الكاتب المغربى والباحث السوسيولوجي ، العربي الرودالي” أين ثقافتنا؟”
نعم أين ثقافتنا؟ هل اختفت؟ هل أقبرت؟ اضمحلت…؟ أيجب أن نحمل فوانيس من صنف ما حمله سقراط باحثا عن الفضيلة؟.. ثم هل قرصنتها الأمم التي تفتقر ثقافتها إلى ما هو قيم، لتمزجها بقدرات فائقة مع ما تملكه، على غرار ما تمارسه دواليب”العم سام”لتطعيم رصيدها وإغنائه ؟ ..أم أنها ذابت في عصر التكنولوجيا وانمحت حضاريا كما هو الشأن بالنسبة للهنود الحمر أو منغوليا حاليا…؟ وهل حقا لدينا من يضطلع بثقافتنا عن كفاءة ؟ إن هناك من يؤكد أن بلادنا لها مؤسسة وصية هي”وزارة الثقافة”.. لكن هذه الأخيرة ليست سوى إدارة كسائر إداراتنا… أهم دواليبها معطلة، والقيم عليها هو فقط سياسي متحزب غايته أن تحمل هذه المؤسسة اسمه، فيمر منها طيلة ولايته حاملا حقيبة من الصفقات الخاصة، لا تمت غالبا بصلة إلى الثقافة.
الثقافة،غابت فغابت النحن والذات ولم تبق لدينا مقومات..وغاب تحضرنا والتاريخ فينا، والذوق لدينا والعشق والحب والطموح والاستشرافات…واقتلعت جذورنا ومسخت صورتنا، وكدنا نصير مجرد استنساخات…ندب، لنستهلك ونفترس، وننام ونتكاسل ونتقاعس، ونتعبد بالمضاجعات والشهوات… فأين ثقافتنا، وأين الإبداعات؟.
والثقافة أيضًا، هي من ترتب الوجدان وتهذب الذوق وتفتق الخيال وتفتح الآفاق وتغذي النفس، وتطمئنها في كل زمان ومكان…هي كل إبداع فينا على امتداد مسافاتها من الفرد إلى المجتمع إلى التاريخ، في صيرورة تبصم الحقب المتعاقبة…هي تأكيد للحضور، حضور التساكن والانتماء… فإذا كان إبداعنا ليس إلا في الآخر، دون هذا الحضور، فسيكون انسلاخا في خدمة ذاك الآخر..إن الأمة التي تعي ذاتها وتشعر بها، تمتلك القدرة على أن تتطور تكامليا في كل المجالات،لتقفز إلى كل مقبل..وهذا هو الطريق إلى النهضة الشاملة.
الثقافة الثقافة،هي فخرنا…فنحن المغاربة نريد أن نعتز بثقافتنا كما هو الشأن بالنسبة لكل الأمم…إن مكونات ثقافتنا إجمالا ضاربة في أعماق العصور وستبقى ولن تفنى ما بقيت أمتنا… فقوة التراث مثلا، تكمن في قدرته الخارقة على اختزان الموروث الثقافي وهوية الكيان..ومهما كان الدخيل قاهرا فلا يمكنه أن يذوب شيئا من كل هذا… فالشعوب لها طرقها وأساليبها للحفاظ على تراثها،فوق الجدران وفي المعمار وداخل الأسوار، وحتى في الوشم والرقص والهتاف والفرجة واللعب، وفي تناغم أصوات وخطوط وسلوكات…ومن المؤسف جدا،أننا نعيش في الزمن الراهن عهد التشتت والتشرذم في كل شيء، نتيجة الانحسار والتراجع، بتفكك الأرضية وإعاقة النهوض،إن أدبيا أو فكريا أو حتى سياسيا…نفتقد اللحمة الواصلة بين كل عناصر مجتمعنا،إذ تتيه التوجهات و تغيب الرؤى و يضيع التماسك..ندفع بالأجيال إلى الإلهاء والاستلاب، تحت ذريعة : “هذا ما تريده الجماهير لتنشيطها”.
أيتها الثقافة، لقد توقف مسرحنا وجمد غناؤنا وشحت معارض تشكيلنا وتحنطت كتبنا حتى ملها قارئها واستعصت على نهمه، فنبتت الطفيليات في الفراغ الذي فسح لها، حتى استفحل بذلك الانحلال عبر مشاريع الربح الضيق، وأطلقت أيدي السماسرة والمنتجين الذين لا صلة لهم بالميدان…أليس هذا ما جعل الإنتاج الأدبي والفكري والدرامي والفني، ضحية التدبير الصوري وسطحيته وعشوائية البرامج الوسيطة، فاعتراها كلها النكوص والجفاف والتحجر؟ .. وهكذا تضيع التربية الاجتماعية على الذوق والنظام والفعل، وبالتالي على الوعي بالمواطنة… وسينعكس كل ذلك على الوضع العام في كل ميدان، باللامبالاة وتداعياتها، وأخطرها تفكيك الذات وتصدعها، ثم تركها للمجهول…فبعد التراث الموروث عن الأجداد عامة، و بعد الحركة النهضوية الثقافية والفنية في البلاد عقب التحرر من الاستعمار، والتي طبعت بحماس منقطع النظير النصف الثاني من القرن العشرين، تطلعا إلى التنمية والتقدم والازدهار… بعد كل هذا تحرك إشعاع الثقافة وتوسع على مستوى الدراسات الفكرية الكبرى وانتعشت أجناس الكتابة ومعارض الرسم والركح المسرحي، والألحان الموسيقية، للرواد… فلنسأل في هذا الصدد “الحنين” إلى أيام “الزمن الجميل”.
وا آسفاه على الثقافة،هكذا وابتداء من مطلع القرن الجاري، لم نتمكن استمراريا من تهيئ نخبة جديدة، فكرية وأدبية وفنية ذات صدى حضاري،إلى درجة أننا صرنا نشك متسائلين،في مناخ هذا الفراغ الذي أحدثته القطيعة مع الذات وفي خضم هجمة العولمة الكاسحة،هل سيكون لنا مفكرون وكتاب وشعراء ورسامون وموسيقيون، بحجم الرواد الأوائل لدينا، على غرار من جادت بهم نهضتنا بعد الاستقلال واستمرت ؟ .. قد يحصل ذلك لأن بلادنا خصبة وقادرة على أن تنجب، ولكن نحن غافلون ويغيب في أذهاننا الوعي لبناء المشروع الحضاري.
هذه الثقافة، تحولت عندنا، إلى صناعة نماذج مستنسخة تجتر الاجترار وتبسط البسيط و تردد ما يتردد، إلا ما ندر من جهد شاق وعصامية بطيئة تستنزفها الإحباطات.. حتى أنه لم يعد الواحد فينا يتذكر أو يعرف دون حصر، من هو المهدي المنجرة عالم المستقبليات، أو محمد عابد الجابري المفكر الوطني والقومي، أو الطيب الصديقي المبدع المسرحي، أو عبد الرحيم السقاط الملحن البارع، أو أحمد الشرقاوي من رواد التشكيل، أو عبد الكريم الطبال الشاعر العريق، وما سواهم…لقد طغى الاستهلاك النمطي،حتى طغى منطق السوق العشوائية، فآلت الأخلاقيات النوعية والحس الجمعي والقيمة االإبداعية المضافة، إلى الاندثار.
لقد تهدمت ثقافتنا هذه، بالاستخفاف والإرباك وعدم الاكتراث وغموض الرؤية، وسوء التدبير وانعدام أي إرادة مسؤولة…ولم نعد نملك تصورا وطنيا متكاملا لمشروع ثقافي/فني واعد.. فكيف سنصوغ باكتفاء ذاتي أفراحنا ومسراتنا،وكيف سنوضب أحزاننا وهواجسنا، ونؤثث أحلامنا وآمالنا، وكيف سنتصالح مع الذات ومع العشق واللوعة والطموح…؟ إن السؤال الذي يفرض نفسه هو أننا قد ورثنا عن السابقين عراقة ما نعتز به ونتباهى راهنا، مع أنفسنا وأمام الأمم الأخرى، فماذا سنترك نحن الآن للأجيال بعدنا حتى يذكروننا هم أيضا بفخر واعتزاز؟ وإذا اتفقنا على أن “العصرنة” بمعنى الحداثة عاملا حتميا، وأن إبداعات الأجيال بمعنى التطور ضرورة وأساس، لا يجوز التعامل معها بالممانعة، فما هو التصور التاريخي و الحضاري الذي يضمن الأمن الثقافي لبلادنا، لأنه أصبح لكل شيء غزو يهدد بالإقصاء؟
تحية تقدير للجهود التي تبذلها هيئة تحرير هذه الجريدة الجادة والراقية..بالتوفيق والتألق والاستمرارية…