عبد الرازق عكاشة : كليمت قائد ثورة التجديد في النمسا
الأرض لاتمطر أحلامًا،فامسك عصاك بقوة،سر تجاه الأمل،ملائكة السماء لا تعزف أناشيد الظلم،الضوء ليس مرادفة الظلام؛الظل ليس مرادف النورعند كليمت؛فظل الظل عنده نور،ظلام الظلام هي مرحلة البصيرة ؛كلام يدركه الثوار في الإبداع ، يفهمه المجددون؛ أما الراقصين على الأحبال قصيري النظر في لغتهم البصر المباشر؛نورهم هو الضوء الكهربائي الصاعق؛هم غرقى في طين ما ليس به طهر،غرقى في تراب لا ينفع للتيمم قبل الصلوات الوسطى؛الأرض تمطر فرحا تحت أقدام العاشقين،المفكرين،الباحثين؛نعم يا كليمت ثورة على ثورة وطن على وطن فنهر الدانوب اليوم لا يلقي أسماكًا تؤكل؛إنما ألوان تشبع العين تنعش الخيال،ألوان لونها المجددون بمزاج حسي كليمت وأصدقائه،فنهر الكرامة يطرح نخيل شامخ على شاطئية؛وأنهار الذل لا ترمي إلا اللون الأسود في حلقة عين المنكسرين هذا إن اعتبرنا الأسود لونا؛انبطح أكثر أيها العبد انحني أكثر فلن تكون كليمت ولا شيلي ولا كوكوشكا ولاحتى عكاشة في يوما ما،التاريخ لايكتب شهادات ميلاد للعبيد إذا أردت أن تكون مبدعًا تبحث عن النور ارفع رأسك ياأخى في النورفي السماء وليس في شهادات ملوثة بحبر الزفارة والجهل،أعلم أن العبيد لا يأكلون في أطباق ملونة إنما طعامهم (سد الحنك).ربهم ليس فوق السموات والأرض. ربهم الارتزاق ولحمهم مشوى بطعم المصالح والخيانة،كليمت الفنان الأهم في النمسا وعلى الرغم من ذلك عاني الكثير،حروب،حقد،حسد لكن ظل كليمت كما هو.
تقدم كليمت بطلب أن يعمل أستاذا مدرسا للفن في كلية الفنون بفيينا،فرفض طلبه،الجامعة لا تقبل أسياد،العبيد في كل قسم والجواسيس في كل شبر وعلي كليمت أن يناضل مع رفاقه لتغييرهذا الوضع المحزن جدًا،البائس جدًا،المؤسف في نهاية عهد الامبراطورية النمساوية.
و بدأ الوضع المحزن ينعكس على المشترين لأعماله،فأغلبهم من الأغنياء وبطبيعة كليمت كان يعشق المغامرة والاكتشاف،كذلك كان يحب أن يعيش بين العدل والتجديد لكنه مشاكس لذلك رسم في إحدى اللوحات أسطورة (جوردان ملكة اليهود) عشتار التي قيل طبقًا للأسطورة اليهودية، أنها رمز لإنقاذ شعبها لكنه رسمها عارية وسط بقع لونية صفراء هنا قامت الحرب حوله ولم تنته،خاصة من الرجال لأنه كان يرسم المرأة وهي ملكة اللوحة رمز الجمال،أما الرجال فهم عنصر ثان يعيش على سعادة المرأة، ما تلهمة وما تمنحة من طاقات ،لم يرض الرجال بوضعهم في لوحاته على الرغم من أن كليمت كان يشعر بسعادة الرجل القائمة على سعادة المرأة حسب نظرية فرويد (بأن يجب سؤالها عن سر الانطلاق الروحي عند ذروتها أثناء رسم لوحة الحياة ) يقول هو كليمت ” كم احب رودان الفنان الفرنسي،هو الفنان الوحيد الذي يعلم حجم سعادة المرأة حين يبدأ بالنحت ” بل أكثر من ذلك أن كليمت كما ذكرت سابقًا أعاد رسم تمثال رودان القبلة في مراحل عديدة وفي عام 1905 أقام معرضًا كبيرًا في مقر جمعية “المنسحبون” بفيينا ودعا إليه رودان من باريس إلى فيينا في القطار،المعرض أصاب أصدقائه بصدمة، لم يعجب كثيرا من الناس لأنه أقام المعرض تكريما لبتهوفن،الموسيقى كانت أول مرة يتم ربط التشكيل والموسيقى في الفن الحديث.هنا نتحدث عن الإطار الحسي في تلك المرحلة من أعماله هذا موضوع بحثي مهم يستحق دراسة كاملة الذي اعتمد على المقامات الشرقية ،الزخارف مع دمج ذلك في عناصر اللوحة شبهة كلاسيكية،إطار تجديد فلسفي في خطاب بصري جديد لم يسبق معاصريه أحد أن تعرض من قبل لذلك وهذا تأكيد على ثقافة كليمت الواسعة وعلمه واطلاعه على ما حوله،المعرض أبهر رودان أعجب كثيرًا بهذه الدعوة، وعلى ما يبدو أن كليمت كانت تكفيه شهادة رودان فهي عنده أهم شهادة في الدنيا، ثم شارك بعد ذلك في بينالي فينيسيا، ثم صالون روما ليحصل على جائزة صالون روما الأولى سنة ،1911 ويأتي مرة أخرى لباريس هذه المره تبهره رسوم “تولوز لوتريك” “كتز فان” “دوجن” “ماتيس”معرض الوحشيين بعد أن انبهر سابقا بالتأثريين،زارالمعرض وعاد إلى فيينا حاملاً معه في ذاكرته كنوز الاكتشافات وخبرة مشاهدة فناني باريس للمرة الثانية،فيعود لرسم المرأة وهي في أقصى درجات العشق والهيام المخلوط بسعادة غامرة،يعود ليرسم المرأة وهي محاطة بالذهب والفضة والزخارف المشرقية ويصمم في هذه الفترة العديد من الملابس التي تبيعها زوجته إلى نساء الطبقة الغنية، فزوجته كانت عارضة للأزياء.
في عام 1911،بدأ كليمت يشعر بأن هناك فنانين شباب يقودون عجلة التمرد منه،وأن معارضيه في جمعية “المنسحبون” لم تكن بنفس درجة النشاط كما في الماضي،وبدأ أعضاء الجمعية الذين بث فيهم كليمت بنفسه روح التمرد يتمردون عليه،سنة الحياه ،نفس الكأس الذي شرب منه أساتذ ته في الكلية في بداية حياية هذا المتمرد. لكن هذا الفنان مثقف بدأ يشعر بضرورة الذكاء وفن التعامل،هو سر الحياة،البقاء،استشهد بحديث كليمت مع الناقدة النمساوية( زيكدنل ) يوضح ذلك حين يقول بنفسه:” الآن أصبحت أشعر كأني فنان من قرن مضى الشباب لا يفهموني أصبحت أشك في تجربتي،لكني على ثقة من فني،وأنا أفهم عادة الشباب،أنهم متمردون مثلي حين كنت في مطلع العمر،يعود ليؤكد لكني سعيد لأن كان بين الشباب شابان هما كوكوشكا العزيز وشيلي الثائر. أما الآن الشباب بلا أخلاق يهدمون من أجل الهدم فقط ” 1914 .
تتوفى أم كليمت و التي كان يحبها إلى حد الجنون على عكس شيلي الذي كان دائم الصراع مع أمه، صدمة الحرب وصدمة الأم وضعت حدًا لألوان كليمت المبهجة وتحولت الى ألوان هادئة قاتمة وأحيانًا حزينة تغيرت خرائط لوحاته وأصبح يرسم الطبيعة أكثر من النساء،يضيف إلى الطبيعة كل خبرة وكأنها منمنمات شرقية وجملاً حسية ورائحة البحث أصبحت مختلفة،يلتقي كوكوشكا وشيلي كثيرًا هم يعتبرونه رمز الفن الجديد، وهو يعتبرهم رواد لإكمال مدرسة الحداثة في النمسا،ولكن صديقه وتلميذه الذي أخذ كل واحد منهما شئ من الأخر( شيلي) الرائع يسجن حكم 6 شهور مع النفاذ لقد بلغ فيه أهل القريه البوليس لأنه يرسم بنات عارية دون سن القانون ومتهم بمحاربة العادات يكون كليمت جبهة الدفاع عنه، لقد كان كليمت على الصعيد الشخصي والإنساني شخصية لها كاريزما خاصة وقوة وتأثير فيما حوله،وله من القدرة على استيعاب وفهم الآخر،فى عام 1918 تغرب شمس الامبراطورية النمساوية التي تنهار وتنتهى ويخرج شيلى من السجن ويموت بوباء،ثم يرحل كليمت عن الحياة نتيجة أزمة دماغية جلطة في المخ ويسدل الستار عن قصة واحد من أهم رواد الحداثة في العالم وقائد ثائر لتحفيز خطى المثقفين نحو الأفضل،يسدل الستار عن قصة قائد ثورة التجديد في النمسا،وفاتح باب جبهة الفنون في الإمبراطورية على أوروبا، نعم،يبقى كليمت هو الذي فتح الطريق للفن النمساوي حتى يكون موجودًا في حيز العالمية سواء في أوروبا أو بالعلاقة حتى مع الشرق،والفنون الإسلامية ومدارس الفن الحديث.