عبدالرازق عكاشة:فى وجوه الفيوم، حالات إنسانية تفوق ألف “موناليزا”
بورتريهات الفيوم والخط/ اللون الأسود ،من باريس" عبد الرازق عكاشة"
فقط في متحف اللوفر، تصعد ببصرك بعيدًا نحو أفق مفتوح، لا يمكن للعين المجرّدة وحدها أن تدرك أبعاده، ومن هنا من بيت العشاق ونهر الإبداع، أقول لكم صباح الخير من اللوفر، حيث خطواتك محسوبة بدقة، تدك مسافات الزمن بقلب نابض، تعطره رؤيتك للألوان.
نواصل حديثنا اليوم عن اللون الأسود، في خارطتنا اللونية لزيارة متحف اللوفر الباريسي الشهير، بحثًا عن بهاء هذا اللون وقدسيّته في التشخيص، وسعيًا وراء رحلة في قطار الزمن، والعودة إلى ماضينا الإنساني، وكيف عرّفته الحضارات القديمة.
وللمتابع الكريم، أوجّه سؤالي: “هل جربت أن تنظر في عيني شخص مرسوم، وتسافر معها، تنزل النهر دون أن تحدد الشاطئ، دون أن ترتدي غواصة الغرق، أن تدخل الحرب دون درع واقٍ؟”. قد يبدو الأمر صعبًا جدًا، إلا أنّه هنا في اللوفر من الممكنات الكثيرة، ولعلَّ أفضل مثال على ذلك، قاعة وجوه الفيوم في متحف اللوفر، فهنا أنت على سفر لا يصدق، تركب قطار السحر الهادئ، الذي لا يعطي ضوءً ولا يصرخ بصوت، لتكون وحدك على موعد مع الغرق في بحور الصدق، داخل عيون تلمع في عتمة الذكريات.
وجوه الفيوم علامة إنسانية في التاريخ، على الرغم من أنّنا نهمله عمدًا، ومن هنا تأتي رسالتي التالية، بل هي دعوة، لكل الفنانين، والكتاب والشعراء، لكل أبناء الإنسانية، الذي يتتبّعون الصدق، وأنوار البشرية، لنتأمل سويّة تلك العيون التي تحدّق بنا، مثبّتة باتّجاهها، ونسافر معها، في رحلة من الدهشة، نحو القرن الميلادي الأول.
إنَّهم أصحاب أجمل حضور في متحف اللوفر، أجمل النظرات في حلم الأبدية وسفر الزمن، بل هم يجسّدون أجمل رسم لوجوه بشرية، ليس لأنَّ من رسموها قد اختاروا البلاط الفرعوني نموذجًا، بل لأنّها قاعة توثّق تاريخ الشعب، وأفراده البسطاء. في هذه القاعة، تجد تحولاً تاريخيًا كبيرًا، لم نتحدث اجتماعيًا وفنيًا في تاريخ الحضارة المصرية عنه، لاسيّما أنَّ غالبية الرسوم في المعابد، تجسد أسر الملوك الفراعنة، أما وجوه الفيوم، فقد انتمت إلى الشعب، لتعبر عن أبناء مصر، لا سكّان قصورها.
هذه اللوحات، تتحدث عن البسطاء، عن كل فرد فينا، ينتمي بروحه إلى تلك الحضارة، لا إلى الوزراء والحكام، لذا أكتب اليوم عن قاعة الفيوم، وأحاول ألا أكون منحازًا بالطبع لها لأنَّني مصري، لكنه انحياز للإنسانية، فهي وجوه إنسانية مهمة، رسمت في مراسم وورش عمل محلية في الفيوم، حتى تصدرت واجهات المتاحف العالمية، كيف لا وهي وجوه الشعب، التي صارت دليلاً على عبقرية المزيج المصري، حضاراته، ومتغيّرات الزمن التي تأثر بها.
وجوه الفيوم، وجوه متحضرة جدًا، سخية الإبداع، كريمة الألوان.وجوهٌ الأبيضُ فيها يلمع بشفافية، والأسود يغني بحزن. وجوهٌ انغمست في وجدان ومشاعر حسية رقيقة جدًا. ومن هنا نرى أنَّ وجوه الفيوم مظلومة، لأنَّنا ننحاز للنموذج الغربي دائمًا، المحتل لعقولنا لاسيّما في تدريس فن البورتريه، في حين أنَّ الغرب لا ينصرنا، وإنْ احتفل بآثارنا، لأنَّه احتفال بالماضي، مع التبرؤ والتنصل من الحاضر.لتتأكَّد عزيزي/عزيزتي، أنَّ لا أحد ينصر ضعيفًا فرَّطَ فِي حَقِهِ.
وجوه الفيوم معجزة فن:
للأسف الشديد، يتم تصنيف وجوه الفيوم ضمن قاعات الآثار الشرقية القديمة في متحف اللوفر، وهذا ظلم فني كبير لوجوه تعد حالة إبداعية نادرة، يتم تقديمها كأثر أكثر من كونها إبداع تشكيلي، على الرغم من أنَّ إبداعها قد يكون أكثر أهمية من أعمال عدة لمبدعي عصر النهضة.
في وجوه الفيوم، حالات إنسانية تفوق ألف “موناليزا”، إلا أنَّ غياب النقد التشكيلي عنها، والتركيز على علماء الآثار فقط، حوَّلَها إلى أثر، وظلم أسماء هؤلاء الفنانين، الذين أنتجوا هذا الإبداع، لتظل مجهولة، وكذلك سيرهم الذاتية.
الوجوه، التي تعدُّ المدرسة الكبرى في الفن، أطلق عليها اسم جماعي، دون فرز وفحص جماليات كل وجه على حدة، ودون تحديد الأهمية التشكيلية البالغة في العديد منها، على الرغم من أنَّها رسمت بإبداع حقيقي على الخشب، ثم كانت تلصق على تابوت الميت في مصر، خلال حقبة الحكم الروماني.
كانت تلك الرسوم الإبداعية ترسم في الفيوم، وترسل إلى كل أنحاء مصر، بينما يعتقد المؤرّخون أنّها تعود إلى النصف الأول من القرن الأول الميلادي. واستمر إنتاجها حتى القرن الثالث الميلادي، حتى ظهرت بعدها الأيقونات المسيحية القبطية، لتصبح أحد الفنون المصرية الأصيلة.
في القاعة، القريبة من المدخل (أ) الفاصل بين الآثار الشرقية، وطرق الصعود إلى عصر النهضة، والتي اختير لها مكان في الطابق السفلي من متحف اللوفر، تناديك تلك العيون البديعة لشباب ونساء وأطفال، من خلال وجوه تطرح عليك أسئلة تكاد تكون وجودية، عن الجمال واستنباطه من أعمق تعابير الإنسان، وأكثرها صدقًا، كأن تقول لك:
• هل عرفت الجمال من قبل؟
• هل رأيت الجمال في عمق الحزن؟
• هل اكتشفت الجمال من داخل الوجع؟
• هل صادفك يوم ما شاب عميق، أو امرأة تستطيع أن تقرأ ما بداخلها عبر المرور على نظرات عينيها، والسفر في طريق طويل ومسافة كبيرة، تقطعها بوجدانك من أمام الوجه إلى عمقه؟ هو سفر يبدأ من لحظة المشاهدة الأولى، على متن قطار حقيقي، كآلة الزمن، يعبر بك إلى القرن الأول الميلادي، حيث هؤلاء المبدعين، الذين تمكّنوا من رصد تلك المشاعر واستخراج الجمال فيها بسحر وخيال عارم.
الخط واللون الأسود سيد البهاء:
في وجوه الفيوم، سيد البهاء هو اللون الأسود المحيط بالعين، الذي يعلن عن جمال الأبيض، الأسود الذي يأخذك ويسافر بك مع ما يحيط به من ألوان.
الخط الأسود هنا، يحيط الوجه، ليفصل الحالة بين الوجه والخلفية، ويضيف التأكّيد لشخصية صاحب الوجه، محدّدًا جمال وبطولة الفرد وعمقها، لتكون هذه الأعمال هي أجمل الفنون الكلاسيكية العالمية، وإذا كنا منصفين، فهي من أجمل الحالات التعبيرية على الإطلاق، لاسيّما أنّها مهّدَت وبشكل حقيقي لتعبيرين كبار، على الرغم من أنَّ الدراسات العالمية لم تنصفها بقدر حقها التشكيلي الحقيقي.
في وجوه الفيوم، نجد أقوى حالة تعبيرية عن الحزن والوفاة والرحيل المبكر. أقوى تعبير عن حالات إنسانية صادقة.
وهذا بحد ذاته يجعلنا نتذكر المقولة الشهيرة بإنَّ “سر الجوكندة في الابتسامة الداخلية”، لنقول لهم إنَّ “أقوى حالة دراما تتحاور معك تجدّها في وجوه الفيوم”.
إنَّها وجوه – لو تأمَّلتها فقط ـ تمر عليك الساعات وأنت ثابت بروحك في القاعة، حتى إن تحرك جسدك لتكملة الزيارة في المتحف.
تأثير وجوه الفيوم على مودلياني:
يقولون لك إنَّ “الرائع مودلياني تأثر بالفن الروماني”، ويخشون أن يقولوا إنَّ “في وجوه مودلياني سحر من وجوه الفيوم. طول الرقبة، والعين التي تجذبك للحوار، واللون”، بما يضعك أمام تساؤل: “أليس هناك علاقة”، ويدفعك إلى إعادة قراءة مودلياني الرائع، لكن وأنت فخور أنَّك ابنٌ لهؤلاء الفنانين العظام.
نعاني هنا من معضلة، تكاد تكون نفسية، فالجميع يعرف جيدًا كيف يتم رصد تأثّر فنان أوروبي ما، بفنان سابق على عهده، من القارة العجوز ذاتها، لكنهم يخشون أن يقولوا إنَّ فنانًا أوروبيًا تأثر بفنان من الشرق، لاسيّما من العالم العربي، أو المدرسة المصرية، بعمقها.
ويعيدنا ذلك، إلى رصد أجراه حامد عبدالله، لتأثر جوجان بالفن المصري الفرعوني، الأمر الذي لم يتم الاعتراف به، حتى وقت قريب، على اعتبار أنَّ الشرق هو من ينهل من الفنون الأوروبية، ومن العار أن يكون هو رافد أساسي في تاريخ الحركة الإبداعية الفنية، لاسيّما أنَّهم روّاد التجديد والحداثة.
أخيرًا، نعود بالتاريخ علميًا نحو أصل وجوه الفيوم، التي أوضح بشأنها الأستاذ المختص بالآثار أحمد عبدالعال، وهو مدير منطقة الآثار في الفيوم، أنَّه “تم اكتشاف مجموعة كبيرة من اللوحات في الفيوم، على يد تاجر الآثار النمساوي تيودور غراف، عام 1887، والذي جمع حوالي 300 لوحة، من منطقة الروبيات، شمال شرقي الفيوم”.
وأشار عبدالعال إلى أنَّ “هذه المجموعة موزعة حاليًا على متاحف ومجموعات خاصة”، مبيّنًا أنَّه “بلغ عدد البورتريهات، التي وصلت إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية من منطقة الفيوم حوالي 1000 بورتريه، لاسيّما أنَّ بورتريهات الفيوم ذات طابع خاص تعبر عن تاريخ المحافظة المصرية”.
ويذكر أنَّ اسم لوحات الفيوم يرجع إلى أنَّ أكثرها عُثر عليه في الفيوم، وقد ظهرت للمرة الأولى حين اكتشف العالم الأثري فلندرز بتري في تنقيبات هوارة، 146 مومياء ذات رسوم شخوص بورتريهات، إضافة إلى منطقة الشيخ عبادة، وغالبية هذه الصور موجودة حاليًا في المتحف المصري بالقاهرة، والمتحف البريطاني في لندن، ومتحف البيورليتان، ومتحف اللوفر في باريس.