رياض إبراهيم الدليمي
التشكيل بوصفه غاية جمالية ذوقية ترمي إلى تهذيب النفس الإنسانية وخلق حالة المتعة والتأمل لدى الانسان، واللوحة بتكوينها الشكلي واللوني تعتبر وسيلة للوصول إلى هذه الغايات النفسية والروحية والثقافية. الفن لدى الفنانة “عبير بدوي ” لا يخرج عن هذا المفهوم الجمالي للتشكيل، فمن النظرة الأولى على لوحاتها ستكتشف هذه الغاية فتشعر أن اللوحة بمثابة كرنفال لوني موسيقى مريح للعين وللنفس فتحقق علاقة عضوية بين المتلقي وألوانها، فستأخذك إلى عوالم وأجواء تجد نفسك بحاجة إلى هذا السكون والصفاء والحركة الإيقاعية الداخلية.
التجريب في الفن التشكيلي يعد واحدًا من أهم العوامل للاكتشاف ومن ثم لإتقان المهارة والتكنيك التقني بالرسم ويسهم في تراكم الخبرات وإن تعدده سيترك تجربة فنية رصينة ورصيدًا مضافًا إلى تأريخ وتجربة الفنان وزيادة خبراته واتساعها وصقلا لموهبته وستؤول موهبته وخبراته إلى الاستكانة الأسلوبية وإتخاذ الطريق الناجح والمبدع بالرسم وتجعله متمكنًا من أدواته الفنية التي تؤهله للخوض في كافة المضامين الابداعية، وسوف تمكنه من اختيار الأسلوب الفني الذي يعبر عن أفكاره وانفعالاته النفسية وهواجسه وخواطره.
ونحن بصدد الحديث هنا عن تجربة فنانة نرى من خلال الإطلاع على أعمالها الفنية تحاول أن تجرب الأنماط الأسلوبية والمذهبية المختلفة بالرسم ، لها القدرة والتمكين على التنقل من أسلوب إلى أخر بحرفية ، فنراها تجرب الأسلوب الانطباعي برسوماتها للطبيعة والمناظر الحقيقية والمتخيلة بألوان مشعة للفرح ومبهجة للنفس والجمال والذاتية، وتجرب كذلك الرسم بالأسلوب الرومانسي والرمزي والوحشي .الخامات المستخدمة في لوحات “عبير بدوي” مختلفة كما الألوان، فالتعددية بأدوات الرسم تعطي للفنان خبرات وتكشف له مهاراته وأيهما الأقرب للتعبير عن مكنوناته والأكثر تقنية لإخراج لوحة فنية تسر الناظر، فالفنانة ترسم على الورق وخامات القماش المختلفة والخشب وتستعمل عدة ألوان منها المائية والزيت والباستيل الطباشيري والأكريليك وغيرها لتنتج أجمل لوحاتها بالتعبير والشكل.
من خلال متابعة أعمالها التشكيلية بدءا من المناظر الطبيعية تؤكد “عبير” في رسوماتها على تقنية وتكنيك الأداة بالرسم من خطوط إلى نثر الألوان ومن ثم الحفر باللون وطلائه على السطح التصويري أو تنقيطه، وتحرص على أن تكون لوحاتها ذات طابع رومانسي حتى وإن كان المشهد المجسد حقيقيًا كما في لوحة كنيسة “الدومو” بميلانو، وهو مشهد بصري يمزج بين المتخيل والواقعي “لزورق في النيل،” الرومانسية هى حركة داخل اللوحة، وهى جزء من حركة ثقافية رومانسية أوسع”.
يكمن تأريخ فترة ازدهارها بين نهاية القرن الثامن عشر ومنتصف القرن التاسع عشر، لم تكن خصائص اللوحة الرومانسية واضحة ولا تختلف عن كل بلد، لكن الموضوع الرئيسي كان الخيال والتعبير الذاتي للفنان الفردي. في كثير من الأحيان تم تمثيل الواقع بطريقة مثالية إلى حد ما، تمت تجربة الطبيعة بأنها “متحركة”، كانت المناظر الطبيعية والأحداث التاريخية موضوعات مشتركة، ولكن كان هناك أيضًا اهتمام بالجوانب المظلمة من الوجود الإنساني، والأحلام والتجارب الشديدة.ومن بين أشهر الفنانين الرومانسيين الفنان الألماني “كاسبر ديفيد فريدريك” والإنجليزى “جون كونستابل” والفرنسي “يوجين ديلاكروا”، اختلافاتهم مثالية للتنوع الذي تطورت فيه الحركة في بلدان مختلفة، فالمنظر الأول جسدته الفنانة في حالة غروب والشمس تميل إلى الغسق باللون الأزرق الذي يميل إلى القاتم للدلالة على نفسية متعبة وقلقة وهى تشير إلى تفشي” جائحة كورونا ” للعالم وما خلفته من آثار كبيرة ومأساوية خاصة في إيطاليا ( أقدم فنون رسم الطبيعة موجودة في تاريخ الفنون الغربية والصينية التي تعود إلى أكثر من ألف سنة. والتعبير عن الروحانيات في الطبيعة كانت ظاهرة في فنون أسيا الشرقية وخاصة الطاوية ولم تظهر في الفنون الغربية حتى العصر الرومانسي).
ويمكن للمشهد الطبيعي أن يكون خياليًا أو واقعًا طبيعيًا، وإن كان موضوع الرسم هو موقع طبيعي محدد فيسمى “منظر طبوغرافي” وبخاصة إذا دخلت العمارة في تشكيل المنظر، أما المناظر الأخرى التي جسدتها في مشهد لنهر النيل تحت أكثر من مؤثر طقسي، أي في لحظات زمنية مختلفة في منتصف النهار والصباح ووقت الأصيل فأعطته رونقًا بألوان مشرقة ساحرة فمنها الألوان الحارة بمختلف تدرجاتها لتضيف للنهر ولحركة الزوارق ولضفاف النيل مشهدًا جماليًا ممتعًا ومشعًا وبأسلوب انطباعي رومانسي، أي تمزج أكثر من أسلوب بآن واحد لتبرهن مقدرتها على التجسيد والتلوين ومهارتها في مزج الألوان واشتقاقاتها اللونية .
في لوحات ” بدوي ” ” رقصة الربيع ومنظر لشارع المعز ورقصة صوفية ” تكتشف أن لديها المقدرة على تجريب تكنيك الرسم بأداة الشفرة على الخامات وهذه التقنية تحتاج مهارة متقنة لغرض تجسيد المشهد البصري لكي تصل إلى حالة الإقناع عند المتلقي وكذلك تكثيف اللون، أي صب الزيت اللوني على السطح بكثافة مكونًا ملمسًا خشنًا لتعطي للمشاهد رؤية حقيقية للمقطع التصويري ولتعطيه مصداقية أكثر بالتصوير لتصل به إلى حالة التصديق وبنفس الوقت لتجعله غائرًا ومبحرًا في تفاصيل لوحاتها .يلاحظ على بعض أعمال “عبير ” أنها تخوض بالمشهد الصوفي المتجلي بالنفس والروح الإنسانية ففي لوحاتها “رقصة صوفية والدراويش ” (الرقص الصوفي هو نوع من أنواع الذكر عند متبعي الطريقة الصوفية، يسمى أحيانًا رقص سماع، ويكون بالدوران حول النفس والتأمل الذي يقوم به من يسمون دراويش بهدف الوصول إلى مرحلة الكمال، والدوران حول النفس الذي أتى مفهومه من خلال دوران الكواكب حول الشمس ) إنها تعبر في هذه اللوحات عن صوفية الفنان قبل صوفية الآخر لأن الفنان يعيش مع لحظات الرسم طقس صوفي وروحي وفي حالة تشبه حلم اليقظة، أي اللاوعي فروحه وعقله تتسامى وتحلق في فضاء الخيال مع الألوان والموسيقى والفضاء الشكلي ليكوّنا عالمًا افتراضيًا خياليًا فينتج عنها تلك اللوحات التي تعبر عنه وعن اهتماماته.
ويعبر من خلالها عن الذات والأخر بآن واحد، لذا تخلق ” عبير ” جوًا صوفيًا داخل لوحاتها من خلال تصويرها الدقيق لزي الصوفي من طربوشه وثيابه والمكان الذي يؤدي فيه هذا الطقس الروحي وكذلك تجسد حالات الصوفي الحركية من حركة الثياب في حالة الدوران وطربوشه ويديه وقامته وحركة رجليه، وكذلك تعابير الجسد والوجه إذ تصوره في حالة هيام وتوحد وتحليق مع الموسيقى .
يعد فن البورتريه فنًا صعبًا ومعقدًا كما يذكر ذلك “بول سيزان يقول: “إن ذروة الفن كله في رسم الوجه البشري”” لأنه يصور تعابير الوجوه الأدمية في أجواء طقسية معينة لذا تحتاج هذه الوجوه للمهارة والتقنية لتجسيدها في مشهد بصري لوني وكذلك معرفة بالمنظور والضوء والظل ليعكس حقيقة التعابير والمؤثرات في حالة التصوير لخلق صورة الوجه ودلالاته البورتريه أو فن رسم الأشخاص هو لوحة أو صورة أو نحت أو تمثيل فني أو غير ذلك لشخص في مواجهة.والقصد من ذلك هو عرض شبه شخصية، وحتى مزاج الشخص، ولهذا السبب في التصوير الفوتوغرافي “البورتريه” بصورة عامة ليست لقطة، وإنما تكون صورة للشخص في وضع ثابت غالبًا ما تُظهر البورتريه صورة الشخص مباشرة في الرسام أو المصور )، وكذلك تعكس انفعالات الفنان خلال لحظات الرسم، فعند مشاهدة رسمات “عبير ” للوجوه تلاحظ أن لديها تلقائية برسم الوجوه الجميلة المعبرة عن السعادة والنضارة وهى بطبيعة الحال تمثل حالة اندماج نفسي بين الرسام والشخص المجسد فتعتني “عبير” كثيرًا بالوجوه النسائية النظِرة وتعابيرها وزينتها والشال الذي ترتديه المرأة في لوحاتها وتفاصيله وألوانه الذي تجعل منه متلائمًا مع الفرح المرسوم على الوجه كما في رسمات” وجوه نسائية” فاختارت وجوه من الريف والمدينة والبادية لتجسدها بشكل جمالي .