جماليات (فن البورتريه) في مُنجز الفنانة المبدعة إبتهال العوضي
كتب/ محيي الدين ملك
قيل إنَّ الفن لا شيء، سوى أنَّه الكمال في تقليد الواقع، وأنَّ الفن خطوة من المعروف الظاهر نحو المجهول الخفي. وقيل، أيضًا، الفن صانع الأشياء الجميلة.. وغايته أنْ يكشف بنفسه شخصية الفنان، عبر شخصيّات عدّة، يقوم الفنان بترجمتها عبر رسم، أي بلغة حساسة من لغات الفن ويصوغ من ذاته، ومن إحساسه مادة من مادة الفن.
ربَّما، يمكن القول، أنَّه ليس بين اللوحات (البورتريه) لوحات أخلاقية ولوحات منافية للأخلاق. فجميع اللوحات إمَّا جميلة التأليف والتركيب والتكوين، وإمَّا رديئة التعبير والإحساس بالجميل. ولكن، ما المعنى المقصود بالجميل، ونحن، بعد قليل، سنتحدث عن البورتريهات؟ إنَّه الأثر الذي لا تراه إلا جمالاً.. الأثر الذاتي الذي يتركه الرسام في المرسوم، أو الأثر الموضوعي الذي يتركه المرسوم في نفس الرسام. تلك هي خلاصة القول.
في بعض الفترات كان الرسام يرى وجهه في صورة الآخر، وكانت تُسمَّى بالفن الواقعي، وفي بعضها، كان لا يرى وجهه في صورة الآخر، وهنا، لعب عنصر الخيال دوره في رجاء الفنان.
وهكذا، أصبحت الحياة الأخلاقية بعضٌ من مادة الفن. ولكن (أخلاقية) الفن تأتي من كمال التعبير رغم نقص أداة التعبير. والسؤال، هنا: هل تنتمي (بورتريهات) الرسامة (إبتهال) إلى الفن الواقعي، أم إلى الرسم الخيالي، أم كلاهما، معًا؟ وما قيمة تلك (البورتريهات) من حيث شكل القيمة ومضمون الجمال؟؟
ربَّما، لا تسعفنا الأفكار لتحديد إجابة شافية عند الحديث عن تاريخانية فن البورتريه، وأسلوبه، واختلاف الآراء فيه، ذلك لأنّ “للفن ظاهر مكشوف ورمز خبيء.. والفن ليس صورة الحياة، بل صورة المستعرض لموكب الحياة”.
في وسعنا أنْ نتأمل بورتريهات الفنانة (إبتهال)، للتعرّف، من خلالها، على ما يمكن التعرّف عليه من إمكانية الأداء والمهارة، والانهمام بالـ (ذات)، في سبيل الإمساك بأثرٍ من الأثر الجميل.
والبورتريه، هذه المفردة الساحرة، لا تعني إلا عملاً فنيًا يمثل هيئة شخص معيَّن، أو نصفه الأعلى، أو وجهه فقط. ودلالة على اتّساع العالم الذي يضمّه فن البورتريه، يمكن لهذا الشخص أنْ يكون ممثلاً مشهورًا، أو شخصًا عاديًا كانت لملامحه أثرٌ في نفس الرسام، فَرَسَمَهُ. أو يمكن أنْ يكون نموذجًا حيًّا بدواعي الفن، أو رغبة في الودّ أو الحبّ.
ومن هنا، لا بدَّ أنْ يتمتّع استديو الرسامة بشيء من الفنية، ويملؤه أو يحيط به أشياء من الجماليات، أو على الأقل، كأنْ تتذكّر الرسامة بريق النخيل في الليل، فتبدو الأضواء العجيبة تمر بين الظلال، فتخلق إحساسًا لا يلبث أنْ يتحول إلى ظل ونور يستقران في حنايا اللوحة، وزوايا تتطلّب هذه الكمية من النور أو هذا المقدار من الظل، لتخلق أمواجًا من الشعر المنسدل. أو كأنْ تتذكّر، أيضًا، أولئك الرسامين الذي سعوا للتعبير عن معاني القوة والجَلَدَ وبثّوها في الشخصيات الجامدة، فلا تلبث أنْ تتسرب الحياة إليها / وفيها. أو قل، تتذكر، صورة فتاة لا حدَّ لجمالها، وقد شرعت الرسامة في رسمها، ثم أخذت تتأمّل بعمق، لتقول بعد قليل: أجل، إنَّها جميلة، حقًا.
لقد صورت شخوصها في تفاصيل كثيفة وكثيرة، وبالغة الأهمية: تجاعيد. ندوب. التحوُّل في الملامح بفعل الزمن وعلاماته. ولم تتردد الفنانة في رسم كل هذا، بدقةٍ ومهارة، لا لشيء، بل لتجعل الصورة طافحة بالمعاني الدَّالة، أي، الفن والزمن والإنسان، وأملٌ بجمالٍ يتلألأ في كل شيء.
أو ربَّما تذكّرتْ قصة الرسام الذي أدهشه الجمال، وخطف روحه منه. عندما جلس ذات ليلة، يتأمّل لوحته الفارغة.. وقلبه يفيض فيضًا، وإذا بفتاة ذات حُسنٍ وبهاء تظهر أمامه. بدت للحظة الأولى مزيجًا من العتمة والبريق، وها هي الآن تقف أمامه. وها هو يستغرق.. حتى تخيِّل كأنَّ تاريخ الجمال قد مرّ أمامه بسرعة الضوء، ورأى أروع ما أبدعته اليد الحرة، والفكر الفارِهُ، والخيال الخاشع، والعاطفة المتوهجة..
وتتمة القصة هي أنَّ الرسام عندما استدار إلى لوحته، أخذ يُلحِّم العظام بخطوط، ويُطعِّمُها بأخرى ليِّنة، ويكسوها طبقةً فوق طبقة حتى انقشع الشكل واندفع نحوه. ارتدَّ إلى الوراء، وانحنى قليلاً ليُمْعِن النظر، ثم مالَ بوجهه نحو الأعلى، كأنّما يتنفّس للمرة الأولى.
– هل تعرفين ما هو الجمال!؟
– ها!؟..
– إنّه مجموعة من عدَّة أجزاءٍ.. تعمل معًا بطريقةٍ معينةٍ، بحيث لا تحتاج لشيء يُضاف إليها، أو تُنقص منها، أو تُستبدل بها. حسنًا، الجواب أعمى، وليس حاسمًا. سأعيد السؤال: ما هو الجمال!؟ الجمال هو أنت.
بعد عقودٍ من الزمان، وصف أحدهم موقف الرسام من الحياة في كلمةٍ واحدةٍ: إنَّه (تعانق) بين اثنين في واحد.
كل ذلك والفنانة (إبتهال) غائبة في تفاصيل شخصياتها. تتأمّل. تحاور. تحاكي، وتتلمّس الخفي في الجلي، فيزداد الحس التصويري عندها. تمتلأ المساحة البيضاء بالشكل. أمّا المضمون فهو الأثر الجميل الذي ينبع من نفسها.
ولمّا كانت الرسامة تتأمّل الصورة التي ترسمها بأقلام (الرصاص، أو الفحم، أو الألوان الزيتية) في دقّة ومهارة، أو تنظر إلى المجموعة المرسومة، ربَّما يُخيّل إليها أنَّها قامت بعمل جميل لن يزول في الوقت القريب.
هذه البورتريهات إبداع في الرسم بلا جدال، وهي تستحق أنْ تبقى. بعض الوجوه شَبَهُ أصحابها، وبعضها الآخر تحاكي عشتار في الجمال، ويبدو البعض الآخر محاكاة لـ “ذات” الرسامة قلبًا وقالبًا. ذلك، لأنّ “كل صورة ترسم بإحساس قوي هي صورة الفنان، وليست صورة النموذج. فالنموذج شيء عارض لا أكثر ولا أقل، أو هو المناسِبة. والرسام لا يكشف عن شخصية نموذج في الصورة التي يرسمها، وإنَّما عن شخصيته هو. ترى، هل أتحدث هنا عن الرسامة (إبتهال)؟ نعم. لأنَّها حقّقت في تَصَوّرها للشخصيات وتصويرها لها، المهارة في كل شيء، والجمال، من كل شيء.
حينما يُنظر إلى أعمال (إبتهال) من بعيد، تبدو كأنَّها تنتمي إلى أصحابها: الملهم (تشي جيفار)، والممثل الشهير (مورجان فريمان)، و(خواكين فينيكس)، الذي مثَّل دور البطولة في (الجوكر)، والفنانة (صبا مبارك)… إلخ غير أنَّ ما نراه، أحيانًا، الذوات. وبذلك، يقف المشاهد عند أعلى درجات التأمّل: روحًا حرّة تتأمّل الشخصيات المُصوَّرة، وأروع ما صنعتها الأنامل.
وإذْ يلتفت المشاهد إلى هذه الصور، يشعر كأنَّه يلتفت للحياة بالذات، لأنَّه، دون وعيٍ منه، قد وقف في مكان الرسامة، أو انعكست صورته من خلال الوجوه المرسومة، أو عين الخيال، فكان الجمال يتسلّل إلى داخله.
وبوسع الجمال أنْ يكون واضحًا وضوح شعشعة الضوء. وهو لذلك مصدر لبهجة العين، وإدارة الأسئلة في الذهن. “وهذه البهجة يجب ألا تعادل بالسرور المجرَّد: إنَّها أشبه بلحظة الدهشة وفيها البحث عن الذات، والرضى عنها، شكلاً ومضمونًا، أو رسمًا وجمالاً.