غـازي انـعـيـم
يعد الفنان التشكيلي المصري عبد الهادي الجزار الذي ولد في 25 آذار 1925،بحي القباري بالإسكندرية، من أهم فناني جيله، حيث شغل إنتاجه الفني الفنانين والمهتمين والنقاد وطلاب الدراسات العليا الذين تناولوا أعماله الفنية بالبحث والتحليل، وكانت رسومه رغم حياته القصيرة التي لم تتعد عشرين عامــًا، تتميز بخصوصية واضحة لها أسسها وخصائصها الجمالية ومصدرًا من أهم المصادر لشكل الحياة الشعبية في مصر، وكان أفضل من عبر عن تلك الحياة وناسها الغارقين في الجو الأسطوري الغامض واستطاع عبر وعيه وفهمه العميق لتراثه الحضاري وواقعه وتطوره أن يستخدم تلك الأجواء كوسيلة لتجسد أحاسيسه الذاتية، فضمّن لوحاته التي تجمع ملامح أسلوبه التعبيري والرمزي وإيحاءه السريالي، العادات الموروثة، كالأفراح، وحفلات الزار الصاخبة التي كان الهدف منها إرضاء الجن واتقاء الأذى الذي يمكن أن ينجم عن غضبهم.
كما ضمّن لوحاته حلقات الذكر، والموالد الشعبية، والمشايخ، والمشعوذين، والسيرك، وقارئ البخت، والمجاذيب الذين يقضون حياتهم بجوار الأضرحة، بالإضافة إلى الرموز الشعبية السحرية ذات الدلالات المنوعة مثل الأحجية، والتمائم، والعين السحرية، وحدوة الفرس، والعقرب، والكف.. وهي رموز تستخدم في الحياة الشعبية لدى الناس البسطاء ضد الحسد واتقاء للشر، وتعبِّر عن الواقع الثقافي وأحلام رجل الشارع البسيط.
بالإضافة إلى تضمين لوحاته حروف وكلمات وأبيات من الشعر تكوينات غامضة ذات طابع خيالي مأساوي تدور حول موضوع الموت والمجهول والقدر والمقسوم.. استقاها من قراءاته المستفيضة في علم النفس والفلسفة ونظرية التطور، بالإضافة إلى عالم الفضاء والعمل.
تلك الأجواء عاشها الجزار في مدينة القاهرة عندما انتقلت عائلته إليها قبل أن يتم عامه العاشر، وعاش طفولته وشبابه بحي السيدة زينب، حيث عالم السيرك والعجائب والخوارق، ومواكب الموالد، وحلقات الذكر…
ومن القاهرة بدأ الجزار رحلته مع الفن في مدرسة حلمية الثانوية، بإشراف وتشجيع أستاذ الفن (حسين أمين) الذي كان يوجهه ويفتح الآفاق أمامه، وفي الـ 17من عمره أي في العام 1942، رسم مجموعة من اللوحات التي تدور حول فكرة الموت والميلاد، ونشأة الحياة، والإنسان وعلاقته بالطبيعة وصراعه معها، وموته أثناء ذلك أو انتصاره، وعالم البحر والقواقع التي استخدمها كرمز للحماية، ونذكر من هذه الأعمال على سبيل المثال لا الحصر: ( آدم وحواء، الإنسان والقواقع، والمرأة في القوقعة، ورجل في قوقعة.. )، وقد أطلق أستاذه على هذه المرحلة التي كانت تشي بشحنة تعبيرية متفجرة بـ (المرحلة التحضيرية ) أو (فنان القواقع ).
بعد أن أتم الجزار دراسته الثانوية، التحق بكلية الطب ثم تركها والتحق في العام 1944، بمدرسة الفنون الجميلة العليا – قسم التصوير – وتخرج فيها عام 1950، ورسم أثناء دراسته أعمالاً فنية كانت موضع الدهشة في الأوساط الفنية في الداخل والخارج، بل ومحل إعجاب وانبهار وتقدير النقاد العالميين، أمثال النمساوي (ولهلم فيولا)، والفرنسي (مرييل)، والإنجليزي (راسل وريد)، والبلجيكي (فيليب دارشكوت)، وأخيرًا (سارتر) الذي أبدى إعجابه وانبهاره بأعماله عندما زار معرض الفن الحديث في مصر مع (سيمون دي بفوار)، وكانت أهم لوحاته في هذه المرحلة: ( آدم وحواء، والكهف والرجل البدائي، والكائنات والأرض وآدم وحواء ).
وقد عرضت هذه الأعمال في المعرض الأول لجماعة (الفن المعاصر) التي تكونت مع أصدقائه العام 1946، وكان من أهداف تلك الجماعة الابتعاد عن الشكل الأكاديمي الغربي، والتعبير بصراحة وشجاعة عن حقيقة الواقع وكشف ونقد المستور من علل هذا المجتمع.
في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، تخلص الجزار من مرحلة القواقع، ليقدم بعد ذلك مجموعة من الأعمال المستقاة من الحي الذي قضى طفولته وشبابه فيه، وصاغ منه أعمالاً تضمنت بعض الرموز الغريبة التي تعود للسحر والشعوذة.
وكانت أعمال هذه المرحلة ذات قيمة فنية رفيعة، وضحت فيها شخصيته المتبلورة وموقفة الواضح من مجتمعه وعاداته وتقاليده، وشكلت أعماله قيمة حقيقية للتصوير المصري، وتمثلت في لوحات مثل: ( فرح زليخا ودنيا المحبة 1948 )، و ( والجوع أو الوجبة 1948 )، التي سجن من أجلها في العام 1949 وأفرج عنه بعد تدخل الفنان محمود سعيد ومحمد ناجي.
لم توهن عزيمته الليالي التي قضاها رهن الاعتقال، فبعد خروج الجزار من السجن أبدع سلسلة من اللوحات الساخرة من المفاهيم المتخلفة التي كانت تتخلل الحياة الشعبية، مثل التخلف، والجهل، وتافه السلوك، والفقر، والقهر، والدراويش والمجاذيب، والسيرك، ونذكر من أعمال هذه المرحلة، لوحة ( سجادة شعبية 1949 )، ولوحة ( أكل الثعابين أو الحيات 1951 )، و لوحة ( الماضي والحاضر والمستقبل 1951 ) ولوحة ( أبو أحمد الجبار 1951 )، التي سخِر فيها الجزار من الجهل والقهر الاجتماعي، وكذلك رائعته ( المجنون الأخضر 1951 )، التي حظيت بشهرة كبيرة رغم صغر حجمها وبساطة عناصرها.
كما أبدع مجموعة من اللوحات مثل: ( الرجل المعلق، والعائلة، وعربة السيرك، والفارس، والعين السحرية، وعالم الأرواح، وتحضير الأرواح )، واللوحة الأخيرة رسمها الجزار في العام 1953 بالحبر الشيني، وتتضمن مجموعة من العناصر المرتبطة بمعتقدات موروثة، مثل القواقع والقطط والسلاحف والثعابين وتنويعات من زخارف الوشم.
في المرحلة التالية عاش مرحلة جديدة تختلف عن المرحلة السابقة ـ أحداث ثورة 1952 ـ فرأى صورًا ومشاهد كثيرة تختلف عن الأولى: مواكب العمال وهي تسير نحو المصانع، والفلاحين وهم يخرجون من وراء أسوار الإقطاع ويدخلون الأرض الخضراء من جديد، كما رأى مواكب النصر، ومرحلة تحقيق الحلم، فأخرج إنتاجا خالدًا يمثل انفعالاته بهذه الأحداث أطلق عليها العناوين التالية: ( باندونج، النصر، الحلم، بورسعيد، دنشواي والعدالة..).
سافر الجزار بعد ذلك في العام 1959، في بعثة رسمية لاستكمال دراسته في إيطاليا، وهناك تأثر بأسلوب الفنان الإيطالي (فرانشسكا)، ثم سافر إلى فرنسا، وفيها تأثر بالمدارس الأوروبية الحديثة كالسريالية والرمزية.
كان الجزار الذي استفاد من كل تلك الثقافات والأساليب الفنية، حريصًا على المحافظة على أسلوبه وطابعه الخاص من الضياع وبقي محافظًا على تفرده وأصالته، وكان شاغله الأول التعبير الصادق عن روحه الأصيلة.
بعد عودته في بداية الستينيات إلى مصر، كان دائم الحديث عن ضرورة مواكبة الفنان لأحداث عصره ومجتمعه، وقاده ذلك إلى توظيف تقنيات مختلفة في أعماله مثل قطع الزجاج والأسلاك، وقواقع بحرية، وعجائن سميكة، والاهتمام بالملامس الخشنة على مسطحات لوحاته، هذه التجربة التجريدية التي استمرت ما يقارب العام، تعتبر استثناء في مسيرته الإبداعية، وفي غمرة هذه التجربة أبدع في العام 1962 لوحة ( الميثاق )، ثم انتقل إلى موضوع غزو الفضاء الذي كان محور اهتمام الناس في العالم حينذاك، وأتاح له ذلك الموضوع فرصة في استغلال خياله الفني، فهجر عالم الأحلام والأساطير الشعبية من سحر وشعوذة بدائية، إلى عالم الفضاء، فأنتج في عامي 1962 و 1963، سلسلة من اللوحات مثل: ( عالم الفضاء، ورجل فضاء، وشيء يحدث في الفضاء، وميلاد كوكب والحزام المغناطيسي ).
في العام 1963 قام بزيارة موقع السد العالي أثناء العمل في بنائه، فرأى الإنسان وهو يدير الآلات العملاقة والماكينات الضخمة، ففجرت لديه إمكانية التعبير عندما أبدع الجزار مجموعة ضخمة من اللوحات، نذكر منها: ( الإنسان والآلة، الإنسان والميكانيكا، رجل العصر، رجال وحديد ومن وحي السد العالي )، وقد ركز في تلك الأعمال على الإنسان والآلة، حيث حلت الأخيرة في هذه المرحلة محل مرحلته الشعبية ـ التعاويذ والأحجية ـ ورمز في لوحاته من خلال الآلة إلى عالم المجهول والقدر، والخوف والرهبة من تلك الآلة.
ولعل أكثر لوحات المرحلة الجديدة التزامًا بالتعبير المباشر عن تلك المرحلة ـ النهضة الصناعية وبناء السد العالي ـ لوحة ( السد العالي 1964 )، وهي تمثل بورترية لعملاق أسطوري تمتزج ملامحه بملامح السد العالي، وهو يتطلع بشموخ إلى المستقبل، وقد تشكل عنقه ورأسه من مئات التفاصيل الدقيقة للآلات والماكينات، التي توحي بمواكبته لروح العصر العلمية، وفي خلفية العمل نشاهد الأرض التي تنتظر الخير الذي يحييها.
وقبل رحيل الجزار بعام أبدع رائعته بانوراما ( السلام 1965 ) التي لخص فيها كافة مراحله الفنية ووضع فيها مكتسباته التقنية، وقدم لنا جميع عناصره، ورموزه، من شخوص شعبية، وأطفال، ونساء، وشباب، وشيوخ، ورؤساء وملوك، وبحر، وقواقع، وقوارب، وعناصر التقدم العلمي، وإنسان الفضاء، ومفردات محببة إليه، كالحصان، والبقرة، والحمار، والقطط.
كل تلك العناصر يحف بها جناحان كبيران؛ تحف بهما أعلام الشعوب، وفي وسط الساحة محارة وعروس بملابس الزفاف، وهو هنا يرمز إلى ميلاد علم جديد تسوده الأفراح ويتآخى فيه البشر.
والجزار الذي رحل في 7 آذار / مارس 1966، بعدما فاز بجائزة الدولة التشجيعية عن لوحة ( السد العالي )، تقديرًا لنبوغه وعرفانًا بفضله وكفاحه في سبيل تطوير الفن وجعله في خدمة المجتمع، كان قد أتقن أصول الكلاسيكية في الرسم والتلوين، في وقت مبكر من حياته، وظل محافظًا على طريقته وأسلوبه في معظم المعارض التي ساهم فيها سواء داخل مصر أو خارجها، وذلك باستثناء بعض تجاربه التشكيلية في بداية الستينيات.. ومع أنه كان غزير الإنتاج، إلا أنه لم يقدم أعماله في عرض فردي سوى ثلاث مرات فقط، على طول مسيرته الفنية، أولها العام 1951 ثم العام 1956 وآخرها العام 1964.