طرائق التركيب أهم من العناصر.
(فرولان بارت Roland Bart) يقول: “الإنسان كوكبة من العلامات يمشي ويبث”.إمارة ( الشارقة ) والذي يعد المكان الذي ولدت فيه ( فاطمة ) وترعرعت ونمت شخصيتها فيه وما علق بذاكرتها من قصص وحكايا وانتماءات فشكل خزينًا معرفيًا وثقافيًا وروحيًا لها، لذا كانت هذه أهم العلامات البارزة التي أزاحتها الفنانة من تقوقعها في مخيلتها وذاكرتها؛ لتطفح فنًا تشكيليًا قد عبرت عنه في لوحاتها وجدارياتها؛ فشكل فنًا راقيًا استطاعت أنْ تضع بصمتها في التاريخ الحداثي للفن التشكيلي الإماراتي ،إنَّ اهتمام إمارة الشارقة بالجوامع والمساجد يبدو ملحوظًا في حرصها على أنْ تكون مظاهر العمارة الإسلامية ظاهرة في كل مناحي الحياة للمسلمين. إنَّه ذلك الفهم الصحيح لمعنى الحضارة والتركيز على التمسك بالجذور والانطلاق منها لمواكبة ركب الحضارة المتقدمة.الشارقة إمارة الثقافة والفكر والنهضة الحضارية والمعمارية؛ تتخذ أهميتها الراهنة من دورها الريادي في المنطقة على صعيد رعاية الفنون وتكريس قيم الثقافة الأصيلة، ومن قدرتها على صياغة هوية حضارية تجمع بين جذورها الإسلامية وإرثها التاريخي، وبين المعاصرة والانفتاح على الثقافات الإنسانية المتعددة. يقترن اسم الشارقة في ميادين الفكر والمعرفة .
تكتمل التجربة وتنضج عندما تقترن الموهبة بالتمكين الأكاديمي والاحتكاك بالتجارب الأخرى، لذا جاءت تجربتها مبنية على أسس شخصية ودراسية فصقلت هذه الموهبة وبرمجت تطلعاتها وطموحاتها واكتسبت وعيها الفني والمعرفي لتفهم وتعي ما الأهداف التي تطمح إليها وفق مكنوناتها وخزائنها ومقدراتها الذاتية؛ لهذا فقد بدأت تجربتها في شق طريقها باستقامة دون عثرات ومنذ زمن مبكر لأنَّها أدركت أنَّ التخطيط الصحيح والإرادة والصبر كفيلة بأنْ تحقق طموحاتها وأحلامها، لهذا قد وجدت نفسها في عدة مسارات إبداعية من التدريس والتأليف والرسم فأبدعت فيهم وكونت لها اسمًا يشار له بالبنان .
تسعى ( فاطمة ) أنْ تجعل من تفكيك العناصر (Dismantling the elements) وإعادة تشكيلها (Reconfigured ) كبنيّة أساسية في تركيب لوحاتها التجريدية فهي تبتعد عن المفاهيم التشكيلية للخط العربي غير معنية بفنون الخط بقدر اهتمامها بالحرف كعنصر فني مستقل بذاته الشكلية والروحية والجمالية، فيبدو الحرف لديها أيقونة تكوين لوني لما يتمتع به الحرف العربي من خصوصية مختلفة عن باقي حروف اللغات، فالحرف العربي متميز في شكله التعبيري فهو ليس صوريًا كما في اللغة الهيدروغليفية المصرية (The Egyptian Hydrographic Language) وليس مستقلا غير متصل كما في باقي اللغات وخاصة اللغات اللاتينية والإنجليزية؛ بل هو حرف لين ومرن كالطين في طواعيته عند تشكيله وحرفنته.
يقول الفنان بيكاسو Picasso artist : “إنَّ أقصى نقطة أردت الوصول إليها في فن الرسم وجدت أنَّ الخط العربي قد سبقني إليها منذ أمد بعيد”، فالحرف بالنسبة إليها مصدر الهام ومنبع إشراق روحي ونفسي وثقافي؛ فقد وظفته في مختلف تشكيلاتها البصرية لتنتج نصوصًا بصرية ولغة لونية وشكلية تلامس روح وذائقة المتلقي وتغازل وجدانه وخاطره بروح معاصرة حداثية وبأدوات وعناصر وتقنيات فنية قد ساعدتها لصياغة هوية خاصة بها ضمن مشروعها الشخصي الذي يلبي طموحاتها ويحاكي ذاتها وهويتها .حالة الشغف للتجديد والابتكار كانتا السمتان الأساسيتان اللتان ميزتا هذه الفنانة في المشهد التشكيلي الإماراتي؛ حيث اتخذت من التجريد Abstraction)) أسلوبًا تعبيريًا لصياغة الفكرة الجمالية التي تؤمن بها والتي تحاول أنْ تدمج فيها بين الأصالة والتراث في تحديد هوية فنها الحروفي، لأنَّ الحرف هو طاقة روحية لا تنضب في جوهرها، لذا قد انتبه الفنانون العرب لما للحرف العربي من القدر التعبيرية الشكلية المعبرة عن الذات والهواجس والأفكار، فيعد التجريد هو الأقرب إليه لأنَّ الحرف هو مجرد في تكوينه ويمتلك طاقة إيقاعية موسيقية من خلال شكله اللين الذي يأخذ شكلا زخرفيًا طيعًا من السهل أنْ تصيغ منه شكلا جماليًا وفق إحساس ومشاعر وأفكار الفنان (يتميز الفن الإسلامي بالإيقاع وهو جزء مهم وعامل مؤثر في اللوحة ولزيادة نسبة التوازن بين أحجامها فيعطيها منظرًا جماليًا مألوفًا يؤثر في احساس المشاهد، اعتمد الإيقاع في الفن الاسلامي على الخط اللين والهندسي وعلى التماثل والتبادل والتناظر وكذلك توزيع الوحدات وتعدد المساحات وتوزيع الخط وسط كل تلك العناصر.
نادرًا ما نرى في أي عمل فني إيقاعًا واحدًا بل غالبًا ما يشمل عدة إيقاعات لكي يُكسب اللوحة تجديدًا وتنويعًا في الشكل، لذا تكون الكتابة العربية في اللوحات الخطية دائمًا أكثر من العناصر الزخرفية.يعتبر الايقاع في اللوحة الفنية بمثابة القلب للجسم فانتظام ضربات هذا القلب في دقة وتناغم ينتج عنه سلامة وصحة الإنسان )، لهذا لم تتخذ الفنانة من الحرف لغة أو خطًا أو فكرة متسلسلة؛ بل هي لديها حذقة فنية بصرية جمالية قد تكون مجردة بتجريد خيالي بحت حسب فهمها ووعيها وذائقتها، فإنَّها متمردة فنيًا على التشكيل اللغوي الحروفي (Literal linguistic formation ) لصالح تجريداتها وعطشها الحسي والنفسي للتكوينات المغايرة التي تتماشى مع حداثية منهجها التشكيلي المعاصر الذي تستلهم المادة التراثية لتحيلها إلى تحفة حداثية علاماتية في مشهدها الفني التشكيلي إنْ كان على شكل لوحة أو جدار أو أي تصميم آخر .الحروف في لوحات ( فاطمة ) تنهمر كحبات مطر وعناقيد كروم وأجنحة فراشات وبحار وشواطيء وبتلات ورود وسحاب، إنَّها تشكل الحروف كيفما اشتهت مخيلتها بألوان الفيروز والشمس والأرجوان والبرتقال والذهب فتبهر النظر وتداعب الفكر، فاللوحة لديها ثنائية الأبعاد (Two-dimensional ) في البعض منها، فهي تشاكس عين المتلقي بقوة مما تعطيها جاذبية ودهشة للرائي (Allure and astonishment for the seeker ) ولا يستطيع أنْ ينفك من أسرها بشدة الفضول للغوص في متاهات الألوان والوحدات التكوينية التي شكلتها (فاطمة ) على السطح التصويري بعدة تكوينات وكتل لونية (Configurations and color blocks ) دافئة وهادئة ورومانسية، وحقيقة هذه الأشكال والتكوينات هي ليست رموزًا وشفرات دلالية بل هي تشكيلات فنية صرفة نابعة من الخيال والعبث التصويري التي تجيده وتحترفه ( فاطمة الحمادي )؛ لخصب خيالها وذهنيتها المتقدة وحرفيتها في الصنع والإنتاج الفني.ففي لوحاتها قد تبدو الوحدة التكوينية عبارة عن أحبار منصبة ومندلقة على شكل موجات حروفية لونية متدفقة بغزارة وبشكل مكثف على جزء من السطح التصويري ونلاحظ أنَّ الزخارف الحروفية ونقاط الحروف شكلت علامات تجميلية مكملة للشكل الأصل وكأنَّها قطعة لحنية لونية تجملها ضربات موسيقية للحرف والنقطة وهي تشابه النبرة الموسيقية وأصوت الحرف العربي وهرمونيته (The sounds of the Arabic letter and its hormonal nature ).ويلاحظ في لوحتها كذلك تركها فراغَا كبيرًا على السطح ويبدو هذا الفراغ من الحيز كأنَّه صدى لموسيقى الكتل اللونية الحروفية والجسد اللوني المتموج، حيث يغدو الفراغ مصممًا كغرفة بجدرانها التي لا تخفي ولا تمتص ألحان فاطمة وحروفها وألوانها السماوية والنرجسية والقرمزية، فهي مشاكَسة مقصودة من قبلها للتماهى مع ذائقة ومشاعر المشاهد ليصبح مندمجًا ومنصهرًا مع خطابها الجمالي كما نجدها قد جسدتها في لوحات مثل ( الجوهرة وشذرات وإيقاع والطاووس ونقطة وفصوص ).
وفي لوحة ( جذوة نار ) تحيل النار جذوة زرقاء ولاهبة من بضعة حروف اتخذت شكل موقد نار مشتعلة ومتوهجة فنلاحظ حرف الحاء والواو والنون وتشكيلات الحروف كلها تظهر للمتلقي كأنها كتلة نار زرقاء غير لاذعة ولاسعة؛ بل هي بمثابة وهج لوني (Chromatic glow ) تشكيلي منبعث من قاعدة اللوحة إلى أعلاها وكأنَّها تهيج رماد الحرف لتحيلة وهجًا وألقًا ولحنًا موسيقيًا بامتداده وتشابكه وحميميته؛ لأنَّها شكلت من الحروف تدفقا لونيًا واحدًا وبامتداد عمودي لاهب تتلاشى نيرانه كلما انبعث عموديًا حتى ينتهي ويتلاشى في الفراغ وهو فضاء اللوحة، وهذه الشارات الشكلية للحروف إنَّما تعبر عن جمرات المعرفة وانبعاثات الروح وتساميها وتألقها لكسر الصمت وإنارة عتمة الروح والفكر لتجعل الذاكرة متقدة بروحها واشراقاتها ووعيها وجمال أحاسيسها وانفعالاتها .
في لوحات جميلة كـ ( لآلئ و حروف دافئة وإشراقات لونية ) تتخذ من اللون الأصفر والأزرق الداكن والفاتح واللون الأبيض واللون الذهبي والبرتقالي والزهري حوارية شكلية ولونية فالحروف هنا على السطح البصري تعد جسمًا وجوهرًا للمتن النصي البصري والكتل اللونية المنصبة والمندلقة على السطح يشكل الجزء المحاور للحرف، فالجسد المتموج للحرف والذي يتصف برشاقته وخفته والذي يشبه ذيل الطاووس في عنفوانه وتبختره، يضاهيه في تألقه بريق الألوان ونصاعتها وصراحتها وانسجامها معًا على السطح مما يشكلان؛ أي الألوان في زهوها وألقها والحروف في أناقتها ووسامتها الشكلية معزوفة حب وعشق تطرب الأسماع ولا تصم لها أذن ولا يغمض لها جفن، إنها دلالات وشارات تجريدية شكلا ومضمونًا اتخذت هوية فنية لأعمال ( فاطمة الحمادي ) لا تحتمل التأويلات والتفاسير والمنطق إلا منطق الذائقة والحس الشفيف .
لقد تميزت تجربة ( فاطمة) بولعها بالفن الجرافيتي (Graffiti art )وهو الرسم على الجدران؛ هذا الفن الذي شاع مؤخرًا والذي يعبر عن ثقافة لونية جمعية من خلال استغلال سطوح الجدران في الشوارع والأبنية والأنفاق للرسم عليها لكسر الرتابة والجمود ولملء الفراغات ولصنع الألفة بين المجتمع والمكان، ولإحالة هذه المساحات الموحشة إلى حدائق لونية غنّاء تبهر الناظر وتسر النفس ولتجعل من الفراغ والصمت لهذه المساحات الواسعة الجرداء للجدران إلى أغانٍ صاخبة بالحركة والإيقاع والأشكال اللونية البهيجة.لذا استطاعت ( فاطمة ) ضمن فريقها ( فنانوا جرافيتي الإمارات ) أنْ تزين الأنفاق والشوارع والساحات ولتدخل مع فريقها موسوعة غينتس بعملين بعد أن تمكنوا من تنفيذ الرسومات على أطول مسافة تمتد إلى 1600 متر في جدارية عام 2014، بمناسبة يوم الإتحاد فسجلت رقمًا قياسيًا بأكبر لوحة في ميناء الشيخ زايد وهو عمل تجميلي للشواطيء التي تضيف جمالية للمكان وتنشط السياحة، ويعد الرسم على الجدران ثقافة حديثة في الإمارات وهي ثقافة وخطاب فني موجه للمجتمع بشكل مباشرة والغرض منه قراءة الشكل الفني الصوري من قبله وإيجاد لغة مشتركة بين رسالة الفن ومتلقيها وهو المجتمع .
الرسم في الأماكن المفتوحة وبمساحات شاسعة يعد بمثابة معرضًا فنيًا مفتوحًا لكل الأزمان لتوطيد العلاقة البصرية بين المتلقي والفن ولإشاعة الثقافة الجمالية للفن وما له من قدرة على تنمية وتنميق ذائقة وثقافة المجتمع لإيصال رسالة الفن الحقيقية في تربية النفس والعقل على ما هو جميل ومؤثر مما سينعكس إيجابًا على سلوكه وثقافته وانتمائه وحبه للمكان والشعور بالألفة نحوه .عند الرسم على الجدران وبمساحات كبيرة يشترط ضبط الإيقاع الشكلي واللوني وخلق حالة التوازن وكيفية التعامل مع هذه المساحات فلابد من هندسة المكان وإيجاد علاقات متوازنة بين الشكل والمساحة والفضاء (Balanced relationships between form, space and space) لهذا يستوجب تخطيطًا أوليًا لتحديد الشكل المجسد ومدى ملائمته للمكان وهويته وخطابه الجمالي والثقافي الذي يتوجب أنْ ينسجم مع ثقافة المجتمع وذائقته، وكذلك تحديد الألوان ومدى ملائمتها للمكان أيضًا، وتحديد الهدف ومن ثم ملء الفراغات سواء بالألوان المجردة أو بالصور أو بالزخارف وفق العناصر وأدوات الاشتغال المتاحة للفن الجرافيتي المعروف منها أو التقنيات الحديثة ومنها الوسائل التقنية الإلكترونية الرقمية وغيرها .وهذا ما تميزت به أعمال ( فاطمة ) وفريقها عندما نفذت أكثر من عمل خاطبت فيه أحداث وظواهر يوميات المواطن وكذلك حضارة وثقافة شعبها وأمكنته الجميلة .
باعتبار الفنان فاعل اجتماعي وثقافي في مجتمعه لهذا سعت الفنانة الإماراتية ( فاطمة الحمادي ) أنْ تكون فاعلة في مجال تأليف المناهج الفنية للمدارس الابتدائية والثانوية والتي سعت وزارة التربية في الإمارات أنْ يكون الفن التشكيلي وباقي الفنون منهجًا في التربية وتهذيب شخصية الطالب وزيادة معارفه واطلاعه على أسس الرسم ومدارسه وتاريخه وأهميته للإنسان.ونضف إلى ذلك أنَّ شخصية ( فاطمة ) لها حضورها الاجتماعي من خلال مشاركاتها المجتمعية وفي مختلف المناسبات؛ إضافة إلى ذلك ظهورها المكثف في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي لتسلط الضوء على تجاربها وتجارب فريقها النسوي في اضفائهم للحياة الإماراتية رونقًا جماليًا وثقافيًا وترويحيًا من خلال معارضهم وكرنفالاتهم الاحتفائية وتجمهرهم الفني بالرسم على الجدران أو الرسم في الهواء الطلق في مختلف المناسبات الوطنية والاجتماعية لإبراز تراث ومعالم ثقافة الشعب الإماراتي ومدنه .