عبد الرازق عكاشة : كليمت بين قُبلة رودان وتعاليم الأب
وقفت طفلة على حافة العاشرة من عمرها، تختفي ملامحها في محراب زمانها القادم،لم يظهر من أنوثتها حتى هذا العمر غير الخجل؛ وقفت تنظر للوحة كليمت (القبلة) المعلقة على 90 بالمائة من أتوبسيات النقل العام بباريس،هكذا تكون الدعاية للمعارض وتعميم الوعي البصري ونشر ثقافة السلام والمحبه، أنبهر سائق أوتوبيس رقم 72 الواقفة أمامه البنت.
هذه الحافلة التي تربط بين ميدان شتالية في وسط باريس العاصمة ومتحف الفن الحديث بالقرب من برج إيفل على نهر السين،طفلة يختبئ جسدها النحيل في قطعه قماش صفراء،فستان بسيط، صندل جلد خفيف و ضفائر تطير تغازل الهواء الحر إستأذن السائق الركاب أن يقف أكثر في المحطة لأن هناك بنت مع أمها أمام الأتوبيس مباشرة؛ نزل لها السائق فوجدها تشرح لأمها لوحة “القبلة” لرودان ؛ آسف للخطأ عن عمد إنها لوحة “القبلة” لكليمت، البنت مبهورة باللون، مسحورة بالجمال؛ ضحك السائق وانتظر حتى انتهت البنت من الشرح،قدمت أمها الاعتذار لجميع الركاب،عبرت الإشارة فكان حلمها يسبقها يغازل الخطوط البيضاء الفاصلة بين الأرصفة ؛ يجري حلمها أمامها محلقًا مع روح أمها التي ربتها في حضن الحب؛صفق الركاب؛لا أعرف للأم التي ربت بنتها في كنف الإبداع أم للبنت درويشية اللون،صوفية المشاعر و ربما صفق الجميع دون إدراك للمجتمع أم الحضانة أم المدرسة أو للوعي لدى السائق أو الركاب أم آليات الحياه؛لكن رجلا وحيدا أبيض اللون،عريض شاربه أطول من ببيونة العنق، تدلي كرشه أمامه معترضًا على حزام الوسط ؛كان ينفخ دجرًا لأن الطقس حار عليه لم يتابع كل ما حدث سأل بلكنه هل انتهت الحادثة؟ نظرت في وجهه وتسألت كم أنت (عبد)؟ فالعبيد لا يعرفون الحرية؛والحرية هي الإبداع رغم إحمرار وجهك وشعرك الأصفر فليس للعبيد لون أسود ولا بني ولا أبيض ولا أحمر .
العبيد هم الكارهون للفن،للحرية ،هم الجواسيس،كتاب التقارير الذين لا يعرفون ثمن الحياة،هكذا كان ينظر كليمت لمعظم مدرسي الأكاديمية الحاقدين علية في كلية فنون فيينا،عبيد الأكاديمية الذين ألتفت حول رقبتك الخطوط الكلاسيكية وفنون الطبقة البرجوازية من لصوص اللحظات الحية كما يطلق عليهم الآن (النفو ريش) أي الأغنياء الجدد فاختنقت لوحاتهم؛عبيد لأنهم كانو يكتبون فيه التقارير لفضح الحرية الإبداعية،عبيد لأنهم سجنوا صديقة شيلي 6 شهور في قضية حرية الرسم العاري.
كليمت بين ضفتين الأب والأستاذ
سُئل ذات يوم،من معلمك ياكلميت؟ كل هذا الزخم،كل هذا الإبداع،عشق اللون،إتقان الزخرفة،طى الحديد،الترميم، السراميك (الخزف)،درجة حرارة الفرن ودرجة حرارة الجسد،إنه الأب الجزء الأول من السيرة الذاتية؛أما الجزء الثاني الذي أبدأ به تكملة الحلقة الماضية هو رودان تمثال (القبلة ) الذي أبهر كليمت بعد زيارة باريس،إنه تمثال العشق بين نحات القرن و حبيبة عمره النحاتة الأهم كمي كلود دل التي أضع لكم أسفل المقال لينك فيلمها الشهير التي لعبت الممثلة الفرنسية من أصل جزائري “إيزابيل أدجاني” دور البطولة .
هذا التمثال غير حياة كليمت بعد 50 عامًا من عمره في آخر 8 أعوام من الحياه معتمدًا على نفس التشريح وقوة البناء حتى لمسات البرونزالحية، طعم ومذاق اللمسة في حدقة العين؛ وضربات الأزميل في حجر النسخه الأصلية،حول كل ذلك كليمت إلى ألوان؛ إلى طاقة داخلية تتلون فيها ضربات النحات إلى طاقة حب أثناء العمل بالتمثال،سيكولوجية الحالة، فلسفة الروح،الكتلة كعمل وغياب الفراغ لصالح الفضاء الخارجي .
استوعب كل ذلك كليمت محولا الحالة كاملة بألوان المصور الباحث الافنجارد (الطلائعي)؛ نعم لم أخطأ عن عمد حين قلت لوحة “القبلة” لرودان انظر عزيزي المتلقي ببراءة الطفلة للربط وأنت تكتشف العلاقة التي ذكرتها أمام أتوبيس 72، إنها روابط إنسانية بين عشاق الفن وجمال الحياة،رودان الميلاد 12 نوفمبر 1840 باريس صاحب تمثال “القُبلة” 1882،الوفاة 17 نوفمبر 1917 (77 سنة) وكوربيه والابن التلميذ النجيب المتمرد “سيزان” وبين مصور القرن العشرين “جوستاف كلميت” من مواليد 1862، توفي 1918 لوحة “القُبلة” بين عامي 1907 -1908، وما أحدثة من تجديد في مناحي الإبداع من حوله، كليمت ووردان علاقة حسية لا يدركها إلا عاشق .
الجمعه القادمه سيرة الأب الصانع المبدع والابن الفنان