كتب / غازى انعــــيم ، من كتاب ” وجوه من الحركة التشكيلية العربية ” الصادر عن الجمعية الكويتية للفنون التشكيلية.
يعد الفنان التشكيلى القطرى يوسف أحمد، أهم الفنانين التشكيليين القطريين الذين فرضوا حضورهم بقوة على الساحتين التشكيليتين المحلية والعالمية منذ سبعينات القرن الماضى حتى اليوم.. فمنذ تخرجه من جامعة حلوان عام 1976، وحصوله على الماجستير فى الفنون الجميلة من أوكلاند بأمريكا عام 1982، وهو يرسم، ويبحث، ويكتب، ويؤلف، ويشارك فى المعارض المشتركة والجماعية.. ويقيم المعارض الفردية فى داخل قطر وخارجها..
كما لا يذكر اسم الفنان يوسف أحمد، إلا وتذكر معه الحركة التشكيلية القطرية، وحيثما تذكر يذكر معها اسم الفنان يوسف أحمد، والذى وصف فى مدينة الدوحة القطرية بفنان الحروفية كما أطلق عليه لقب صائد الجوائز، ومع ذلك فإن تلك التصنيفات والألقاب.. بالنسبة للفنان يوسف أحمد المكرس جل وقته فى البحث والتجريب فى التقنيات والألوان والإنتاج ليس بالأمر المهم، وما يهم فناننا الذى يقف فى موقع شديد الخصوصية والأهمية فى حركة التصوير القطرية المعاصرة وبصفته أحد روادها.. الاستمرار ببحثه الفنى الذى ساعده فى إدخال أعماله الفنية للمتاحف العربية والعالمية وصالات المزادات الفنية وبشكل خاص مزاد كرستيز بدبى.
ـ من هو فناننا؟
ولد الفنان يوسف أحمد فى الدوحة عام 1955 ، وتأصلت موهبته ” عندما بدأت أنامله تخط الخطوط السوداء على جدران بيته مستخدما فى ذلك السناج الأسود الذى يحصل عليه بعد انتهاء والدته من الطبخ” ، حين دخل المراحل الأولى للدراسة، فوجئ بعلبة الألوان ذات الأثنى عشر لونًا، إنها تختلف عن اللون الأسود، وأيضًا هناك الورق والكراسات الخاصة للرسم ذات المساحات البيضاء والملونة “. فمن هناك فتحت أبواب أخرى لموهبة يوسف، الذى أقام أول معرض له على باب منزله عام 1963 وكان عمره لا يتعدى عشر سنوات.
بعد ذلك ” جاءت مشاركاته الفعالة فى المعارض المدرسية سواء فى المدرسة الابتدائية أو الإعدادية حتى وصل المرحلة الثانوية “.فى هذه المرحلة المبكرة من حياته بدأت اتجاهاته نحو الفن تظهر وتتجلى وتتطور، وأثبت أنه فنان ذو موهبة متميزة خطفت الأنظار إليها. فتابع هوايته وانضم ” فى عام 1971 إلى مجموعة الفنانين الذين اتخذوا من نادى الجسرة الثقافى الاجتماعى مركزًا لهم، يمارسون فيه أعمالهم التصويرية.. وبدأت منذ تلك اللحظة مشاركاته فى المعارض التى مثلت دولة قطر حيث شارك فى أول معرض خارجى وهو معرض الكويت للفنانين التشكيليين العرب وهو المعرض الثالث عام 1973 م بإحدى لوحات البيئة وهى تمثل امرأة تخيط ملابسها على ضوء لمبة كاز “.
فى بداياته الفنية لم تخرج موضوعاته ” عن البيئة القطرية بصفة خاصة والخليجية بصفة عامة فرأينا لوحة البحار والخياطة ـ وضاربة الهريس ـ خبازة الرقاق والمناظر التقليدية، إلى أن سافر الفنان يوسف أحمد عام 1972 م إلى القاهرة للدراسة الأكاديمية فى الفنون بالإضافة إلى التربية وفى خلال دراسته فى القاهرة تعرف يوسف على أكثر من تقنية لتنفيذ لوحاته وخاصة فى مجال التربية الفنية وتجاربها مع الخامات البيئية وتوليفها بعضها مع بعض فى إيجاد نغمات مختلفة من ملامس السطوح مؤكدة على أشكاله التى يتعامل معها فوجدنا في لوحاته فى هذه المرحلة السطوح الخشنة والناعمة فأنتج لوحته المميزة أمومة فى أثناء دراسته “والتى قال عنها الناقد الفنى النحات جمال السجينى:
” إننا أمام فنان على علم تام بهذا الموضوع المقدس، وإدراك بعناصره التشكيلية واللونية، وقد عبر الفنان عن الأمومة بأول خاطر يلتصق بالأم وحنانها وجوفها ألا وهو الرحم، فالتكوين العام للأم والطفل له شكل يقترب من البيضاوى وفيه احتواء للطفل أو الجنين فى حنان بالغ ” .
بعد ذلك بدأ الفنان يوسف أحمد يعبر عن ذاته بكل صدق ووضوح، وذلك عندما رسم مواضيع مستقاة من البيئة، والعادات الشعبية، وواقع حياة الناس اليومية فى قطر، بأسلوب واقعى وتعبيرى، ولهذا لم تخرج لوحاته الأولى عن إطار الأحياء القديمة، والبحر، والسفن، وحياة الصحراء.
الالتحاق بجامعة حلوان
إن رغبة الفنان يوسف أحمد فى استكمال دراسته الأكاديمية فى الفن دفعه للالتحاق بكلية التربية الفنية بجامعة حلوان فى عام 1972، وهناك تسنى له دراسة الفن وأساليبه وطرقه ومجالاته، وأضافت إليه دراسته المزيد من الخبرات التقنية المختلفة والأساليب التى ساهمت فى إثراء تجربته الفنية وتكامل عمله الفني أسلوبًا ومضمونًا، حيث اكتسب خبرة لونية وخطية مهمة انعكست على أعماله اللاحقة.
خلال هذه الفترة المهمة من حياته فى مصر تأثر بالحضارة المصرية وتحديدًا بالأهرامات.. وبدأ يتبلور لديه مشروع اللوحة الفنية كعمل فنى مبنى على أسس سليمة وخلفية أكاديمية.. حيث وظف فى هذه المرحلة فى أعماله الفنية ” أهرامًا من الكلمات، الكلمات التى هى كالقش، أو كالهشيم الذى من المفترض أن تذروه الرياح، أو يشتعل، هشيم حروفياته الأشقر يشتعل ويضيء ثم يعتم ويضيء، وهكذا من خلال تقنيات خاصة فى التعامل مع سطح اللوحة، وفى تصغير للحرف يجعله كائنًا يستمد قيمته من تراكمه الكثيف فى اللوحة التى مع ذلك لا تنوء سطورها بحملها الجميل إلا من الأبجديات المكروسكوبية، ومع أن الهرم كمعمار كان قبرًا، وأثرًا، إلا أن الأبجدية والكلام يبقى ولا يفنى مع البشر، هذه الكائنات الحروفية الدقيقة القشية تبقى وتخلد كالأهرامات التى هى أقسى من الحجر، إنها لوحات مشحونة بالحرف، مشعة بالحروف المتراكمة خالقة تجريدًا خاصًا عربيًا أصيلاً إسلامية أو أوروبية يتميز بتلك التجريبية الدؤوبة المستمرة “.
وبدأ ينفذ مجموعة من اللوحات الفنية التى تعكس عمق الصلة بين الفنان ومجتمعه ومحيطه، حيث امتازت لوحاته بحس لونى وملمسى ناعم وخشن، ونذكر من لوحات هذه المرحلة، لوحة ( الأمومة ).
بعد ذلك اتخذ يوسف أحمد من ” البحث والتجريب ” منهجًا له، فبحث عن القيم التجريدية المرتكزة على البعد الفلسفى وأدخلها فى علاقات متنوعة، لبناء لوحة فنية تعبر عن تراثه وأصالته وبيئته المحلية وذلك من خلال استخدام المساحات اللونية المطعمة بمساحات من القماش وعجائن الورق.
بعد تخرجه من جامعة حلوان عام 1976 عاد يوسف أحمد إلى قطر محملاً برغبة شديدة لمواصلة مشواره الفنى فى انجاز لوحة فنية لها قواعدها المتينة.. ترضى طموحه من جانب وترضى الذوق السائد من جانب آخر.. وهذا حفزه لإقامة معرضه الشخصي الأول ” فى متحف قطر الوطني عام 1977 م جمع فيه تجاربه قبل وأثناء وبعد دراسته منذ 1972 وحتى 1977 م يبين فى هذه الأعمال مدى استفادته من دراسته فى القاهرة ونضجه اللونى والتكوينى، كما تضمن هذا المعرض عشرة أعمال باللونين الأسود والأبيض وهى أعمال خاصة نفذت بطريقة الحفر على الزجاج “.
كان اختيار الفنان يوسف أحمد هذه الفترة لإقامة معرضه موفقًا ومهما من حيث التاريخ، سيما أن تاريخ الحركة التشكيلية فى قطر يكشف عن مناخ خال من الوضع الفنى وخاليا من المعارض والتجمعات الفنية، عدا بعض النشاطات التى كان يمارسها عدد قليل من الهواة وطلاب المدارس، لذلك كانت فكرة إقامة هذا المعرض متقدمة ومهمة تاريخيًا فى تلك السنوات الأولى من عمر الحركة التشكيلية فى قطر لأن هذا الاختيار، أصلا، ينم عن مقدرة ويكشف عن حساسية فنية استطاعت أن تقدم عددًا كبيرًا من الأعمال الناجحة قياسًا بالأعمال الركيكة المنفذة آنذاك.
هذا المناخ الذى أحاط بالفنان يوسف أحمد، ساهم بشكل عميق في تشجيعه واندفاعه نحو الإبداع وتجاوز المشكلات والكثير من المعوقات.. فعمل خطاطًا ورسامًا للكاريكاتير بدار العروبة من عام 1974 حتى عام 1976، وبعد عام عمل موجهًا لمادة التربية الفنية بوزارة التربية والتعليم حتى عام 1977، ثم ترك التوجيه وعين رئيسًا لقسم الفنون التشكيلية والمعارض بإدارة الثقافة والفنون بوزارة الإعلام، وأثناء عمله بالوزارة تبنى إقامة مشروع ” المرسم الحر ” لتدريس الفنون. وبذلك يكون الفنان يوسف أحمد من الفنانين الذين ساهموا بإرساء الكثير من قواعد الحركة التشكيلية السائدة الآن فى قطر، وهو حقا واحد من الذين ساهموا بتجذيرها بلا شك.
الخط العربي
فى هذه الفترة ” شغلت ذهن الفنان يوسف الهوية العربية للوحة المعاصرة وبخاصة استخدامات الحرف العربى والشرقى وإمكاناته الهائلة التلوينية على سطح اللوحة وبخاصة استخداماته للأنواع المختلفة من الخطوط العربية، فوجدنا فى هذه المرحلة انتاجات يوسف فى موضوعات الحرف العربى مثل تكوين حروف انتشار الحرف العربى سجاد شرقى ـ بوابة عربية إلى آخر هذه المواضيع.. “.
لم يتوقف يوسف أحمد الذى تأثر بحروفيات وتجربة الفنان العراقى شاكر حسن آل سعيد، واللبنانى وجيه نحلة والمصرى يوسف سيده ،عند هذا الحد؛ بل شق لنفسه طريقًا آخر وهو مواصلة البحث مع الخط العربى من حيث التعبير، والأداء، والتقنية، وبدأ يستخدم خط الثلث، والرقعة، والنسخ، والفارسى، كقيمة تعبيرية فى إطار جماليات الشكل المجردة، بعيدًا عن أى مدلول للخط من الناحية اللغوية، على المسطح الأبيض، بأشكال ومضامين مختلفة.. لكن بصيغ مبتكرة وحديثة، فى إطار تشكيلات بصرية لونية متنوعة.. للتعبير عن رؤيته الفنية المعتمدة على المضمون المتكامل والذى يتصل بالحياة.
لقد عثر الفنان يوسف أحمد على ملامحه ” في الاتجاه الحروفي حيث ( استلهام الحرف العربى، وقدراته التشكيلية والروحية والفكرية، وإمكاناته اللامحدودة فى الانصياع للتشكيل والتكوين؛ والموسيقية الهامة والصاخبة، والظلال المنبعثة من هذا الحرف العربى )… وهنا حط يوسف أحمد رحاله؛… حتى أنه جعل هذا ( الاتجاه ) مشروعه الفنى المستقبلى؛ ليطور الحرف العربى من حيث ( التعبير ـ والأداء ـ والتقنية ) محاولاً أن يجعله معبراً عن هموم الإنسان في كل مكان وزمان ما دام هو يعبر عن القضايا الجذرية لهذا الإنسان؛ وفي ذلك اتجاه بالحرف العربى نحو العالمية “.
كما اشتغل الفنان يوسف احمد على توظيف الحرف بطريقة فنية دون أن يكون مقروءاً، إيمانا منه بأن تلك المرحلة تتطلب رفع مستوى التذوق الفنى والحس الجمالى لدى المشاهد العربى، كما استخدم الحرف العربى المقروء كأساس في العمل الفني وليس دخيلا عليه وذلك فى فترة من الفترات.
لقد شكلت لوحات مرحلة ” السبعينات هوّسا سعى يوسف أحمد إلى التمكن منه بشكل حثيث. وبالموازاة مع ذلك ظل يمارس التصوير التشكيلى، في صورته ” الحرّفية ” الواقعية، مركزا نظره على المحكى اليومى فى واقعيته الصارخة، فجاءت أعماله عبارة عن شخوص وفضاءات يعرفها الفنان حق المعرفة، جاهدا فى التقاطها فى تناظُريتها الانعكاسية، سابغا عليها نوعا من الصفاء، مستوحيا تقنيات… معروفة آنذاك فى الفن المصرى والعراقى. إن هذه اللوحات تنبض بالصمت فيما كانت اللوحات الكاليغرافية تضج بصخب الكلمات. غير أن امتلاكه للصيغتين معا وضعه مباشرة ومن غير سابق إنذار، أمام حدود التخطيط الحروفى وحدود التشخيص الواقعى مهما كانت ايحائتهما وتعبيريتهما. وصرنا نحسه أقرب إلى السياق العربى الذى جاء فيه كتاب شاكر حسن: البعد الواحد، أو الفن يستلهم الحرف “.
” ولأن مدينة الدوحة ظلت دوما مشرعة على الرياح التجديدية الآتية من هنا وهناك، وبالأخص من العراق ومصر ولبنان، فإن مفهوم البعد الواحد لن يتأخر فى أن يجد فى التجربة الوليدة للفنان صدى كبيرا، لأنه أولا يبيح له الخروج من مأزقية الحرفية الناجمة عن استخدام الحرف، ولأنه يفتح فى وجهه آفاق أرحب للتجريب التشكيلى التوفيقى “.
فى هذه المرحلة أسس معارض مجموعة الأصدقاء الثلاثة، ثم عمل بعد ذلك فى تصميم وتنفيذ ديكورات المسرحيات القطرية وكانت بداياته فى مسرحية ” السر المكتوم”.
فى نهاية السبعينات قرر الفنان يوسف أحمد السفر إلى أمريكا لاستكمال دراسة الماجستير فى كلية الفنون الجميلة بميلز ( ولاية كاليفورنيا )، وكان سفره بعيدا عن وطنه لا ليكتسب الريادة وحسب، وإنما ليكون من أوائل الفنانين القطريين الباحثين عن التعلم وعن معنى العمل الفنى، إلى تجاوز الهواية واختيار الفن كأسلوب للرؤية، أو كمجال رحب للحياة والحرية.. وفى كلية الفنون بميلز وجد يوسف أحمد الفرصة مهيأة للبحث عن قيم جديدة تتسم بحرية التعبير تحت لواء التجريدية.
وبما أن الفنان يوسف كان مهتماً بالبحث والتجريب فى التقنية الفنية وذلك لتحقيق جمال خاص ومذاق مميز، فقد رأى أن تقنية التصوير الزيتى غير كافية لتحقيق حلمه فى الوصول إلى ما يريد، فأخذ يبحث عن تقنية أخرى يستخدمها في الرسم، تقنية مرتبطة به وبعالمه… وحيث أن مفهوم البحث والتجريب يشكل محوراً أساسياً فى تجربة الفنان يوسف أحمد، فقد اتجه فى فترة من الفترات إلى تقنية الغرافيك ( الطباعة الحريرية، الحفر على المعدن، الطباعة الحجرية )، حيث يستطيع الفنان استنساخ العديد من اللوحات المطبوعة.. من أصل قالب واحد ( كليشة ) لتكون فى متناول الجميع.
نجحت تجارب الفنان يوسف أحمد فى الغرافيك وأنتج أعمالاً فنية فيها تأكيد على قيم اللون ومعطيات الأبيض والأسود، تلك الأعمال التى يشكل الحرف فيها ركناً أساسياً وجوهرياً فى أعماله، تبعث على الدهشة والانبهار، وتشد المتلقي إليها بإعجاب… لما حوته من عناصر تراثية وحروفية… وهنا نلاحظ خلاصة الدراسة المتأنية للون ـ الأزرق، النيلى، الفيروزى والذهبى ـ ودرجاته ومساحته وشفافيته وعمقه ووضعه…
وفى الوقت نفسه نجد فى لوحات هذه المرحلة، الخطوط المستقيمة والمنكسرة والعمودية والمتموجة تسير باتجاهاتها التكوينية مما يعطي الموضوع موسيقى متدفقة تضيف إلى العمل حسا عاطفيا وجماليا يخدم الفكرة.
فى هذه المرحلة كانت تقام لأعمال الفنان يوسف أحمد المعارض فى العديد من المدن الأمريكية، وبفضله تردد اسم قطر فى الدوائر الفنية الأمريكية، كما نال عن لوحاته عدة شهادات تقديرية وفى أكثر من مكان.
يقول الفنان ( يوسف أحمد ) عن هذه المرحلة وعن الخط العربى؛ الذى يستهويه ويستخدمه كقيمة تعبيرية فى لوحاته:
” الخط العربى قيمة تراثية وحضارية وقومية؛ ولكن ما زال التقديم غربيًا، هناك موضوعات عربية كثيرة يمكن طرحها فى الفن التشكيلى، ولكن ما زالت التقنيات غربية، وأنا واحد من الفنانين التشكيليين العرب الذين يستخدمون الخط العربى ولكن فى إطار غربى؛ ولقد بدأت كما بدأ جميع الفنانين القطريين فى رسم لوحات من الواقع المباشر، ولكن بعد أن درست الفن، فهمت معنى مفهوم الفن التشكيلى الحقيقى فيما وراء اللوحة، ثم أخذت اتجاهًا آخر وهو استخدام الحرف العربى؛ فاستخدمت الخط الثلث والرقعة والنسخ والفارسى، وأخذت فكرة عن كل حرف عربى ولذلك اتجهت إلى توظيف الحرف العربى فى لوحات تشكيلية وفى فترة من الفترات التي مررت بها استخدمت الحروف المقروءة التى يمكن للمشاهد قراءتها، ولكن بعد ذلك قمتُ بعملية استخدام روح الحرف دون أن يكون مقروءًا، فالشكل يعطى شكل الحرف ولكنه يأتي محورًا ومستخدماً بطريقة فنية، كما أقوم إلى جانب ذلك بأعمال الحفر “.
بعد عودته من أمريكا عام 1982 م، انتدب كمحاضر لمادتى تاريخ الفن والتذوق الفنى بجامعة قطر، والى جانب ذلك واصل عطائه الفنى من خلال بحثه المستمر في اللون والخط.
كما اتسعت آفاق لوحاته إلى قضايا تلامس واقع الأمة السياسى، فرسم موضوعات وطنية منها ( صقر الخليج 1983 ) و ( تحت ظل مجلس التعاون )، بأسلوب تجريدى يعتمد العلاقات اللونية المختلفة، مستغلا التضاد اللونى، ليضيف إلى هذه الأعمال التجريدية بعدًا تعبيريًا متميزًا.
وفى عام 1983 أقام الفنان يوسف أحمد فى فندق الخليج بالدوحة معرضًا فنيًا اشتمل على لوحات رسمها ما بين عام 1973 و 1982 وهى تمثل تجربته فى كيفية استخدامه للحرف العربى مع الزخرفة الإسلامية.
فى منتصف ثمانينات القرن الماضى واصل الفنان يوسف احمد، البحث والتجريب فى إطار التجريد التعبيرى؛ و ” طرح موضوعًا يعتمد على ( المعنى التشكيلى ) لا على ( الترابطات والعلاقات البصرية الخارجية ) إذ ينبثق المعنى من ( الأشكال، وإيقاعات الخطوط الناعمة والمجزوءة والرفيعة جدًا؛ كأنه يطور ( التنقيطية ) كأسلوب فى إطار ( التجريدية التعبيرية ). ويشيع بين هذه الخطوط تدرجات من ( الظلال والنور ) لخلق مستويات متعددة من التعبير والدلالة؛ تارة يحاول الربط ( من بعيد ) بين ( التكوين والشكل ) وبين ( قيمة التعبيرية ودلالاته الواقعية ) وتارة يعمد إلى ( الترميز ) بين ( المادى / الحسى ) وبين ( الروحى / الذاتى ) ويعتمد ضمن هذا الأسلوب فكرة مفادها ( أن الشكل والأرضية ) أو ( الموضوع والخلفية فى اللوحة ) يشتركان فى توليد المعنى والدلالة؛ وهو لذلك يلغى كل ترابط ( بين الشكل ودلالاته الواقعية ).
فى نهاية ثمانينات القرن الماضي اتجه الفنان يوسف أحمد ” اتجاهًا جديدًا فى التجريد ( الخطي ) مستخدماً الخط عنصرًا بصريًا لتكوين أشكال ( تجريدية / تعبيرية ) وذلك عن طريق استخدام ( خامة / السكربر بورد ) وعمل خطوط ذات أبعاد مختلفة لإيجاد ( الشكل والأرضية ) بتدرجات ( خطية إيقاعية ) توحى عن طريق ( التفاوت ) أو ( التدريج ) بالحوم والتجسيم؛ ومستخدمًا فى ذات الوقت ( كثافة خطية ) رفيعة أو ثخينة أو متقطعة “.
كانت هذه المرحلة مهمة فى حياة الفنان يوسف أحمد الذي قدم سلسلة ” من الأعمال، التي يسمى بعضها حروفا والآخر تفجيرا للحرف، يدعونا يوسف أحمد إلى الإنصات إلى صخب تحولاته الذاتية، يشرح لنا بالملموس شروخه الداخلية ويدعونا إلى كثافة لم تعوّدنا عليها لوحاته السابقة. هنا بالضبط تولد الحكاية ويغيب المعنى. ولأن الحكاية فى اللوحة لا تولد فقط مع التشكيلات التشخيصية فإنها تُبنى أيضا بشكل تقطيعى وشذرى مع الحلم وتداعياته الخاضعة لمنطق سرى. تعوِّض الحكاية الدلالة من خلال الكثافة التى تنشأ فى السطح. إنها ليست كثافة المواد، فيوسف أحمد لم يكن إلا فى النادر فناناً خاميا، يشتغل على اللوحة وفقا لبناء يجعل المادة مدخلا للتعبير ويراكم فى اللوحة سطوحا تغطى الواحدة منها الأخرى. إنه بالأحرى فنان الآثار والخفة التى تكاد تكون ذات طابع روحى. وهى خفة من وداعة لا عنف فيها، ومن اشتغال ينبنى على الشفافية أكثر من قيامه على الكثافة “.
فى مرحلة التسعينات ركز الفنان يوسف أحمد على الزخرفة، وعلى المعمار الإسلامى أحيانا وعلى التكوينات التجريدية البحتة أحيانا أخرى. وفى هذه المرحلة أيضاً تعمقت تجربته الفنية من خلال تدريسه لمقررات أسس الرسم و تاريخ الفن.. كما أتيح له أثناء التدريس التعرف إلى العديد من الطلبة الموهوبين فى الجامعة و كان من بينهم الشيخ حسن بن محمد آل ثانى الذى أسس معه متحف ( فن المستشرقين ) عام 1992 ومن ثم متحف ( الفن العربي الحديث ) فى قطر عام 1994 .
فى هذه المرحلة قدم يوسف أحمد لوحة فنية ” من خلال الاشتغال على أشكال تتبلور عبر تعاضد الخطوط السوداء أو البيضاء على مساحة تكون بيضاء أو سوداء، فالفنان يمارس عملية القلب على نفسه وعلى الفضاء ليحول الفضاء إلى زمن وهذا الخير إلى فضاء، وفى عملية القلب هذه تتأكد مرة أخرى بلاغة التشكيل لدى يوسف أحمد باعتبارها تعتمد عملية مرآوية تتناظر فيها المكونات وتتواجه. والحقيقة أن هذه التجربة ” اللالونية ” تدخل فى هذه البلاغة من بابها الواسع. فالتركيز والتكثيف والاختزال سمة الفصاحة الفنية ولحمة البلاغة البصرية والبلاغة عموما. من ثم يمكن اعتبار اللونين مجازين للفراغ والامتلاء، وللكثافة والشفافية وللمعنى الناجز والصمت بوصفه سبيل البلاغة إلى التواصل والإبداع “.
” هذه المرحلة كانت انتقالية أى مفصلا ضروريا لاستشراف آفاق جديدة سوف يعود فيها اللون ويتم فيها بناء اللوحة من جديد على مفهوم جديد للممارسة الفنية يستعيد الماضى ويؤسس لما سيأتى هذا الطابع الانتقالى سوف نلاحظه بالأساس فى تلك اللوحات المعدودة التي يتم فيها استخدام المثلث المقلوب إلى أسفل والتى يسميها الفنان ” الهرم المقلوب ” إن عملية القلب تجد مرتعها أيضا فى قلب الأشكال، أى البحث عما وراء المظهر، وتكسير نمطية الأثر، سواء كان أثرا تاريخيا كالهرم أم كان أثرا هلاميا كالحرف، وكأننا بالفنان يبحث هنا أنثوية الوجود وسط كثافة العلامات وتشجيرها. إن جدلية النور والعتمة لا بوصفها أساسا وإنما موضوعا للعمل الفنى تغدو خالقة للأشكال حتى وهي تبتغى الاشتغال على اللاشكل وعلى اللامُتحدد. من ثم يمكننا القول بأن ما خلفته هذه التجربة الانتقالية وراءها فى حياة الفنان، هو توكيد البحث عن الممكنات القصوى للعلامة وللتقشف اللونى. وهى ممكنات إن كانت قريبة إلى الرسم منها إلى التصوير فإنها مع ذلك منحت اللوحة إمكانية التنفس، ومنحت لها إيقاعات جديدة.. “.
قدم الفنان يوسف أحمد فى الألفية الجديدة أعمالاً فنية بتقنيات جديدة ومختلفة حيث ركز فيها على العلاقات اللونية المتجانسة على سطح العمل وذلك من خلال توظيف الحرف وضمن مساحات لونية عريضة تتقاطع بشكل أفقى وعمودى. ويلاحظ فى هذه الأعمال التجريدية ارتباطها بالأعمال الفنية السابقة من حيث الشكل والمضمون.
إن المتتبع لأعمال الفنان يوسف الفنية يجد أن هنالك تحولات واضحة لديه.. وأن كل تجربة يقدمها تنبثق من تجربته السابقة.. وهذا ما نلاحظه فى التجربة البصرية الموسومة بـ ( اللحظة المتحركة )، حيث قدم الفنان يوسف احمد من خلال هذه التجربة التى عرضت عام 2007 لغة جديدة لا حروف فيها، وهذه التجربة التى أتت بعد خبرة فى البحث والتنقيب عن التقنيات الفنية تختلف عن التجارب السابقة، سواء فى الأسلوب أو التنفيذ، أو فى التقنية الفنية التى يريد منها أن تقربه من كونه يكون هو وفنه فى لحظة حوار وتأمل وانسجام كونى.
فى هذه التجربة طرح ” الفنان مفهوماً واسعًا لعلاقة الفنان بفرشاته، هذا اللون الذى يحاول الفنان دومًا خلق تجانس الكائنات من حوله فى محيط من المتعة والدهشة، أتت تجربته أسلوبًا جديدًا ومغايرًا عما طرح من قبل بل إنه عمد إلى تغيير أسلوبه كليًا، وفى سؤاله لماذا عمد إلى تجاوز الحروفية التى ساهمت فى بنائه الفنى أجاب بأنه كانت فترة وعدّت وأرى أننى الآن أقدم أعمالاً أكثر نضجًا ووعيًا “.
” وقد شكل التشكيلي يوسف أحمد من قبل علاقة وثيقة مع ” الحروفيات ” التى شكل بها عمرًا فنيًا ليس بالقصير، بل إنه اشتهر بها شهرة واسعة، وقد يسأل سائل هنا: لماذا أراد تجاوز الحروفية أو نسيانها قليلاً.. ليكون الجواب برأيى أنه لم يتجاوز ” الحروفيات ” أو يستطيع نسيانها بل إنه على العكس استفاد من ” الحروفيات ” التى اشتهر بها فى أسلوبه الجديد، لتفرز له شكلاً ولونًا آخر من أشكال وألوان الفنون، ولعل زيارات الفنان المتعددة والمتكررة لعواصم الفن الأوروبية ساهمت أيضًا في تلاقح كل هذه التجارب التي انصبت في قالب فني استفاد منه يوسف أحمد لينهل منه ويشكل أسلوبه الجديد ويطرح أفكاره التي حملها معه طوال مشواره الفني الممتد الذي أصبح أكثر نضجًا وفهمًا كما يقول، فها هو سعى نحو كتابة نصه البصرى بما يمليه عليه عقله الباطن من رؤى ومنطلقات شأنها العلو والسمو رفعة بما أبدع “.
كما نجح الفنان يوسف أحمد،الذي أطلق على هامش معرضه في عام 2007 أول مجلد يحتوي على أعمالهالتشكيليةالتي تبرز أهم مراحل مسيرته عبر ثلاثين عاما، فى تأكيد ذاته وذلك عندما قدم تجربة متجددة أبقت لوحته التجريدية التأملية منفتحة على نفسها.. لكن ما يميز هذه التجربة بروز عنصر جديد في العمل الفنى، وهو الموسيقى اللونية الناتجة عن تناغم الألوان على سطح اللوحة، كما نجد أن حجم اللوحة قد اتسع وكبر، بالإضافة إلى استخدامه للكولاج ( القص والتلصيق )، استخداما تكوينياً ولونياً، مما يدل على مقدرة تكوينية وحس لونى وملمسى، وهذا جعلها تثير الاهتمام والإعجاب عند المتلقى.
وقد نجح الفنان يوسف أحمد في تجربته الفنية تلك بتقديم تجريد غنائي يعتمد على الموسيقى اللونية حيث نلاحظ الخط العربي غائرًا وبارزًا ضمن العجائن المستخدمة على مسطح اللوحة، لم يكتفي الفنان يوسف احمد بالتجريب باللون بل خاض في عام 2008 تجربة جديدة فى التعامل مع حديد الفولاذ ( المنحوتات المصنوعة بالفولاذ )، وشارك فى هذه التجربة فى معرض اسطنبول الدولى حيث عمل على توظيف الحديد فى خدمة الحرف العربي، لذلك لم يخرج الفنان يوسف أحمد عن موضوعاته السابقة سوى بالتقنية حيث عمل على تحويل الفولاذ إلى قطع حروفية متعددة تعكس رؤيته للحرف العربى من خلال أشكال ثلاثية الأبعاد تعتبر غاية فى الروعة والجمال.
وفي نفس العام عرض الفنان يوسف أحمد ستًا من لوحاته الحروفية في معرض ” آرت دبي 2008 ” لوحة منه حملت عنوان ” حرف السين “، ولوحتين منهما حملتا عنوان ” التسبيح “، وثلاث لوحات تحت عنوان ” حركة الحروف “.
وحول هذه المشاركة يقول الفنان يوسف أحمد: ” هذه اللوحات تتمحور حول الحوار البصرى العميق الذى يميّز الحرف العربى، مستخلصا منه الطاقة الفنية العالية الكامنة فيه، التى شكلت عرضا مغايرا للصورة البصرية التى اعتدنا عليها للحرف العربى “.
في عام 2012 خاض الفنان يوسف أحمد تجربة جديدة حملت عنوان ” تحت ظلال السعف ” وقد اعتمد الفنان فى هذه التجربة على اللون الترابى التى تثير فى داخله كما يقول ” السكينة والاطمئنان، فضلا عن أنها منسجمة ومتناغمة مع عنوان التجربة ” تحت ظلال السعف ” الذى يوحي بمشهد جلوس حبيبين على سجادة ناعمة، تحت سعف النخيل وضوء القمر، وقد استخدمت بعض الكلمات مثل ” لحنانك ” و ” لقلبى ” فى اللوحات حتى يبحر خيال المشاهد فى معانيها الجميلة “.
فى عام 2013 قدم الفنان يوسف أحمد تجربة حملت عنوان ” أحرف قمر الحب المكتمل ” وهى مستوحاة من القصص التى كانت تروى على الفنان يوسف أحمد فى طفولته عن العلاقة بين أهل الصحراء والقمر، كونه دليلاً أرضيًا فى عتمة تخلو من تضاريس، وتقترب من المتاهة.. وضمت المجموعة التى عرضها فى مدينة الدوحة ست عشرة لوحة فنية جسد فيها الفنان يوسف حبه للقمر عن طريق التداخل الحروفى مع رسومات القمر المكتمل والتى تنم عن روحه العاشقة لكل ما هو جميل فى هذا الكون المحيط..
” فبين الغائر والبارز نلمح قلب الفنان النابض الحى الشاب يغنى ( الحب كله ) أو ( أنت عمرى )، إنها لحظات السكينة الإبداعية وامتطاء فرص اللحظات النقية فى سفر الصفاء البصرى.. فمن لدن تلك العجائن التى تنعش الذاكرة الحية المبللة بعطر تاريخ زمن الإبصار الحى هنا يوسف أحمد يثبت الزمن بتلاعب كمحترف بالتاريخ، إبداعي وتثبته عند لحظات رائعة من صفاء ذهنى عجيب يثبت الزمن عند القصبجى ( الرايق ) وبليغ حمدى المنفعل والموجى الهادئ الطباع، وعند حنجرة أم كلثوم القوية العبقرية فى مطلع الأغنية التى يرسمها يوسف دون شعور مسبقًا أو تحديدًا مُدركًا، على رصيف اللوحة وفى جزء من الدائرة دائرة ضوء القمر يرسم الفنان مطلع الأغنية قوي بارز يوازي صوت الست وهو شعور متخذ لم يقصده الفنان مباشرة لكنه خرج من منطقة وحدانية محفورة فى قلبه المتيم عاشقا وعقله العاشق غراما، حين يثبت يوسف زمانه وزمان المتلقى لا نجد أمامنا إلا التحليق معه فى فضاء الحلم وسفر الأمل على بساط الريح اللون الذى يشبه الأصفر لكنه ليس أصفرًا.. يشبه الذهبى لكنه ليس ذهبيًا انه لون من فضاء قمر عربى اكتمل كالبدر وأنار عتمة الزمن من حوله وكأننا نسمع شعر عنترة ملونًا بلون الزمن وحداثة الإبداع كما عند أهل الإغريق.. “.
وعن سبب توظيفه للقمر فى هذه التجربة قال الفنان يوسف احمد:
” أن القمر بالنسبة لأهل الشرق ذو دلالة ومعان كثيرة خاصة لمن يعيش قصة حب ورغم بعده عن الأرض فإننا دوما نراه قريبا ونتخيل دائما في أيام اكتماله العديد من الأشياء بداخله مثل صورة الحبيبة أو بيت من الشعر أو الأغاني التي نحبها ودائمًا ما كنت أطالع القمر على نغمات أغاني السيدة أم كلثوم التي كانت ملهمتى فى العديد من الأعمال مثل أغنية أنت عمرى “. كما أكد ” أن كل القصص المرتبطة بالقمر والبر والبحر، التى سمعتها فى طفولتى، أثرت فى طريقتى فى التعاطى مع لوحاتى “.