ناصر سالم المقرحي
عبد الحميد الجليدي فنان تشكيلي ليبي واقعي لا يعرفه الكثيرون ولا تتم الإشارة إليه إلا لمامًا عند الحديث عن الفن التشكيلي الليبي؛ رغم أنه صاحب تجربة عريضة ومُنجز ثري، ولربما كان للفنان نفسه دورًا في عدم انتشار اسمه إلى جانب الأسماء الليبية المعروفة في الفن التشكيلي في بداياته هنا.
إذ يبدو أنَّ الفنان الذي لا يُجيد تقديم نفسه كفنان والترويج لأعماله إعلاميًا على المستويين المحلي والعربي لم يبذل مجهودًا في هذا الشأن وانشغل تمامًا بعملية إنتاج الأعمال الفنية على حساب الشُهرة والانتشار والتأسيس لاسم فني وهو القصور الذي وقع فيه الكثير من المبدعين الليبيين في جميع مجالات الإبداع ولا يزالون، حتى في ظل توفر السُبل، ونعني بذلك وسائل التواصل الاجتماعي والطفرة التكنولوجية الإلكترونية.
ولولا أنني كنت قد شاهدت أعمال الفنان التي تحتفي في المقام الأول بالبساطة والانتصار لحياة الريف البعيدة عن تعقيدات المدينة وتأثيراتها السلبية والتسارع التكنولوجي وتنحاز للهدوء والتأني والتأمل في مقابل التسارع المحموم غير المحسوب العواقب، وتذهب إلى اقتراح نمط حياتي هادئ وأسلوب عيش خالي من التوترات والتعقيدات، ولولا أنني شاهدت هذه الأعمال واللوحات الزيتية ذات معرض – أعتقد أنه الأخير في مسيرة الفنان – في المركز الثقافي الفرنسي بطرابلس منذ عقود لما كنت قد اكتشفته كفنان كبير وصاحب أعمال تحمل قيم جمالية عالية المستوى، ويد قادرة على تجسيد ما يصل إليه الخيال.
وهذا يجعلنا كمتلقين نؤمن بأن المعارض هي الطريقة الأنسب للفنان كي يُعرِّف بنفسه وبفنه، كون المعرض في الأعم سيحتوي على خلاصة التجربة التشكيلية وكون هذه الطريقة ستمد المتلقي بفكرة ولو بسيطة عن التجربة بعكس لو أنه شاهد بين الحين والآخر لوحة هنا وأخرى هناك، فهذا التقطيع الزمني والفني سيحرم المشاهد من بلورة فكرة كاملة عن فنان معين، أي أنت كمتذوق يكون من السهل عليك أن تستوعب تجربة محددة من خلال معرض فني شامل، وستجد صعوبة مهما كنت مستعدًا ومنتبهًا، في تأطير أية تجربة ذهنيًا فيما لو أنك اعتمدت على ذاكرتك التي تكون قد احتفطت بما شاهدته هنا أو هناك خلال فترات زمنية متباعدة، ومن هنا تأتي أهمية المعارض التي تكون إضافة إلى ذلك فرصة لتأمل الأعمال الأصلية والتحاور مع الفنان.
ويُذكر أن الفنان الذي اشتغل طويلا في مجال الصحافة كان قد نشر الكثير من رسوماته ومقالاته في مجلة الأمل المخصصة للأطفال من ضمن ما نشر، وفي كل ما رسم الفنان حافظ على صرامته وانحيازه للواقعية التي انتمى لها وعمِلَ وفقًا لاشتراطاتها، ولم يستثني من ذلك ما رسمه للأطفال في مجلة الأمل إذ غالبًا ما كانت رسوماته المُتقنة والحيوية، مُحافظة على مقتضيات المدرسة الواقعية . ولربما فرضت ضرورات العمل الصحفي على الفنان أن يرسم بواقعية لأنه اضطلع بتحرير بعض المقالات التي تُعرّف الطفل ببعض الحيوانات والمقتنيات – إن لم تخذلني الذاكرة – وهذا يتطلب رسم ما تتحدث عنه المقالات القصيرة وتجسيده بالرسم كما هو في الواقع .
وخلال اجتماعات الجمعية الليبية للآداب والفنون السنوات الماضية، قبل أن تتوقف أنشطتها، كنت أتخير الجلوس قُبالة إحدى لوحات الفنان المُعلقة، والتي يبدو أنه كان قد أهداها لمجمع اللغة العربية حيثُ تتم الاجتماعات بمكتب الأستاذ الفنان العاشق والمُحب للفن التشكيلي بكل أشكاله (جمعة الترهوني)، والتي تُصور حمل صغير بجانب جذع شجرة وفي خلفية اللوحة يمتد بساط أخضر ومدي يداعب الخيال بشساعته ونصاعة مكوناته، ولوهلة وأنت مستغرق في تأمل الأعمال ستراودك الرغبة في أن تكون جزءًا من لوحة الجليدي الذي يبرع في رسم الفضاءات المفتوحة والبراحات الشاسعة ويحاكي الطبيعة في حيويتها ولربما تمنيت أن تُداعب أحد الحملان التي يرسمها (الجليدي) أو تتمرغ فيما يجسده من عشب أو تسترخى تحت إحدى الأشجار أو تتمشى وسط الخُضرة الزاهية أو حتى تستمتع بأشعة الشمس الدافئة وتتحسس الرمال بيديك وتُقلد الطبيعة في صحوها واستيقاظهابقيَ أن نُشير -وكما أسلفنا- إلى أن لوحات الفنان تميل -لا بل تذهب صراحة- إلى تجسيد حياة الريف والبساطة بألوان متناغمة ومُشرقة ونابضة بالحياة، إذ لا تمتلك كمشاهد وكمتلقي إلا أن تقف مبهورًا أمام التفاصيل الحية والدلالات العميقة للأعمال وأنت تجول بنظرك في أنحاءها مثل أي متذوق يحوز على قدر ضئيل من المعرفة بالمدرسة الرومانسية في الرسم والشعر، وبطبيعة الحال كان للمهارة والحرفية التي أُديت بها الأعمال دورًا مهمًا وكبيرًا في إيصال الخطاب الجمالي وعكس دلالاته المضمرة والتي هي بالضرورة تمثل لقناعات الفنان وانعكاس لنظرته الجمالية للكون والحياة، وهي على كل حال دلالات غير بعيدة عن الذائقة الجمعية ومن السهل استشفافها وتذوقها من قِبل الكل على اختلاف مستوياتهم الفكرية والمعرفية.