عبد الرازق عكاشة ..السير أوسكار كوكوشا في مصر
من كتاب ثورة في العقل التشكيلي العالمي الصادر من هيئة الكتاب مصر
الجزء الأول
القطب الثالث في مدرسة فيينا التشكيلية، السير/ الفقير/ المناضل الشاعر المسرحى صديق البسطاء أوسكار كوكوشكا، فنان ذو هامة كبرى في مدرسة فيينا الحديثة . هوالقطب الثالث والركن الكبير حامل رسالة التجديد بعد إيجون شيلي الذى توفي صغيرًا وكان القطب الثاني الذى دافع عن حرية الفنان ودعم أركان الحرية حتى بالسجن,إذ قضى شيلى 24 يومًا مسجونًا في قضية الرسم العاري أولاً.وثانيًا رسمه لفتيات عاريات دون سن الثامنة عشرة وهذا محرم في عصر الإمبراطوريةالنمساوية.
أما القطب الأول والركن الكبير فهو المعلم جوستاف كليمت الذي نقل فن الإمبراطورية إلى العالمية , من خلال إنشاء قاعة أو قصر للمعارض تحت إشراف جمعية المنسحبون من فنون التعبيرية النمساوية وشارك في صالون باريس ومعارض روما وبينالي فينيسيا .. لكنه توفي صغيرًا 56 عامًا في نفس العام الذي توفي به أيجون شيلي سنة 1918 هو العام نفسه الذي انهارت فيه إمبراطورية النمسا الكبرى و قد ترك الاثنان الراية للقطب الثالث فنان اليوم كوكوشكا الذي عاش 96عاما ،السير أوسكار كوكوشا قرابة قرن كامل عاشها هذا المبدع و شهد خلالها أحداثًا غريبة لم يشهدها فنان آخر في حياته ولد أوسكار كوكوشا في سنة 1886 في أول مارس (برج الحوت)ولد في مدينة صغيرة (بوش لان) على شاطئ نهر الدانوب بالقرب من فيينا وتوفى عام 1980 ،لأب فقير وله أربعة اخوة.
الأب يعمل في محلات الذهب كصانع بسيط ولكنه كان فخورًا بابنه أوسكار الذي حصل على الثانوية العامة وعلى الدرجات العليا فحلم بدراسة الكيمياء , إلا أن كلية العلوم تحتاج إلى مصاريف باهظة وهو رجل فقير فذهب بابنه إلى كلية الفنون التطبيقية بعد أن حصل على منحة بسيطة نتيجة تفوقه في الثانوية منحته فرصة دخول قسم الديكور عام 1905،وظل الفقر يدفع بانهيار حلمه مرة أخرى .فلقد نصب خياله إلى حلم التدريس بالكلية لمساعدةأهله.إلا أنه في سنة 1909، اضطر إلى ترك الكلية حزينًا, و تعد هذه الخطوة أول هزة في حياته. لكنه قبل هذا العام و في عام 1908 التقى كليمت الكبير وكان أشهر فنان في النمسا آنذاك يثير الصراعات خاصة ضد الأكاديمية و التعبيرية النمساوية.
و كان شيلي وكوكوشكا و هما شابان يعدان كليمت هو أبو الفن الحديث في الإمبراطورية.كذلك كان كليمت معجبًا بكوكوشكا فطلب منه المشاركة في المعرض الأول لجمعية المنسحبون 1908,و ترك كوكوشكا الشاب ابن الثانية و العشرين عامًا أثرًا كبيرًا في زوار المعرض.و تعرف إلى عدد من المهندسين في خطوط السكك الحديدية .و كانت مكانة مهندسى السكك الحديدية كبيرة في ذاك الوقت لأنهم يعملون في أكبر مؤسسة للخطوط الحديديةالنمساوية .و كان هؤلاء المهندسون من كبار مقتنيي الأعمال ,فاقتنى أحدهم لوحة كوكوشكا. (آرنست رولد صديقي الممثل) في هذه اللوحة أفصح كوكوشكاعن وجه آخر هو وجه المثقف الكاتب المميز.فحين سأل الجمهور الفنان عن سر رسمه أربعة أصابع في يد أرنست-في اللوحة أجاب كوكوشكا في حضور الجميع:(أنا أسعى الآن لرسم الفكر والأحاسيس و الشعورالإنساني. ولا يهمنى أبدًا أن أرسم خمسة أصابع أو رجلين أو يدين هذا غير مهم) أعجب الاستاذ كليمت بكلمات كوكوشكا الرقيقه والمميزة الحب وقود ثورة الفنان وفي عام 1910 تعرف أوسكار على أرملة الموسيقار النمساوي الكبير كورستوف ماير وهى الجميله( ألما ماير) . أحبها وجد فيها حنانًا يبحث عنه وصدرًا رحيمًا من عذاب القدر وفقر الأسرة أحس فيها الأمان والإنسانيه عشق عقلها المثقف حتى حياتها السابقة مع موسيقار كبير .
لكن القصة انتهت بعد ثلاث سنوات وفى بدايه عامها الرابع 1914،تاركة في نفسيته علامات كبرى لكنه اصبح أكثر نضجًا، وفكر أن ينتصر على الذكريات وحلم العشيقة بالانصراف إلى الاهتمام بقضايا الإنسان فكان يشعر أنه ليس عام وداع حبه فقط, إنما عام تغيرات عالمية أخرى طرأت على المجتمع النمساوى والأوربى والعالمى عام الحرب العالمية الأولى جاءت رسومات كوكوشكا في هذه الحقبة اشبه بالتبشيرية لواقع جديد يفرض نفسه ,هذا مادفع الأستاذ كليمت الذى شعر بالملل من الرسوم الجميلة والذهبى والديكورات التي يرسمها إلى تغير وجهة نظره وبالته ألوانه بسبب تلميذه أولا:كوكوشكا وصديقه شيلي ثانيًا الذى يقول ( كوكوشكا على حق أن الجو مخيف و متوتر) لايمكن وقت الحرب وأن يضل كليمت يرسم ماكان يرسمه وهنا يلغي كليمت مشروعه لعدة لوحات كان يخطط لتكون ذات جماليات خاصة.و يدخل محترف كوكوشكا وشيلي و يأخذ منهما.و يرسم الثلاثة على مشروع واحد,هو الإنسان.
و الأهم من كل هذا هو تواضع كليمت و إيمانه بأن كوكوشكا التلميذ ثم الصديق ليس فنانًا بل مفكرًا؛ أيضًا ألما ماير في لوحة كبرى فيظل هذا التوتر العالمي و إحساس كوكوشكا توترت علاقته بألما التعرف عليها حين كتب أولى مسرحياته–(أبوالهول خيال المآته) فهو أيضا كاتب مسرحى مهم ومميز وكتب المسرحيه الأولى بعد زيارة مصر مع ملكة النمسا أجونى . والشاعر ريلكه العبقرى فى حفل افتتاح قناة السويس_ لكن الوداع الجميل فى إنهاء علاقته بألما جعله يتذكرها باستمرار وخلق طقسًا استطاع فيه الفنان أن يجسدها في لوحة كبرى بحجم مترين و نصف فى عرض متر و ثمانين سنيمترًا) وهي لوحة- الخطيبة في العاصفة- إحدى أهم لوحات الفنان الذي استمد عافيتها من فان جوخ خطوط عنيفة و قوية و ضربات حادة لقد جمع في اللوحة بين التمرد والحلم واضعًا في الخلفية اللون البارد إلى جوار لون ساخن و ثوري, و يضع بعض اللمسات الحمراء مع قليل من الأصفر مجاورًا للأبيض البكر الطازج.و كلها ألوان مباشرة غير مخلوطةعلى –بالتة الألوان-,لأنه أراد تقديم لوحة تحمل أحاسيس وجدانيةعالية وأحزانا شديدة على فراق الحبيبة ألما ماير.و تقترب اللوحة كثيرًا من حقل القمح-عند فان جوخ وفي طريقة التلوين من لوحة الكنيسة الشهيرة لنفس الفنان ويذكرأنه من فرط إعجاب صديقه شيلي باللوحة أعادها بألوان أخرى,لكن بنفس الهموم, ممايكشف عن حجم طبيعة العلاقة بين الأصدقاء. الخوف من المستقبل القادم.-إن لوحة ألما هي تجسيد لوضع النمسا في شكل الحبيبة.
وهنا يؤسس كوكوشكا ويضع لونًا جديدًا و مدرسة تعبيرية,غير التي يرسم بها باقي فناني ومدرسي الأكاديمية الذين يرسمون تعبيرية مباشرة. أثناء الحرب العالمية الأولى فى 1914 تصدق نبوءة الفنان وتتجلى مشاعرهم جميع الفنانين الثلاثة وتحديدًا كوكوشكا المفكرالفنان المنحاز لقضايا الإنسان فيذهب إلى الحرب متطوعًا و يصاب في الحرب خارج حدود النمسا على حدود مدينة دريزد ويعالج هناك ويعود إلى النمسا حزينًا و يقاوم الجرح و يعود للرسم و يعود للرسم معلنا التحدي للنازية الجديدة.
تحدى محب عاشق خاصة وأن طيف الحبيبة يحلق فى الأفق فمازال يتذكرها؛ رائحة جسدها، طيفها ،طيبة قلبها، إنها ألما الساحرة التى يذوب فيها حبًا ويطلب من مصممة أزياء في عام 1917 تصميم عروس كبرى بالحجم الطبيعي في شكل ألما و يرسم هذه العروس في لوحات عدة عام 1919 .لكنه قبل ذلك بعام في 1918، يفقد أغلى صديقين: شيلي وكليمت و تنهار الإمبراطورية وتقف الحرب على وضع اجتماعى بائس ويسيطرالحزن و يشعر بالألم , وفي عام 1919 يلتقي الشاعرالعبقرى ( ريكله ) عُرف الشاعر الألماني، راينر ماريا ريلكه، المولود بمدينة براغ التشيكية في العام1875، الذي يعوضه غياب صديقيه و يعود من جديد للانتصار على الألم فيرسم ويكتب مسرحيته الثانية و هي بعنوان ( أورفيه) و يرسم لوحات ذات زخم لوني و ضربات حادة ومساحات خضراء و بدأ الأزرق يندثر تحت الأخضر, و صار يخلط الألوان على البالتة بدلا من وضعها مباشرة مثلما كان يفعل في السابق .
فقد أراد البحث من جديد عن التجديد في فكرة اللون ووضعه في أماكن مغايرة لم يعتد عليها المتلقي.. حين كان يضع الأزرق الغامق أو البتروليم كان الظل على وجوه البشر,ويضع الأبيض في شجاعة جديدة مكان النور.و على الجسد يحل الأحمر مكان الظل والأصفر حيز الضوء .و يدخل البرتقالي كثيرًا فيلحمة اللوحة متأثرًا بجوجان فعندما زار باريس و شاهد جوجان و فان جوخ و تولوز وأتباع مدرسة الوحشيون.لذلك تأثر بالجميع مع دمج ذلك في صحن ثقافته الواسع.و في العام 1919 يقدم لوحة من أهم إنتاج هذه الحقبة و هي لوحة لامرأة تجلس على الأريكة وتضع يدها على الرأس في نفس الوقت تكشف صدرها العاري للمارة و عابري السبيل في جو مفعم بالحزن بالرغم من وجود الأخضر و الأزرق بكثرة.
إلا أن كشف الصدر قد يفصح عن جو مفعم بالألم و يوضح ذلك فى اسكتشات صغيرة لمشروع اللوحة.ففي إحدى هذه الرسوم يرسم أبو الهول كرمز للصمت, وهو يقترب من قدمي المرأة برغبة مجسدا رغبة أبو الهول الصامت وطمعه في النمسا المجسدة بحالة العري وفي الرسمرقم 2رسم حيوانًا صغيرًا(فأرًا) يرضع الصدر العاري وكأنه يحاول أن يوضح أن النمسا بعد الانهيار ليس لها القدرة على إطعام أحد حتى هذا الفأرالصغير. ويكمل كوكوشكا مشواره في تلك الرسوم فيقدم مجموعة رسوم للأطفال و الدمى و غيرهم،إلا أن أهم لوحات تلك الفترة 1920 .هي لوحة الطفلة الجالسة على شاطئ البحر تلعب وفي يدها حمامه تحاول الهرب وأسفلها كلب تائه وسط ضربات لونية عنيفة إلى حد بعيد لكنه يجمع حالات عديدة من طرق التلوين على سطح واحد فنشاهد الكلب وكأنه حيوان أليف فحين نجد الصخرة التي تجلس عليها البنت وكأنها حيوان شرس يفتح فمه وعيناه في انتظار الفريسة .
فهو يقدم حالتين متناقضتين من الألفه والدراما فيعمل واحد ” القلق و الرعب” ” الهدوء و الحلم ” من خلال ألوان تحدد الشكلا لمرسوم.> وتحمل احساسًا بالخوف والرعب من المستقبل ،لكنه الآن وحده بعد رحيل شيلي والمعلم كليمت. فهو يحمل إحساسه بالقلق وحده كفنان ويعود إلى رسوم شيلي ويعيد صياغة تلك الرسوم بطريقة قريبةجدًا من الأخر ،وإن كان صديقه الشاعر ” ماريا ريلكه” يشاركه الهم بالشعر.. لكنه لم يعطه نفس الاحساس الذي كان يعيشه مع شيلي . حرب جديدة ضد كوكوشكا، النازيون يعلنون عليه الحرب وتصدق من جديد احاسيسه ورعبه وقلقله . فيقيم في المانيا في جاليري ميونيخ معرضًا كبيرًا يضم رسومه من أصدقائه تكريما لهم ، لكنه في الحقيقة أراد تقديم وثيقة عن نبوءة الفنانين بالمستقبل المخيف ويهرب من النمسا إلى براغ ،ويزداد إصرارًا على محاربة النازية ، لكن ليس بالسلاح كما فعل في الحرب العالمية الأولى.
فقد بات الآن يحارب النازية بالفن والفكر والكتابة ويرسم مجموعة رسوم فيكتابضد النازية ، لذلك يصدر هتلر قرارًا بمصادرة الكتاب ورسوم كوكوشكا في ألمانيا والنمسا وهي 417 لوحة ورسما مع الكتاب . ويختفي كوكوشكا فجأة في براغ ، لكنه يعود و يرسم إعلانًا ضخمًا ضد الحرب الأهلية في أسبانيا وضد فرانكو ويكتب على الاعلان” ساعدوا أطفال الباسك ” ضد الحرب الاهلية . ويشتعل الموقف ضده فيرسم لوحتين أكثر خطورة ضد النازية :الأولى للشاعر الأسباني فيدريكوغارسيا لوركا الذى ولد في الخامس من حزيران 1898 لوالدين إسبانيين في منطقة فيونيت فاغودس في غرناطة والأخرى للزعيمة إحدى أبرز قيادات حركة الشيوعيين الاسبانيين وهي ” الباسيوناريا.(الست) ” وهنا تصدر القوات النازية قرارا بضرورة البحث عنه .