الفنانة الإماراتية د/ نجاة مكي : فارســة النغـــم واللــون..
غازي انــعــيــــم
تعد الفنانة، د. نجاة مكي التي عاشت مشوارها الفني، من أول درجات السلم حتى قمته وأنتجت الكثير من اللوحات التعبيرية والواقعية والتجريدية المليئة بالانفعالات الوجدانية والعاطفية؛ من الرعيل الأول في الفن التشكيلي الإماراتي، الرعيل الذي دافع عن فنه بكل الوسائل.. وهذه الوسائل الايجابية ساعدت الفنانة نجاة مكي بأن تحفر لنفسها بالإرادة والتصميم والتحدي، مكانا بين صفوف الفنانين الإماراتيين والعرب الكبار، مقاماً مرموقًا، كنحاتة، ومصورة، وباحثة في التقنيات الفنية.
كما استطاعت الفنانة مكي من خلال مشوارها الفني الذي اكتمل بأرقى الدرجات العلمية، أن تضع بصمة مميزة؛ لها خصائصها الأسلوبية المتفردة في عالم التشكيل؛ وصل إلى قمة الإبداع والنجاح عندما خاطبت من خلال لوحاتها التي تفوح من ألوانها رائحة الحنة والزعفران والورس.. ( 1 ) النابعة من قلبها، مكامن النفس عند المشاهد، الذي قادته إلى البساطة، والاختزال فيما رسمته من عناصر على سطح لوحاتها.. مثل: ، الدائرة، والبئر، والمرأة .
ولم يأتي تركيزها على المرأة دون الرجل على أنه تحيزًا للمرأة وفي ذلك تقول الفنانة نجاة: ” ليس في الأمر تعصبًا ولكن المرأة قادرة على تحسس مشاكل المرأة. بريشتي أعبر عن همومها وأحزانها وأفراحها. أتناول كل جوانب حياتها إذ يضيع التوازن إذا تناولت جانبًا وتركت جانبًا آخر. أفراح المرأة كثيرة واكبر فرحة عندها هي في إسعاد المحيطين بها. يكفي أن يبتسم لها طفلها ليظهر الفرح على وجهها. أما الأحزان فكثيرة وانأ أرسم المشاكل انطلاقًا من هموم المرأة في مجتمعنا… “. ( 2 )
لذلك فالمرأة لها حضور مباشر إنها ” تبقى كشجرة نخيل باسقة تضرب جذورها في أعماق الأرض، متفائلة صبورة مكافحة محبة، فهي اللون بكل ما فيه من قوة وكثافة وعنفوان، وهي الخط بما يملك من إيقاع وامتداد وشموخ، تنظر إلى المدى، تتطلع إلى المطلق، فكأنها الظل الذي يؤوي إليه في قيلولة الصيف، وهي النور الذي يشع، فيمد العالم بالمعرفة.. من خلال هذه العناصر يكمن حضور المرأة بقامتها الشامخة في رمزية أسطورية “.( 3 )
إنها مصورة المرأة، المرأة المحاطة بالتفاؤل والأمل والحياة، وهي هنا، لا ترسم إلا المرأة ـ الإنسان ـ ولا تضيف إلى لوحاتها إلا القليل المحدود من المساحات الطبيعية، وهذه المساحات التي أخذت مساحة لا باس بها في تجربتها التي بدأت في العقد الأول من الألفية الجديدة، تمثل كافة فصول السنة وتتصف بالغالب بالرحابة والاتساع على مد النظر… وهي في هذه اللوحات تؤكد أنها تخطو، خطوة أكبر من حيث السيطرة على أدوات التعبير، والتغلغل إلى ما وراء السطوح، والأشكال، لمعايشة الأعماق والجوهر.
والمدقق في هذه اللوحات يخال له أنه يسمع هسيس الريح يهمس إلينا بشتى المعزوفات الموسيقية، أو يشتم رائحة التراب أو العشب أو يشعر بالشمس التي تبعث بأشعتها على الرمال المنبسطة بالذهب، أو على شاطئ البحر.
وكثيرا ما تبسط الفنانة نجاة مكي في فضاء لوحاتها ـ الخلفية ـ بعض الزخارف، وهي لا تختار هذه الزخارف اعتباطيا بل لما لها من جذور ضاربة في التاريخ والوجدان الشعبي العربي الإماراتي.
هكذا تسترعي لوحات نجاة مكي، على مدى أكثر من ثلاثين عاماً الانتباه إليها بولائها للإنسان والتراث، وللبيئة التي ولدت وتربت في أحضانها، سواء من حيث الموضوع أو التكوين أو اللون المستخدم من جانب، أو بإيمان فنانتنا بالأرض التي نشأت فوقها والتاريخ الحضاري العميق الذي يشكلها من جانب آخر.. لذلك جاءت لوحاتها تنم عن ارتباط النشأة والعلاقة بينها، وبين تعبيرها الفني.. فكلما التصق الفنان ببيئته القديمة جاء تعبيره أكثر صدقاً، وأقرب إلى الواقع، وإلى النفس في آن واحد؛ وهذا ما جعل الفنانة نجاة مكي، تقف على أرض راسخة، دون الإقلال من الأصالة والمعاصرة في فنها..
ولنجاة مكي موقف، ورؤية، ونظرة، بموضوع التراث، والبيئة القديمة.. وهما بالنسبة لها بمثابة إطار ايجابي، أمكن لها أن تحقق من خلالهما، مدخلا موضوعيًا لتجربتها الفكرية والفنية، ومنحتها مواد، وخامات، وعناصر، ومفردات، مناسبة للتعبير التجريدي.. ومتوافقة مع ما يوافق ويخالج نفسها من أحاسيس وانفعالات.. ولعل المواد التي استخدمتها، توضح جوانب متعددة لهذا الاتجاه.. لكن التعبير المباشر لعناصرها، يفصح عن انتماء الفنانة للتراث، والبيئة التي خبرت معالمهما.. فالذي ” يبحث عن التراث يجب أن يغوص ويأخذ من روح التراث ويطور الفكرة القديمة فيرسمها بصورة تختلف عن البدايات. غيري رسم التراث وأنا أرسم بالتراث. أحببت أن أجرب مواد جديدة في رسمي للمرأة من أشياء كانت تستعملها هي في الماضي، فانفردت في الإمارات بهذه الفكرة ورسمت بالحنة والزعفران والورس.. هذه هي نظرتي الشخصية لنقل البيئة القديمة إلى لوحاتي. لقد نقلت المواد الحية ولم اكتف بالصور “. ( 4 )
من خلال هذا التشخيص توضح الفنانة صلتها بالتراث والبيئة، وارتباطها فيهما كأساس عميق لتجربتها الفنية، لأن البيئة والتراث في أعمالها تبحث عن التعبير المعاصر لتأكيد القيم التراثية والبيئية، والحفاظ على الشخصية، ولكن التراث والبيئة في أعمال نجاة مكي، تبقى أساس تجربتها التصويرية وأساس خصوصيتها الأسلوبية، التي تحققت نتيجة تجريبها وبحثها.. وتأملها الدائب للبيئة وتشبعها بالتراث.. وهذا جعلها تنغرس بشكل ايجابي في الفن الأصيل المستوحى من تراث الأجداد وفكرهم وفلسفتهم، وبأسلوبها الذي لفت إعجاب واستحسان الناس.. أبدعت شخصيتها المتميزة بخصائص منفردة عن أقرانها من الفنانين.
لقد قطعت نجاة مكي دربًا طويلاً في البحث عن خصوصيتها عن هويتها، ولم يكن ذلك الدرب سهلاً، أو مفروشًا بالورود كما يقال، لقد كان الدرب الفني لنجاة صعبًا، سيما أن بعض شرائح المجتمع كان لها رأي بالفن، بالإضافة إلى ذلك، أنها أول فتاة في الإمارات تتوجه لدراسة الفن التشكيلي في الخارج، غير أن ذلك الصعب هو الذي أعطى الفنانة نجاة مكي الإصرار والحافز بالبحث والتجريب والاستمرار بالفن من أجل إثبات الذات..
فمن هي فنانتنا؟
ولدت الفنانة نجاة مكي في دبي عام 1956، لأب يملك دكانًا لبيع العطور والأعشاب الطبيعية المختلفة … وكان لهذا الجو المليء بالألوان تأثير كبير على نجاة التي أخذت من والدها سحر اللون الذي ظهر في خرابيشها الأولى على الورق في سن السابعة، وكانت ألوان الأعشاب الطبية التي يعرضها والدها تشدها ” بألوانها وتناغماتها.. مثلا درجات الأصفر أو البني.. الاخضرار الموجود في الأعشاب كالزعتر والريحان.. الأزرق الموجودة في ( النيلة ) والورود.. الأبيض الناصع في سكّر النبات والشفافية الموجودة في قطع ( الشبّ ).. كنت أتخيل المحل علبة ألوان وصندوقاً مليئاً بالأشياء العجائبية.. إذ انتقلنا إلى الأشكال أرى الشكل الدائري، المربع، المثلث.. بعض الأعشاب مثل الحجارة تكون كتلاً غير مستوية.. هلامية.. قد أراها شكل إنسان أو حيوان أو قطة.. “. ( 5 )
وفي بيت جدها الكبير حيث كانت تعيش، ترعرعت على سماع الحكايا والقصص من نساء الجيران اللاتي ” يحضرن إلى والدتها للزيارة، وكانت تجلس معهن لتسمع الحكايات الحقيقية والخيالية، الجنيات والملوك والثعبان الذي يجلس على بيضة من ذهب، حكايات الغوص وصعابه، الذين عادوا منهم والآخرين الذين فقدوا، حكايات كثيرة كانت تعبر عنها في رسم تخيلي كما لو أنها تراه ماثلا ً أمامها “. ( 6 )
وعلى هذا الصعيد تقف نجاة مكي على النقيض من تجارب جيلها.. لأنها تبدأ بالعودة إلى الماضي إلى ملامح القصة المستمدة من بعض الحكايات… ويمكن القول أنها قد استمدت مادتها الفنية من تلك الحكايات.. وحاولت من خلال لوحاتها أنة تمنح الإنسان قدرة على التعبير.
في كل سنة من حياة نجاة مكي، كانت الرؤية البصرية تتطور.. وهذه الرؤية هي انعكاس لبيئتها المحلية، فهي تعيش بالقرب من البحر، وترتبط معه في علاقة حميمة، حيث كانت تمتع عينيها برؤيته كل يوم أثناء ذهابها وعودتها بعد شراء بعض الحاجيات… وفي طريقها كانت تراقب وتتأمل ” النوارس بحركاتها الصاعدة والهابطة وطرق تناولها طعامها، ألوانها وانعكاس الضوء عليها، يكسبها لونا فضيا، إضافة للونها الأبيض الأصلي. شيء آخر كان يشدها للبحر، حركة الموج والألوان التي تخلفها، كذلك ظاهرة المد والجزر التي كانت لا تجد لها تفسيرًا، إنما تشدها وتجعلها تطيل تأملها “. ( 7 )
كما كانت عندما تمر نجاة في الطرقات الضيقة أو الحواري، تتخيل فيها أشخاصًا وأشباحًا متطاولة حتى السماء وكأنها خارجة من أسطورة ما.. خاصة عندما تتحرك أطيافها مع الريح، ويصدر صوت غريب يتدفق من بين تلك الجدران والفراغ والسماء ومخيلتها.. وأحيانًا كانت تحب العبور في هذه الطرقات لتراقب وتتابع ظلها لما فيه من تأثير جميل، وكانت تحاور ذلك الظل.. ومع غروب الشمس يتطاول الظل إلى مالا نهاية، فتصبح عملاقة من العمالقة.. وهي عندما تتذكر حكايا أمها والجدات.. تضحك لأنها صارت أحد العمالقة.
بعد ذلك كانت تذهب نجاة مكي ” إلى العبرة لتراقب الناس الذاهبين أو القادمين، تراقب ملامحهم وأزياءهم، وأكثر ما يشدها، الألوان المختلفة والصارخة والمتدرجة لعمائم فئة السيخ من الجالية الهندية، وطرق احتفالاتهم بالأعياد حيث يرشون أنفسهم بألوان مختلفة من البودرة ثم يرشون الماء على بعضهم البعض، لترى الألوان زادته من زيارات ” عائشة ” لبيتهم حيث كان صوتها جميلاً وتدق على الطار، وكان يستدعيها أهل البستكية الأكثر غنى ورفاهية لتكون معها نجاة تراقب زخارف هذه البيوت وألوان ملابس النسوة هناك “. ( 8 )
كانت عائلة نجاة تسكن بالقرب من السوق الكبير المحاط ببيئة معمارية تمتاز بالزخارف الجبسية المتنوعة التي تزين جدران البيوت وكذلك الأبواب، وكانت تسأل نفسها: ماذا يحدث وراء هذه الجدران، وكيف ستفتح الأبواب وعلى ماذا؟
وعندما كانت تذهب إلى السوق برفقة والدتها وشقيقتها الكبرى كانت نجاة تراقب بائع الأقمشة ” وهو يبسط القماش ليريه للزبائن، وكانت تنبهر بالألوان والزخارف المختلفة، طريقة بسط البائع للقماش، انعكاس أضواء المحل عليه، واختلاف ألوانه في الظل، كل هذا كان يخلق داخل نجاة شيئًا مبهما في ذلك الوقت، يدفعها حين العودة إلى البيت إلى إمساك أي ورقة متوفرة ( وغالبًا ما كانت أوراق الأكياس البنية المستخدمة في ذلك الوقت ) حيث تفرغ فيها ما اختزنته ذاكرتها من رحلة التسوق، أحيانًا كان يتوفر ألوانًا، وفي معظم الأحيان كانت تستخدم الفحم الباقي في موقد التدفئة، كانت تحتفظ ببعض ما ترسمه وترمي الباقي، إذ إن المهم عملية التفريغ للمشاهد المكتسبة “. ( 9 )
هذه المشاهدات انعكست على رسوماتها في مرحلة الدراسة الأولى في مدرسة خولة بنت الازور في دبي، وخلافا للأكثرية من زميلاتها، أظهرت نجاة مكي في مختلف مراحل الدراسة براعتها الفنية، وتفوقها في مادة الرسم، وبدعم وتشجيع من معلماتها، فرضت نجاة مكي حضورها في المعارض الفنية التي كانت تقام على مستوى المدارس في دولة الإمارات.
البدايات
في المرحلة الثانوية، كانت بداية الانطلاقة للفنانة نجاة مكي ضمن مجموعة من الفنانين الشباب، ومجموعة من طلبة المدارس الثانوية، عندما وقع الاختيار على ثلاثة لوحات لها للمشاركة في المعرض الذي نظمته وزارة الشباب والرياضة عام 1975، والذي توج بفوزها بإحدى جوائز المعرض، ولقيت لوحاتها من منظم المعرض الفنان عبد الرحمن زينل والجمهور التجاوب والمدح الذي لم تتوقعه، هذا النجاح دفع ( نجاة ) التي تعرفت على الفن في المرحلة الثانوية، واكتشفت قدراتها على التعبير الفني، إلى الاستمرار بالإبداع، وشجعها على تقديم ما هو جديد مرة أخرى في المعارض اللاحقة.
شكلت هذه الجائزة بالنسبة لـ ( نجاة مكي ) التي استوعبت دروس الحياة ومعارفها.. حافزا لمتابعة مسيرتها الفنية بعد حصولها على شهادة الثانوية العامة، وصقل موهبتها بأن تتعلم أصول الفن من بداية البداية، أي دراستها للأصول الأكاديمية، حتى تتمكن من أسرار الصنعة التي تجسد بها مشاعرها وأفكارها.. وهنا جوبهت برفض الأهل للفكرة، كونها فتاة ستعيش في الغربة بعيدة عنهم وهذا مخالف للعادات والتقاليد، وكونها ستدرس الفن، وهذا الأمر لم يكن في حسابات العائلة، وساهم تدخل المسؤولين في وزارة التربية والتعليم بإقناع عائلة نجاة مكي بدراسة الفنون الجميلة، ورغم أن هذا أمر صعب الحدوث بالنسبة لعائلتها مع ذلك تمت الموافقة وسجلت الفتاة نجاة مكي في تاريخ الإمارات، بأنها الفتاة الوحيدة التي أرسلت من قبل الدولة في بعثة دراسية خارج الدولة في تلك الفترة.
في عام 1977 سافرت نجاة مكي إلى مصر والتحقت بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة، ( قسم النحت )، وأتاحت لها الدراسة الأكاديمية في الكلية، أن تزيد من خبراتها الفنية، وخصوصا في السنة الأولى التي درست فيها إلى جانب المنظور والتشريح وتاريخ الحضارات والفنون، النحت والتصوير والتصميم والعمارة.. كما أضافت الدراسة إلى تجاربها العديد من المعلومات الفنية والثقافية.. وفتحت أمامها أبواب الفن الحديث على مصراعيه.
وأثناء دراستها وأوقات فراغها كانت تقوم بزيارة إلى المتاحف المفتوحة والمغلقة وصالات العرض للتعرف عن قرب على تجارب الفنانين وروائع الفن عبر التاريخ.. كما تأثرت بتجارب النحاتين الكبار في مصر، أمثال: النحات محمود مختار، وجمال السجيني، والخزاف سعيد الصدر، وكذلك الرسام محمود سعيد، وحامد ندا.
بعد تخصصها في السنة الثانية، أنتجت الفنانة نجاة مكي، أعمالا نحتية بمواد وتقنيات متعددة، مثل ” الصلصال، والخشب، والجبس، والحجر، والمعادن المختلفة.. “.و شاركت فيها بعدد من المعارض مع زملائها في القاهرة: منى الخاجة وعبد الرحيم سالم وعبيد سرور.
والمدقق في هذه الفترة يشعر بأن الفنانة كانت بحاجة إلى تمتين دراستها وخبراتها وذلك قبل التفتيش عن أسلوب شخصي تطبع به أعمالها النحتية بطابع خاص.
بعد تخرجها في كلية الفنون بالقاهرة عام 1983، عادت نجاة مكي إلى وطنها لتشارك في النهضة الفنية وفي التعليم من خلال قسم الوسائل التعليمية كمشرفة فنية في وزارة التربية والتعليم، وكان من مهامها أيضًا تصميم الملصقات والبطاقات وشهادات التقدير بالإضافة إلى إقامة دورات لمدرسات التربية الفنية في كيفية صناعة الوسائل التعليمية وصناعة الألعاب مع التركيز على دمى مسرح العرائس.
وبما أن نجاة مكي تدرك المسؤوليات الواقعة على عاتقها كفنانة في المجتمع، وتؤمن بان للفن دورًا اجتماعيًا، ولهذا السبب ساهمت الفنانة نجاة في التنمية الفنية والثقافية عندما أخذت على عاتقها تشجيع الشباب من الفنانين وتعليمهم أساسيات ومبادئ الرسم والنحت. لذلك لم تقف نجاة مكي عند إنتاج الأعمال الفنية فقط، ولكنها أرادت أن تفعل الجمعية النسائية في دبي ومسرح الشباب القومي للفنون من خلال تدريس الفنون وتنظيم الندوات وإقامة المحاضرات والورش الفنية للأطفال.
وكانت الفنانة نجاة مكي تدرك ” جيدًا الدور الاجتماعي للفنانة حيث تتبنى في بعض أعمالها التدفقات الناتجة عن مشكلة المرأة في المجتمع حيث تقول: الفن بالنسبة لي أهم من اللبس أو ديكور البيت والطبخ، لست جزءا من هذه التصورات ولن أكون أبدًا “. ( 10 )
لم تمنع الوظيفة نجاة من مواصلة مشروعها الفني، فبدأت بصناعة التماثيل الجبسية، لكنها رأت أن العمل في هذه التقنية غير مناسب وانه يفسد مع الوقت، كما أن التماثيل الجبسية معرضة للكسر ومادة الجبس لا تدوم.. فاتجهت إلى الحجر والخشب والمعادن المختلفة ومخلفات البيئة.. وبدأت تنفذ أعمالا فنية بسيطة وبأحجام صغيرة بالأسلاك وبلحام الحديد.
وبنظرة إلى ما أنتجنه من أعمال نحتية، نلاحظ أنها تمتاز ” بتعبيرية جمالية، إذ نجد من خلال أعمال الجبس والحجر انسيابية الخطوط وشاعريتها ورقتها مع التركيز على التكوين العام بشكل نحت بارز، كما نجد نفس الخطوط في الأعمال المشكلة من المعادن وبنفس الشاعرية رغم قوتها وصلابتها وارتباطها بالكتلة والفراغ وعلاقتهما ببعض بشكل موضوعي مرتبط ارتباطا وثيقا بالتوازن العام للعمل الفني ككل، ويبرز من خلال هذه الأعمال الهم الوحيد والمهم وهو ما تحاول أن تصوره الفنانة في كل أعمالها الفنية ألا وهو موضوع المرأة، إذ نجد للمرأة الدور الأعظم في أعمالها، والمرأة هنا دائماً خليجية بهمومها اليومية والحياتية بخجلها وطموحها.. “. ( 11 )
و ” إذا تعمقنا بالمعادن التي شكلت بها بعض أعمالها نجد أنها وضعت بدل العينين ” صواميل ” والفم دائما دائرة مغلقة أي أن المرأة الخليجية تعاني من عدم القدرة على إبداء الرأي وهي مهمشة حتى بالنسبة لأمورها الخاصة لتجد من يتكلم باسمها، كذلك نجدها تضع مكان العباءة التقليدية شبكة معدنية رقيقة خفيفة تبرز كامل الوجه، وهنا رأي خاص يتعلق بالمبالغة بالحجاب الذي حد من عطاء المرأة ومشاركتها الفعالة وقيامها بدورها الكامل في المجتمع “.( 12 )
وهنا ” لا بد أن يذكر المتأمل تجربة مكي ما منحته الخامات المتعددة للنزعة التحررية، التي جعلت نجاة تتقلب في مغزى الرحيل بين الحجر والخشب والمعادن والطين والجبس. ومع النعومة المتناهية التي شكلت القوة الرئيسية، لنحت لغة تخصها في التعامل مع الفراغ في الأعمال النحتية، التي انكفأت على نفسها لتستحيل إلى مسطح ( بارز ـ غائر ) بدت مكي وكأنها تخلص مشروعها منذ البداية من حكايات التمثيل لتحوله إلى مشروع حواري كانت المرأة أهم أسراره، وخاصة المرأة في الخليج العربي. إذ طرحت أسئلتها بصريًا، بحساسية المفهوم وتنافر المعاني مع واقعها، وعنف قياس النتائج على ما لا يقاس، متبعة تجهيزًا تعبيريًا للأشكال يربط الحكاية بتحولاتها الشكلية واللونية “. ( 13 )
في هذه المرحلة تخلت عن النحت لصالح اللوحة، وبدأت بعد أن رسخت أقدامها في الساحة التشكيلية الإماراتية حتى وصلت إلى درجة وضعتها في طليعة الفنانين الإماراتيين.. برسم اللوحة تلو اللوحة، وفي كل لوحة ثراءً في اللون والشكل والنغم، كما وظفت الفنانة في هذه المرحلة على مسطحات لوحاتها إلى جانب اللون وحضور الإنسان، تقنيات جديدة مثل: عجينة الورق والخيش والشاش الطبي لتعطي معاني أجمل وإحساس اكبر للوحاتها التي تسيدت مسطحاتها الأشكال الإنسانية.
هذه الأشكال كانت ” واضحة من الناحية الشكلية ولكنها مبهمة من ناحية التفاصيل.. فلا توجد ملامح… وهذا يعطي للشكل الإنساني شمولية تفي بالقصد التعبيري… وهذا ما تريد الفنانة إبرازه وإعطائه جزء من الأهمية الموضوعية.. غالبًا ما تكون ألوان هذه الأشكال الإنسانية سوداء أو غامقة اللون مع وجود الخلفية المضيئة.. مما يبرز هذه الأشكال ويجعلها أول ما ينظر إليه المتلقي.. ويشد انتباهه كما أننا نجد في الخلفية خطوطا متشابكة ومتقاطعة… وبألوان كثيرة مما يوحي بالصعاب والمشاكل التي يواجهها الشكل الإنساني المتواجد داخلها… أحيانًا نجد أن اختصار الشكل الإنساني أصبح كبيرا ليصل إلى درجة من التجريدية التعبيرية وفي أحيان أخرى يصل إلى التجريد الكامل في شكل خطوط عريضة متراقصة في طبقة من الألوان الحارة الصريحة… كما نجد في هذه المرحلة… أن ” نجاة ” تخلت في معظم الأحيان عن الشكل التقليدي للوحة المربعة أو المستطيلة… واستغلت الشكل الدائري للعمل الفني دليلا على الاستمرارية والاتصال… وهذا يربطنا بأعمالها النحتية ” الريليف ” أو شكل الميدالية… وكل هذا منفذ بألوان متضادة يبرز من خلالها الحس اللوني والجمالي لدى الفنانة “.( 14 )
تجربة بصرية مختلفة عن السائد
في عام 1987م، قدمت الفنانة نجاة مكي من خلال معرضها الذي أقامته في صالة نادي الوصل بدبي أعمالا فنية نحتية وتصويرية منفذة بألوان فوسفورية، وعرضت هذه الأعمال في غرفة مظلمة لكنها تركت مصدر ضوء خاص للألوان الفوسفورية، لتعطي للمشاهد تجربة بصرية مختلفة عن السائد في مشاهدة طريقة عرض لوحاتها الفنية في الغرفة المغلقة أو المظلمة، من خلال الإضاءة.. وهنا وضعتنا الفنانة أمام عملية لونية ذكية للغاية، عندما عمدت ” إلى التلوين باللون الفوسفوري المشع، تاركة اللون المنطلق من أجواء العتمة يلعب دوره الأساسي، أي بمعزل عن التفاصيل التشكيلية الأخرى، لذلك فإن اللوحة هنا هي لوحة تنتمي إلى التجريد الغنائي، حيث الإسقاط الكامل للحالة التصويرية المباشرة كل ذلك لصالح الوعي الباطني المندلق من جوف العمل ومن روحه التأليفية الخاصة “. ( 15 )
هذه التجربة الجريئة والجديدة.. لفتت الأنظار، وشدت المتلقي بشكل اكبر، إذ بالإضافة إلى اللغة الفنية والجمالية وجدنا التجربة حاضرة بطقوسها وجمالها وعبقها، من خلال خطوطها ونقاطها وألوانها الفوسفورية والحارة والحادة بصريا، مثل: الأحمر والأصفر والبرتقالي، ونلاحظ أن هذه التجربة بقيت عالقة بذهن المتلقي، حتى بعد أن غادر تلك الغرفة المظلمة.
وتتجلى في لوحات هذه المرحلة قدرة الفنانة على التعبير عن الأجواء المشبعة بالدفء والسخونة، كما أخذت فرشاتها تتحرر إزاء مساحة اللوحة التي أخذت تتنفس بطلاقة.
في عام 1995 عادت الفنانة نجاة مكي إلى القاهرة للتحضير لرسالة الماجستير في كلية الفنون الجميلة / قسم النحت. وفي عام 1997 حصلت نجاة مكي على شهادة الماجستير في تخصص ( الميدالية )، وبذلك تكون نجاة أول فتاة إماراتية تحمل هذه الدرجة العلمية.
ثم حصلت على الدكتوراه في موضوع العملات المعدنية من القاهرة عام 2001، وبالرغم من الغربة والسفر من أرض إلى غيرها، فقد حصلت الفنانة على مصدر عملي على تنوع ثقافتها مكنتها من الحصول على جائزة الدولة التقديرية عام 2007 .
في هذه المرحلة قدمت الفنانة نجاة مكي لوحات فنية كانت ” أكثر وضوحاً من المرحلة السابقة، إذ أن الشكل الإنساني بدأ يأخذ بعدًا واقعيًا تعبيريًا في نفس الوقت، كما خفت حدة الخطوط السابقة وحل محلها إيقاعات خطية زخرفية متناغمة حالمة، كما اختفت جدا لتصل إلى حد المنمنمات الخطية وكثيرًا ما توحي بنقش الحناء الذي ترسمه النساء على أيديهن وأرجلهن، كل هذا يعطي في النهاية عملا فنيا متكاملا فيه سحر الشرق وعطره كما يحمل في طياته حناء الخليج وهموم المرأة الخليجية في نفس الوقت “. ( 16 )
في نهاية القرن الماضي ” نجد في أعمال نجاة تجريدية صوفية… إذ اختفت الألوان المتضادة والحارة وكبرت مساحة اللوحة وغلب عليها اللون الأزرق، كما اختفى منها ـ أوكاد ـ الشكل الإنساني وحل محله ضربات فرشاة لونية فجائية حادة وكأنها مع الخلفية شهب متساقطة من سماء كبيرة وواسعة “.( 17 )
وإذا دققنا في المراحل التي مرت بها الفنانة نجاة مكي، منذ بداياتها الفنية حتى الآن، سنجد أن المرأة والرجل يشكلان عندها موضوعًا مهمًا يدخل في الكثير من تكويناتها، فالمرأة بالنسبة لها تمثل الحياة والأمل، وهي مع الرجل يمثلان أوج الاستمرارية الخالدة.
ونادرا ما تخلو منحوتة أو لوحة من انجازها من علاقة محاورة بين المرأة والمرأة، فنشاهد الأيدي تتلامس مع اختلاف كل لوحة عن الأخرى بأسلوب متميز. وهنا كان حوار الأيدي متقد بالحيوية في تعبير رائع حساس حيث ارتبط ارتباطاً وثيقاً في التركيب والتنظيم والتكوين بالبناء المعماري العام. كما نعثر في العديد من لوحاتها على عناصر رمزية، وتركيبات إيمائية موحية تستجيب إلى حركة روحية، صوفية جميلة، وإلى تعبير عاطفي يعكس العالم الداخلي للفنانة.
البحر والصحراء صدى لروحها
على العموم تكشف تجربة الفنانة نجاة مكي الفنية التي تدور حول فكرة الحوار ما بين الشكل والفراغ، وبشكل خاص مع رشاقة حركة الجسم البشري الذي يحتل حيز اللوحة من الأسفل إلى الأعلى أو من اليمين إلى اليسار، هذا الجسم الذي يتسم بالطول والرشاقة، يتحاور في بعض الأحيان ومع الفراغ البصري ومع ما يحيط به من عناصر أخرى مثل الدائرة ( البؤرة )، التي تتكرر في لوحاتها… وإذا كانت الدائرة عند الفنان ” بول كلي ” تعني ( القمر ) أو حسب وصفه بأنه ” حلم الشمس السائد على عالم الأحلام ” فإن الدائرة عند الفنانة نجاة ترمز للحرية وإلى استمرارية الحياة..
كما يتحاور الجسم أيضًا مع البحر والصحراء، وهاتان المفردتان الجماليتان لا حدود لهما عند الفنانة نجاة مكي، فهما يثريان بصرها وفكرها وبصيرتها، وهما أيضاً إلى جانب الطبيعة والتراث يمثلان صدى لذاتها ولروحها. وهي هنا تكشف من خلال خطوطها المموسقة، الرشيقة المتناغمة، وتدريجات اللون الشفافة، عن حوار لا يطغى فيه العقل على الوجدان.
كما كشفت لوحات الفنانة نجاة مكي من عام 1989 إلى عام 2013 والتي حملت عناوين مثل: ” الأرقام، الدائرة، تكوين، الكلمة والصورة، العيدية، حنين، بقايا حرب، الصيد، القناع، رحلة، إيقاع، يومياتي، لغة، التشتت، رؤية بصرية، مجسم،القمر، حلم، سرد الذات، بوتيلة.. “. كشفت عن عنصر الشكل الإنساني ـ المرأة والرجل ـ الذي أدخلت عليه تبسيطات وتحويرات.. وبهذا الخصوص، قلما يمكن أن نفرق بين المرأة والرجل في لوحاتها.
كما استطاعت الفنانة نجاة أن تنثر في أرجاء لوحاتها تلك العناصر الإنسانية، التي أحسنت توزيعها، فنلاحظها تتجمع وتتفرق وتتراجع وتتقدم، ثم تنسحب من المشهد لصالح الطبيعة، بعد أن كانت تتصدره، ثم تعود للظهور ثانية وبشكل أكثر حيوية، بفضل القدرة عل التلخيص والتركيز دون تقيد بالقوالب التشريحية.
كما كشفت عن لمسات موحية بتأثرها بعناصر الزخرفة الإسلامية، ورسوم الأزياء، ونقش الحناء، حيث قامت بتحويرها لتحقيق أغراضها الجمالية، مما أضفى حيوية على أعمالها المستقاة من الفنون التراثية والطبيعة والبيئة لدولة الإمارات العربية، ولعل ذلك يكمن في تمسكها بجذورها العربية والإسلامية. وكشفت هذه اللوحات عن جمالية ذات عمق إنساني تشد المتلقي إلى عالم الحلم، عالم المرأة والتراث..الذي أعادت صياغته في فضاء وإيقاع لوني وحروفي في مساحة تعبيرية تعكس الرؤى الحالمة للإنسان والفنانة معاً..
بقي أن نتحدث عن المجسمات ( الدمى أو المليكان أو العرائس ) فلا تجد بدّا من تثبيت أنظارك على هذه المجسمات التي برعت نجاة في إبتداع عالمها التشكيلي، وبناء صرحه بهذه العناصر التي تجذب أنظارنا بألوانها وزخرفتها البديعة.
مراحل متواصلة ومنسجمة
نجاة مكي التي مرت تجربتها الفنية بمراحل متواصلة ومنسجمة، تؤكد أن شغلها الشاغل الاهتمام بالفضاء كبُعد رمزي يساوي الزمن وكمجال تتحرك فيه عناصرها المختزلة من ناحية، والقبض على اللون وتوظيفه بما يخدم الفكرة المرتبطة بالأبعاد المعاصرة للفن من ناحية أخرى، وهي في هذا المنحى تكشف عن سر أسلوبها الفني المستمد من الواقع عبر تقنيات تقوم على استخدام أنواع مختلفة من الألوان (الزيتية، والكريليك، والغواش )، وتوظيف مواد مختلفة أخرى مع اللون مثل: القماش والورق ( الكولاج ).
لقد منحت الفنانة نجاة مكي ببصمتها الفنية، بيئتها المحلية مكانتها الجمالية والإنسانية، وبرعت في تمثل الصحراء والبحر والمدينة، ( المكان والزمان )، فضلا عن توظيفها للتراث وجوانب إبداعية أخرى نابضة بالأمل، إلى جانب البعد الجمالي الذي امتلك روحه.
والمتتبع لمسيرة هذه الفنانة من جهاد رصين وما تقوم به من أداء للوصول بفنها إلى أقصى درجات الكمال، يشعر في قرارة نفسه بأنها في سباق مع جيلها ومعاصريها، بل وأيضاً مع نفسها.
أخيرًا ملأت سيرة الفنانة نجاة مكي بإشراقها دنيا الفنون الجميلة داخل الإمارات وخارجها. وهذا لم يأت إلا بفعل نشاطها الفني المحلي والخارجي وثقافتها وارتباطها بالموروث الحضاري ودون أن يخلو فنها على أية حال من اهتمامات بقضايا إنسانية وقومية كبرى، تفاعلت الفنانة معها مثل: فلسطين ولبنان والعراق والسودان.. وهي كما قال عنها الناقد عادل خزام في كتابه ( في الضوء والظل وبينهما الحياة ):
” ريشة صافية في جناح المدى، وأزميل من ماء يحفر في جدار الذاكرة “.
لملتقيات التشكيلية.