تجسيد الصراع بين الحياة والجماد فى أعمال النحات هنرى مور
للكاتب والفنان التشكيلى المغربى محمد خصيف
النحت نوع من أنواع الفنون التشكيلية، يأتى فى درجة ثانية بعد الرسم والتصوير، رغم أنه بقى فى نظرنا أهم منهما شكلا ومضمونا. ذلك أن العمل المنحوت يكون قريبا من المشاهد أكثر من غيره، يراه ويتلمسه ويتحسس مادته فيشعر بخشونتها ويستشعر نعومتها. والعمل المنحوت يعيش بالقرب من الإنسان يجالسه فى الأماكن العمومية، يحاوره دون مانع أو رقيب، بينما اللوحة تبقى منعزلة فى فضائها الخاص، مرَاقبة ومسيَّجة، لا تتحاور مع المتلقى إلا بشروط يضبطها الزمان والمكان والإنسان.
يأتى النحت فى درجة قبل العمل المعمارى، وهذا صحيح إلى حد ما لأن لولا وجود النحت ما وجدت العمارة. فالصرح المعمارى يمر بعملية نحت وبناء قبل أن يكون صالحا للسكن. وكم من بنايات هى عبارة عن تحف نحتية منتصبة، شاهدة على عصرها، أبدعتها أيادى فنانين بارعين، وخلدها التاريخ لجمالية أشكالها وألوانها وفضاءاتها، رغم فقدانها لوظيفتها.
يعد الفضاء ناظما أساسيا فى تكوين بنية العمل الفنى المعمارى فيكون بذلك فاصلا بينه وبين العمل المنحوت. حقيقة أن الفضاء يتدخل كذلك فى النحت، لكن ليس له نفس المماثلة الوظيفية لتلك التى للعمارة. فهذه الأخيرة همها الشاغل هو إيجاد حلول فضائية تكون أكثر وظيفية، فى مقابل رونق الشكل والحجم.
ويشكل التعامل مع الفضاء ذى الأبعاد الثلاثة، طول وعرض وعمق، عاملا مشتركا بين الفنين، الشئ الذى فقده أو تخلى عنه فن التصوير حينما أزاح الفن الحديث إيهامية العمق بتخليه عن المنظور الهندسى الموروث عن عصر النهضة.
ورغم المكانة التى يحتلها النحت جماليا وإيديولوجيا وأسطوريا، فإنه تطوره عبر العصور لا يضاهى ذلك الذى عرفه التصوير عبر تاريخ الفن، إذ أن تأسيسيات التغيير والبدائل الجمالية التى ظهرت مع جل التيارات الفنية الحداثية، إن لم تكن كلها، كانت تصويرية Pictural، أكثر منها نحتية Sculptural.
عرف النحت الحديث مرحلتين هامتين:
مرحلة التكوين التى امتدت من بداية القرن العشرين إلى حوالى نهاية العقد الثالث، والتى تميزت بالتأسيسات الجمالية الكبرى، على مستوى الكتلة والشكل، وغياب المسافة التماثلية بين المنحوتة وتشخيص المرئى.
مرحلة التركيب التى تلت المرحلة الأولى مباشرة، تشاكلت خلالها تجارب نحتية فردانية، فى استقلالية تامة عن التيارات والمدارس الفنية التى تسيدت خلال المرحلة الطليعية. ويتمثل لهذه المرحلة بأسماء بارزة، جعلت من الذات الإنسانية فى علاقتها بالطبيعة والوجود بؤرة اشتغالها. أتمثل هنا بفنان عبقرى، محاولا استكناه بعض تجربته الفنية. إنه النحات الإنجليزى هنرى مور Henri Moore، المولود عام 1898 بكستلفورد بإنجلترا والمتوفى عام 1986.
التحق هنرى مور بكلية الفنون بلندن عام 1919، أمضى بها سنتين تعلم خلالها مبادئ الرسم وحصل على شهادة خولت له الاستفادة من منحة لمتابعة دراسته بكلية النحت إلى غاية 1924. مارس مهنة التدريس كأستاذ للنحت حتى عام 1959.
من خلال بداية تجربته النحتية، نستجلي وعيا جماليا يزاوج بين المرئي والمرجعي، المحيل على تجارب نحاتين عالميين، منهم ميخايل أنجلو Michelangeloو أوغست رودان Auguste Rodin، ومايلول Maillol، وبيكاسو والاتجاه السريالي الذي ساد خلال فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية.
يقول هنري مور في حديث عن ميكل أنجلو: “إن ميكل أنجلو هو سيد النحاتين جميعا، عمله يتناول الكتل ويضحي بأجمل الأحاسيس ليحافظ على قوة الشكل”.
في عام 1928، نظم هنرى مور أول عرض فردى لأعماله، شمل أربعين منحوتة وخمسين رسما، أنجزت بين عامى 1922 و1928. على الرغم من أن منحوتاته جذبت الكثير من الاهتمام، إلا أن تعليقات الجمهور والصحافة لم تكن مرضية بما فيه الكفاية. فالمنحوتات تكشف عن مرجعيات تتقاطع إلى حد كبير مع فنون هنود أمريكا (منحوتات شاك مول Chac Mool) وأقنعة إفريقية وجلسات فرعونية.
يعتبر هنرى مور أحد النحاتين البارزين فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذ تتميز أعماله بعمق أصالتها وتعبيريتها التى تنمحى فيها مماثلة الواقع، ليصبح الواقع “أحد مجازات الكينونة” والوجود الإنسانى. فالكتل سواء أكانت تندفق من النحاس أو الرخام أو ذات أحجام كبيرة أو تستسلم للصغر، فإنها تبدو وسيلة التواصل الأولى والمباشرة، إذ تستمر دلالتها ورمزيتها من الكتلة البسيطة فى تكوينها والقوية فى بنيتها ومن وضعها فى الفضاء، حيث يتعاقب على مساحتها كل من الفراغ والمملوء المستمر. إن جل أعمال هنرى مور تصل إلى حدود التجريد (بمفهوم الانزياح عن الواقعية التصويرية)، لتقترح على المشاهد علاقة استعارية مضطربة بين آليات المملوء Plein والفراغ Vide.
ومن خلال بعض أعماله المشهورة كمجموعة “العائلة” أو “الملك والملكة” يظهر أن الفنان يتميز ببراعة إبداعية فى تعامله مع الأشكال المنفردة، الجالسة أو المنتصبة، الممتدة على الأرض الكاشفة عن فخامتها، تلك الأشكال التى يحسن إرجاعها إلى كتلها الجوهرية.
وتعد فترة الحرب العالمية الثانية التى عايشها الفنان هنرى مور من أغنى مراحله الإبداعية حيث ألهمته العديد من الرسوم التى تصور مأساة الإنسان المتألم، إنسان العالم المعاصر الذى ما فتئت تمزقه الصراعات والحروب. وكان فنه فى هذه الفترة يسعى إلى مقصدية تعبيرية تلازم الواقع المأساوى المؤلم، الشئ الذى حقق له نجاحا باهرا وشهرة أبدا لم يأفل نجمها.
موازاة مع الهموم الإنسانية وما شكلته من قصدية فنية/جمالية لدى هنرى مور، يبدو الانشداد إلى الطبيعة قويا. فتموضع الأعمال النحتية داخل الفضاء يبتغى الفنان من خلاله مناسقة إستيتية تساهم فى تشكيلها عوامل المناخ، فتعريها وتعرضها للنور والهواء والرياح والمطر. وإن ارتباط أعمال هنرى مور بالطبيعة تركها تحمل مفهوما سرمديا تتحدى به تلك العوامل وتعطى للإنسان إحساسا بالضخامة تفوقية التسامى. فاتصالها بالطبيعة وبالفضاء جعلها تخضع للفراغ ولمعطياته التشكيلية لتتخذه كحيز مكانى تملؤه، وكعنصر مكون لا يمكنها الاستغناء عنه، لكن ملء الفراغ يأتى فى درجة ثانية، وربما أن الفنان يعارض الفكرة هذه ولا يؤمن بها، وقد يفهم ذلك من أقواله: ” ليست تماثيلى قطع زينة تتحلى بها الصالونات وتتألق تحتها المناظر إننى أبحث لأسجل شعورى بالحياة…لا لِأملأ فراغا فى غرفة، إننى أسجل إحساسى بالقوة الهائلة التى تصارع الجماد لتخلف فنا حيا…يعيش فى نطاق من القيود يصارعها بدوره فى سكون الواثق من النصر(…) إنني أميل إلى تجسيد الصراع بين الحياة والجماد…صخرة تحاول أن تتفجر بالحياة، تخرج حية، تجرى وتلعب، تتنفس الهواء العليل، إننى أحاول أن أبرز النشاط المتأثر بالقوى الطبيعية”.
لقد تجلى دور هنرى مور فى تجديد النحت البريطانى وإعطائه مكانة عالمية لم يعرفها من قبل. ويبقى هذا الفن تعبيرا أمثل عن الروح الإنجليزية فى الفن العالمى الحديث.