بلاغة الحياة في لغة الفن .. من الشكل إلى التجريد
كتب/ محيي الدين ملك
ليست اللوحة – هذه الوديعة الحياتية – إلا عتبة / أو انفتاح نحو فراغ يصعب إدراكه.. وخلف قضبانه المكانية حياة كاملة، وينزلق من ثقوبها الضوء. ما اللوحة إلا عين الوجود التي تسمح للفنان أن يحدِّق في العالم من خارج الداخل أو من داخل الخارج. ليست إلا نافذة على هذا اللامتناهي الممتد بين الأرض والسماء وما حولهما من الفراغ الهائل.. وتطل على أشياء، وتكشِف عن ألوان، سواء أكانت مرئيةً أم متخفيةً، ذاتيةً أو موضوعية، لكنها، بلا شك تومض، لتبرق في أعماق الفنان حتى تسمح بتسرب الأنوار وشعاع الشمس. وتقبل أن تتحول من شكل إلى آخر.
وكأن الفنان عندما يتشرف برؤية الطبيعة، ويتأملها، ثم يعود إلى مرسمه، وقد تشرب من أشكال وجودها وألوان موجودها، بل، ومن أضواء تبرق كالوجد، تكون سببًا للذة فنية. للتمتع بالجمال، وللرسم المُجرَّد بحرية.إن النظر إلى اللوحات التجريدية، تبدو للوهلة الأولى، وكأنها مُجَرَد خطوط وألوان، وأضواء ودرجات حرارة متباينة.. غير أن ما نراه، أيضًا، أشياء تنبض من داخل هندسة كونية – روحية. لا خربشات. لأن الفنان قد درّبَ خياله وملأه من أجل عالم مختلف يحتفي به، وحياة متوارية يعيد صياغتها.. يريد أن يرى النقطة والخط. اللون والتدرج. التكرار والإيقاع. الضوء بين الكتلة والفراغ. حدود الوجود وعتبات اللوحة.. كل هذا من أجل فيضٍ يتدفق باستمرار. ويتجاوز المكاني ليتجاور مع روح الإنسان، وحياة اللوحة، بتجرُّدٍ خالصٍ.
ذلك، لأن عطاء التجريدية هو نتاج تجربة مريرة وعميقة ينقلها الإنسان / الفنان – منه وإليه – لما لها ارتباط وثيق بأصل الوجود، بعوالم الكون، وبالحياة برمتها، وبعد ذلك يصحّ العكس أيضًا، أي بمستوى تقدم الإنسان ونظرته إلى الجمال. جمال الكون والحياة والإنسان، والجمال الخالص بذاته.
إن الفن التجريدي يعتمد – إلى جانب الخط واللون. الكتلة والفراغ.. – على نماذج تنأى عن مجاراة الواقع المرئي، ولكنه يُعوِّل على سلطة الخيال وسطوة الفنّي في نسج الخيوط في خطوط مدهشة، أي التوليفات الماتعة بين الأحاسيس والوجدان وبين الأشكال المجردة، وهي الأهم في مسيرة الفن التجريدي، لأن الفن بهذا الشكل، أيضاً، طريق إلى الروح.
جمال، يبدو – بيقين النقاط الملونة المرتعشة، والخطوط التي تتعانق وتتعالق. وأجرام ملموسة وموجودات محسوسة – له محل بين ثنايا اللوحة، لحظة الرسم. أجرام تتكون منها عوالم الكون وعالمه، أي العالم في نظامه المُحكم، والمُحكم في اتساقه الكامل، والمتَّسق بدقة متناهية، بدلالة ما يُرسم وفق أسس تصميمية – تجريدية تعبر عن شيء يحس به الفنان، وإن كان يقع خارج مدار الخيال. فقط النشوة ذات النقاء التام هي لغة الفنان، بها، يعمل عمله.
وهذه الكتابة، بهواجسها وارتحالاتها، تجلٍ، لحظة التأمل في أعمال الفنان التشكيلي الكويتي (حسين الإبراهيم).
من المسلّم به في البداية – كما هو مُبيّن في الأعمال الفنية – أن الفنان يمتلك حسًا فنيًا، غالبًا ما يثير شجونًا منطوية في أدراج نفسه، ولهذا السبب، ربما، لا الأسلوب الواقعي، ولا التسجيلي، تعنيه. إن ما يعنيه، فقط، هو هذه: مغامرة تجريدية تتجه إلى أعماق الفضاء الفسيح لترتد إلى أعماق النفس. تلك الأعماق المجهولة والمجبولة بالعالم الأكبر.
لهذا، فإن تعويله وانهمامه الكبير يكون على اللون، لأن اللون يُعد عنصرًا حاسمًا وهامًا في حياة الإنسان، وبنية فريدة في تشكيل التصورات والصور الذهنية. ركيزة دقيقة تقوم عليها صورة الجمال والتعبير، من المبتدأ إلى المنتهى. ولأنه – اللون – يحمل كمًا هائلا من قيمة القيم. علامة دالة تعطي أبعادًا فنية في الفن التشكيلي على وجه الدقة، كما أنها من أغنى الرموز التشكيلية التي توسع مدى الرؤيا، وتساعد في تشكيل العناصر الأخرى للعمل الفني بأشكال مختلفة. ففي خواصه، خاصيات، تحمل من الطاقة وتُرسلها كإشارات حسّية.. تُثير المثيرات وتُفَعِّلُ الانفعالات من المَشَاهِدِ إلى المُشاهد – المتلقي، خاصة، وأن النفس تتأثر وتندهش بما صارت للأشكال من ألوان، والنظر إليها تُثير الإحساس بالجمال والمتعة، إن نصيب اللون من الأثر السيكولوجي كبير، وهذا الأثر يتغير بتغير الزمان والمكان، وكذلك، بتبدّل الحالات النفسية والذوقية للإنسان.
أما في تجربة الفنان (حسين الإبراهيم)، فاللون، هو كل ما يَحدث ويُحدِث.. وبه ينطلق إلى آفاق الخلق الواسعة، وعليه، يعتمد في بناء لوحته: الحركة والاستمرارية.. علاقات المساحات بين الناعمة والخشنة، وتناغمهما. وفي بعضها، يوظف عجينته اللونية ليوحي بأشكال الكون وكتلٍ من الطبيعة ضمن مفاهيم وأسس تجريدية معاصرة.
تلك الأشكال الظاهرة في أعماله، تتكون وتتلوَّن ومن ثم تنبثق من تأملات وتخيلات في حواف العوالم اللامرئية، والجروف الصخرية، والمنحدرات.. تلك التي تحمل في طياتها جماليات هائلة: الغائرة والنافرة منها. الناعم والخشن، البُقع الكبيرة أو الصغيرة. التواءات الخطوط واستمراريتها. وحركة الشمس على هذه الصخور وقد جعلتها مثل كائنات تتنفس وتتبدل وتتغير، لتتجلى بصور متعددة في لوحات متنوعة.
إذاً، وكفنان، يرى (حسين الإبراهيم) موضوعه من خلال ألوان الصخور وحركة الشمس، وتبدّلات الجسم الكروي، ومسار الأشكال من السكون إلى الحركة. ومن هنا، لا بد أن تكون الأشكال المجردة لوحة؟ طالما أنها موضوعات حيوية، وطالما أن أي إنسان يرى فيها ما يحلو له أو يتذوقه. وبالمقابل، فإن الفنان يقوم بمعالجاته الفنية من خلال التصوير، وعلى السطوح المتباينة، وبشفافيات اللون ودسامته، وعبر حركة البقع وسيلانها على جسم اللوحة، والنتيجة: لذة نابعة من هذه الحالة التصويرية.. الخ، في محاولة لاندماج الكل في وحدة واحدة.
والملاحظ، أيضًا، غياب النماذج البشرية إلا ما ندر، وطغيان فكرة التجريد أو “التنزيه” – بلغة أهل العرفان. وكأن الفنان ينطلق من الملموس لينتهي إلى المحسوس. تاركًا اللون – مرة – يسيل حيثما شاء، وضبط إيقاعات، مرات ومرات: محاولات لصياغة عمل فني من مواد وتقنيات التصوير نفسها، وألوانها وعجائنها، والماد هنا، دلالة نفسها، ودلالة جمالها، بل وغيض من فيض هذا مادة الوجود الجميلة.
إذًا، تنحو هذه التجربة باتجاه التجريد، حيث منظر المجرات، والجروف، والصخور، والجدران الطبيعية، ومشاهد أخرى حسّية أكثر منها مرئية. فكانت العجائن اللونية، والضوء والفراغ، واللمس والحركة من البقع اللونية إلى الخطوط. والأهم، في هذه التجربة، رغبة الفنان في الابتعاد عن التشخيص، عسى أن يجد في التجريد ما يريده.
وبالجملة، فإن هذه التجربة كثيرًا ما تنفلت من قبضة الوعي، وتبتعد عنه، وفق قانون جاذب يتسرب – هكذا – من الخارج إلى داخل اللوحة. تتجلى عليها أشياء مختفية في وجه الشموس، أو أمام الأقمار.. وعبارات تدغدغ الذاكرة من بداية كتابة هذا النص، منها: تكشف لنا إحدى الورود بجلاء: أن لا شيء، ولا أحد، مستقل بذاته. وأننا، كلما عرفنا أكثر عن العلاقات داخل الكون، ظهر لنا العالم أكثر غموضًا. وأيضًا: لو أُتيحت لي الفرصة لأكون نجمًا لرفضتها. إن أروع فرصة تمنحها الحياة هي أن نكون إنسانيين. إنها تعانق الكون كله..
ولعل المشاهد، وقد تأمل هذه الملامس والسطوح المتشكّلة، سيقف في موقف “المجاز” من عبارة، تقول ” أنت في كل شيء. في الوجود والموجود. أو في العدم والمعدوم. أو في الكون والمعالم المميزة. وبعد الانتهاء منه، سينظر بافتتان أكبر إلى نجوم الليل.