كتب/ رياض إبراهيم الدليمي
تتسم لوحات التشكيلية ( ندى البرازي ) بخلوها من الغبار والزوائد والفوائض اللونية والشكلية (Color and formal surpluses)، حين تستعرض لوحاتها وكأنَّك تمشي وسط حقل من الزهور والورود ورواب خضر مفعمة بالحياة والأمل، لوحات ( ندى ) تجلب لمشاهدها الراحة والطمأنينة وتجعل المتلقي يتجرد وينزع ثوب التوتر والإجهاد ويرتدي ثوبًا مزركشًا بوروده وجمال ألوانه فيمضي معها ويحلق في سموات ألوانها إلى أقصى مديات الانطلاق والانشراح ليستكن ويهدأ ويستغرق في تأملاته ويخلد إلى أحلامه بعيدًا عن أجواء التوتر والكآبة والتعب اليومي وضغوطات الحياة وصخبها.
لوحاتها بمثابة علاج نفسي وروحي لما تتركه في روح متلقيها من المسرات وتتغلغل إليه الغبطة والفرح من حيث لا يدري، فتجعله منكبًا على جماليات ألوان زهورها وورودها والآفاق الواسعة لمديات البحر وشواطئه الجميلة، فثمة طبيعة ومياه تمتزج مع السماء بلونها السماوي الذي يهيمن على كل فضاء اللوحة وعمقها البعدي (Dimensional space and depth of the painting)، وكأنَّ روح المتلقي اندمجت مع هذا الأفق الشاسع الذي لانهاية له .
الفنانة اللبنانية ( ندى البرازي ) تحترف تقنيات الرسم وأبعاده ونسب الألوان والكتل اللونية وملء فراغات السطح التصويري بمهارة وحرفية دون زوائد وترهل في مساحات الفراغ أو تعدد التشكيلات والمجسمات داخل لوحاتها .اللون بالنسبة إلى الفنانة ( ندى) هو فلسفة عميقة انصهرت في جمالياته وتقناته، لأنَّها ترى اللون هو أكثر العناصر في الطبيعة انتشارًا وله القدرة السحرية على جذب نظرة المتلقي، وإنْ كان الفنان مقتدرًا من التعامل معه بحرفية الاشتغال وكيفية صبه على سطوح لوحاته فيثير في نفس وذهن المشاهد الدهشة وسيقف عنده مليًا متأملا وغارقًا فيه ومأسورًا به .التشكيل لدى (ندى ) رسالة جمالية ونفسية وروحية وثقافية، فهو ليس فنًا مجردًا بلا روح ومعرفة، بل هو الحيز الأكثر تعبيرًا عن خلجات النفس وهوس الفكر، فمن خلاله يثبت الفنان مقدرته على إثبات شخصيته الوثابة والمتطلعة إلى حياة أجمل وأفضل وترسم ببهاء وثراء الطبيعة بكل تجلياتها لتعطي للإنسان روح المثابرة والعزم والتجدد لكي يعيشها كما هي، فيأخذ منها ما هو إيجابي ويحول السلب فيها إلى طاقة متجددة نابضة بالجمال والتفاؤل والتحمل والصبر، لذا ترى لوحات ( ندى ) بمثابة ممارسة لرياضة ( اليوغا Yoga ) فهي لوحات تأمل وفسحة للأمل والاستنشاق والترويح عن الذات لتزيل عنها ما علق من غبار وهموم الحياة ومصاعبها لتجدد فيها الروح المشرقة التي وحدها من تحول الحزن إلى فرح والتوتر تحيله إلى سكينة وطمأنينة، فتجعل الإنسان قويًا وصلبًا على مواجهة الصعاب مهما بلغت منه وتمكنت في لحظة ضعفه ووهنه ليتمكن منها ويجعلها طيعة بيديه.كلَّما غُصت في لوحات (ندى) وهي تجسد جماليات الطبيعة انغمست مع ألوانها الزاهية المشرقة واندمجت معها وتجولت في عوالمها الفسيحة فتكون قد نزعت عنك جلدك وتعبك اليومي ونسيت التوتر والعصبية وأنت تمضي في عالم هادئ، فتداعب أسماعك نغمات وترنيمات مجسمات ( ندى ) وسطوح لوحاتها المفعمة بالألحان العذبة سارحًا معها ومنصهرًا بها دون أنْ تعي، وكل هذه العلامات والميزات تعطي دفقًا معنويًا ونفسيًا وإيجابيًا على روح المتلقي .تعتمد ( ندى ) على فلسفة الانتماء إلى الطبيعة في فكرها الفني أولا ومن ثم في تشكيلاتها لأنَّ الطبيعة تمدها بالقوة والصبر والثبات والحلم وخاصة أنَّ أصل الأشياء هي الطبيعة الأم، هذا الوجود المطلق الذي تمثله الطبيعة يعد منهلا لا ينضب لأي فنان من خلال مكوناته ووحداته الجمالية فهو مصدر إثراء والهام له، فاللجوء إلى الطبيعة هو جزء لا يتجزأ من فلسفة المدرسة الانطباعية وما بعد الانطباعية التي تتيح لخيال الفنان أنْ يبلغ ذروته في تصوره وكيفية خلق منه شكلا بصريًا مختلفًا عن الواقع أو محاكيًا له ويعبر عن قدرة الفنان كذلك وتمكنه من أدواته وعناصره الفنية وكيفية الاستلهام والتصوير لما يراه أو يتخيله.
(ما بعد الانطباعية Post-Impressionism) حركة فنية بدأت في نهاية القرن التاسع عشر تعتبر امتداد للانطباعية وتشترك معها بالألوان المشرقة الواضحة وبضربات الفرشاة الثقيلة الظاهرة واختيار موضوعات الرسم من الحياة الواقعية لكنها تحيد عنها بميلها لإظهار الاشكال الهندسية للأشياء بوضوح (مثلث – مربع..) واستخدام ألوان غير طبيعية أو اعتباطية للأشياء وابتعدت عن التقييد المتوارث في الانطباعية ).وهنا تبرز القيمة المعيارية والقياسية وكذلك النقدية لأي عمل فني وهو يخوض في الطبيعة وتفاصيلها من خلال حرفيته بالتصوير لمكوناته الشكلية البصرية ومن خلال براعته في تمثلات الألوان وامتزاجها مع بعضها لتعطي للمتلقي ألوانا زاهية تناغم وتغازل عين وروح المشاهد، فالطبيعة هي مصدر غني بالألوان أو التشكيلات، ويكمن إبداع الفنان أيضًا بخلق الموازنة بين الشكل واللون والأبعاد ومدى انسجام الشكل واللون وزوايا النظر وكيفية اللعب في هندسة الأشكال وموضعها من الضوء والظل لتعطي مشهدًا شكليًا يأسر المشاهد وتجعله مشدودًا له ومتعمقًا فيه، وهذا ما تحاول ( ندى ) من اتقانه وامتهانه من خلال خوضها في تفاصيل الطبيعة والركون اليها في معظم أمالها لأنَّ الغزارة الفنية تكمن فيها كما تعتقد وتؤمن .إنَّ التعدد والتنوع في تصوير الزهور والأشجار وفي أوقات زمنية مختلفة كما تصورها ( ندى ) لتعطي مشاهدًا بصرية متنوعة ولتثبت قدرتها من اللعب بالزمن وكيفية اتقان لعبة الضوء والظل، ويبدو أنَّها تميل إلى الرسم في أوقات النهار وفتراته وكذلك تصور المشهد الطبيعي في لحظات طقسية مختلفة كان تكون الغيوم أو الغروب والفجر وأيضا في بعض الأحيان تترك الزمن وأوقاته لتعطي للنور المنبعث من داخل الشكل الهيمنة ببعده الواحد على المشهد التصويري دون الخوض في تقنيات الضوء والظل، وهذا ما نلمسه في لوحاتها الكثر وهي تصور لنا واحة خضراء مزهرة ومبهجة (إذا أردنا تحديد ماهية الظل إنطلاقًا من الكلمة نفسها، فعلينا أنْ نعرفهُ بوصفهِ خفوتًا في إضاءة أسطح الأجسام، أي انخفاضًا في سطوع الضوء الساقط على جسم ما، ويبدأ تواجد الظل عند نهاية منطقة الضوء وينتهي في الظلمة الكاملة . والظل هو افتقاد النور كنتيجة محضة لتواجد الأجسام المعتمة، تعترض مسار أشعة الضوء وطبيعة الظل من طبيعة الظلام، أما الضوء فطبيعتهِ هي من طبيعة النور، والظل يختفي بينما الضوء يكشف وكلاهما ملازم للآخر إذ يتجاوران على أسطح الأجسام ).( ندى البرازي ) في معرضها الأخير والذي أطلقت عليه ( نغم ) تحاول جاهدة أنْ تعطي لأشكالها وألوانها وأجوائها سمة تعبيرية نغمية، فهي تجسد أغصان الأشجار والورود وسيقانها ووريقاتها في حالة حركية من خلال تموجات لونية اهتزازية وهي تصور لنا هذه التشكيلات بتمايلها ورقصها مع هفهفة النسائم مما تخلق مشهدًا بصريًا وموسيقيًا شفيفًا يداعب السمع والبصر معًا وهذا يضيف الارتياح في نفس المتلقي.
.فصول وطقوس (ندى البرازي ) متجددة فنجدها تميل إلى تصوير الأشجار وهي في خريفها وتساقط أوراقها الصفر لتحيل سطح لوحتها الى ألوان ذهبية وبني مصفر وإلى اللون الأخضر المصفر لترسم لنا مشهدًا خريفيًا أخاذا لما يمثله فصل الخريف من اعتدال في أجوائه ونسائمه، فتجدد فساتين الأشجار لتستبدل خضرتها بفستان الذهب الموشح بالبرتقال والخضرة فهو امتزاج رائع بين الألوان الحارة والباردة مما تعطي منظرًا ساحرًا، فتشاهد الأوراق العالقة في الأغصان والمتطايرة في المكان والمتساقطة على الأرض فتحيل المشهد البصري إلى قطعة موسيقية ومعزوفة لحنية وبصرية تشرح النفس وتبهج النظر (يرمز فصل الخريف إلى بداية وإنطلاقة جديدة ففيه تتهيأ الحدائق والأشجار والأرض من أجل استقبال موسم جديد حيث تتخلى الأشجار عن أوراقها وتتخذ قسطًا من الراحة قبل الدخول في موسم جديد.يرمز فصل الخريف إلى الاكتمال فهو يعتبر أخر الفصول الأربعة (الشتاء، الربيع، الصيف، الخريف) ففي فصل الخريف تتخلص الكائنات الحية من أعبائها الماضية وتتهيأ لاستقبال حياة جديدة مشرقة ومضيئة. يشهد فصل الخريف تساقط أوراق الشجر على الأرض مما يشكل لوحة فنية مرسومة من اللونين الأحمر والأصفر حيث تشبه الأرض في الخريف العروسة التي تستعد لارتداء ثوب الزفاف).هذا لا يعني أنَّ الفنانة التشكيلية ( ندى) تعكف على تصوير الطبيعة في لحظة خريفها فقط بل على العكس فهي تصور وتجسد زهورها وربيعها وحيث الزهور والورود تتفتح في فصل الربيع لتعطي لنا تكوينات ووحدات مشرقة تعبر عن بدء فصل الولادة واكتساء الطبيعة بحقولها وروابيها ووديانها ثيابها الجديدة المطرزة بأجمل الألوان ونظّارة الاشكال وتعزف أجمل الألحان وهذه الروح هي بمثابة ترف جمالي وذوقي يمثل روح الفنانة ونفسيتها وتصورها الفكري عن الجمال وتوقها الى خلق السعادة وتبديد المخاوف والتحديات التي يعاني منها الإنسان وهذا يعني أنَّ الفنانة قد أدت رسالتها الجمالية والثقافية والإنسانية في أكمل وجه لها وأكثر صدقًا ومسؤولية وإشباع نفسي وروحي ذاتي (في المعتقدات الشرقية تمثل الشجرة إشارة إلى القاء المقدس؛ لقاء الإنسان مع الآلهة، والآلهة بالإنسان. وربما من هنا النذور التي يقوم الكثير من شعوب الأرض وذلك بتعليق قطعة قماش على الشجرة، إضافة إلى النذور التي تقوم بها المتزوجات اللواتي يرغبن بالإنجاب، وهي عادة شائعة لدى العديد من الشعوب.
ويعتقد الهنود الحمر أنَّ أرواح البشر تقيم بعد مغادرة الجسد في الأشجار، لهذا تكثر الأشجار في المقابر، وخصوصًا تلك الأشجار العتيقة لذلك يحذر قطع أغصان هذه الأشجار.الشجرة هي التي جعلت الانسان يهبط على الأرض من جنة عدن، وذلك عندما تذوق من ثمار شجرة المعرفة وأصبح يميز بين الخير والشر.. ).ثمة أشكال وألوان مختلفة توظفها ( ندى البرازي ) في لوحاتها وخاصة الورود في أجمل حلة لها فهي وظفت زهورًا وورودًا أو استلهمت منها مثل ( شقائق النعمان والنرجس والسوسن والروز والزهور اللاتينية والليلك وزهرة الهيذر ووردة التوليب وزهرة ألستروميريا وأزهار البنفسج والأوركيد والزنبق والاقحوان وغيرها ).
وبعض هذه اللوحات قد نفذتها بأسلوب انطباعي تخيلي أو ما بعد الانطباعية (كانت الانطباعية حركة الفن التي بدأت في فرنسا في القرن الـ 19، وقد اشتق هذا المصطلح من عنوان عمل فني من قبل (كلود مونيه) الانطباع، سولي بلاد الشام، جنبًا إلى جنب مع (إدغار ديغا)، (بيير أوغست رينوار)، (سيسلي)، و(بيسارو) وكان العديد من الرسامين الانطباعيين الأكثر شهرة يستخدم الانطباعية ضربات صغيرة ورقيقة التي هي واضحة.)تحاول (ندى ) أنْ تجسد مشهدًا يجمع بين الغرافيك والفوتغراف لأحد الشوارع ولمبان شاهقة مكتظة؛ لتصور لنا هندسة العمران حيث يطغى عليه الجو الرومانسي بألوانه الليليكية المتدرج بين الأزرق والنيلي والأبيض وانعكاسات هذه الاشكال البنائية على المياه بشكل نقيض أي لم تظهر نفس اللون البصري للأبنية وهي الألوان التي أشرنا أنفًا بل أعطت لها بريقًا أبيضًا وكأنَّه الزبد أي عكست لون السماء وغيومها بالإضافة إلى ألوان الأبنية وأنوارها ممتزجة معًا على سطح الماء وهذه يعني أنَّ مشهد الأبنية وانعكاسه جاء معبرًا عن روح الفنانة وسعادتها وانشراحها لما تلاحظه عيناه من منظر بديع للمكان وهذا ما شاهدناه في لوحتها ( شوارع ) .