غازي انعــــيم
يعد الفنان الكويتي الراحل (حميد خزعل) الذي ولد في الكويت عام 1951، أحد الفنانين الذين ساهموا في إرساء دعائم الفن التشكيلي الكويتي، حيث استطاع منذ ستينات القرن الماضي – الانطلاقة الحقيقية والقوية لمشواره الفني – أن يؤسس لنفسه مسارًا خاصًا على الخارطة الفنية الكويتية.. كما لعب دورًا كبيرًا في تطوير تجربته وتجديد رؤيته الفنية.. فكان مجددًا ضمن الفنانين الرواد، حين قدم اللغة السريالية ومنحها هويتها المتجددة، كما أعطاها خصوصية ظلت محافظة على شاعرية فنان محب للألوان.. بالإضافة إلى ذلك هو فنان متعدد المواهب، وهو مصور.. ونحات.. وناقد.. ومؤرخ.. وموثق…. وعودنا دائمًا على تقديم الجديد والمدهش، والمحير في آن واحد، سيما أنه دائم البحث عن أشكال جديدة وصيغ معبرة عن أسلوبه الشخصي.
كما كان الفنان (خزعل) مشغولا بأسئلة الفن.. وبأسئلة الضرورة المشحونة بالمرارة والأمل، حتى أن المرض لم يهزمه بل جعله يبدي مقاومة له لأن الفن كان بالنسبة له إضاءة توحدت فيها أمانيه.. وأعطانا مثالاً للتحدي، تحدي سنوات المرض وتحدي منافي الجسد.فنان السريالية والتعبيرية والتجريدية
وإذا تابعنا رحلة (حميد خزعل) الفنية والتي تصل إلى ما يقارب الـ 40 عامًا.. فإننا نلاحظ أنه كان يقدم دائمًا التجارب والبحوث المختلفة التي تدل على مدى حيوية هذا الفنان..
وهو إلى جانب ذلك فنان الأحلام والأفكار الجديدة.. لذلك كان يطلق العنان ليده لترسم بحرية في محاولة للانفلات من معطيات التجارب الكلاسيكية الباحثة عن مزيد من أشكال الترف والعمل على صياغة لوحات سريالية وإبراز قيمها الجمالية. التي تعكس انفعالات الداخل ضمن رؤية بصرية سريالية.
الفنان (حميد خزعل) الذي استحق اسم فنان السريالية والتعبيرية والتجريدية، يمتلك حرفية وبراعة في التشكيل الخاص به، ويدور كل ذلك حول محور (الإنسان) الذي يجسد القلق والمستقبل الغامض، مستعينا بأدواته التشكيلية لتوظيف أفكاره التي تتطابق مع ما بداخله من رؤية فنية.
ولكن كيف كانت البداية الأولى؟
بدأت علاقة الفنان (حميد خزعل) مع الرسم بشكل تدريجي عندما كان تلميذًا في مدرسة الفحيحيل الإبتدائية، حيث بدأت مواهبه الفنية تنمو وقد عمل أساتذته في مدرسة المعري المتوسطة على تطويرها، كما ساهموا في تعزيز هوايته وتشجيعها، وكان لهم الفضل بالتحاقه في عام 1960، بالمرسم الحر، وكذلك الالتحاق بمعهد التربية الفنية الذي حصل منه في عام 1970، على شهادة أهلته بأن يعمل مدرسًا لمادة التربية الفنية في المرحلة الابتدائية ولمدة خمس سنوات.
لكن هل اقتنع فناننا بما تعلمه في المعهد؟
من الواضح أن الفنان (حميد خزعل) كان يتطلع إلى دراسة الفن في كلية فنون، وكانت القاهرة هي المكان المفضل، لذلك قرر في عام 1977، أن يتابع دراسته في القاهرة حيث حصل في نفس العام على إجازة تفرغ دراسية لمتابعة تحصيله الأكاديمي في كلية الفنون الجميلة – قسم الرسم والتصوير الزيتي – حتى أنه شعر بأن آفاقًا جديدة قد انفتحت أمامه في الرسم والكتابة وبعد أربعة سنوات من الدراسة، نضجت تجربته الفنية وزودته بأدوات تؤهله لشق طريقه في الفن دون أن تسلبه خصوصيته.
وكان للأساتذة الذين أشرفوا على دراسته أمثال:( حامد ندا، محمد رياض، كمال السراج، أحمد نبيل ومصطفى الفقي )، دور كبير في صقل موهيته.
كما تعرّف الفنان (حميد خزعل) في مدينة القاهرة على تجارب الفنانين المصريين والعرب والأجانب وأحاط بالعديد من الأمور الفنية التي ساعدته على تقديم لوحات تحمل التأثيرات الواضحة بجو الدراسة، كما أنَّ هذه الأجواء غذت ثقافته الفنية بكل ما هو ضروري ومن ضمنها ولعه بالفنان ( سلفادور دالي )، وساهم هذا كله في بلورة أفكاره وانطباعاته ورؤيته التي انعكست على مشروع تخرجه السريالي والذي حمل عنوان: ( نهاية بحار / 1981 ) حيث حصل على درجة البكالوريوس في الرسم والتصوير بتقدير امتياز..
كان مشروع تخرجه المرتبط بواقعه وبيئته، زاخرًا بالصور والرموز – شخوص وطيور وأشخاص وعناصر أخرى من البيئة – والرؤى التي تعكس موقفه إزاء أزمة الإنسان الذي كشف عن أعماقه ومكابداته مع البحر؛ وهو هنا عندما يعالج حالات الإنسان المأساوية الذي تلفه الأردية يكشف عن محنة الإنسان وهويته إزاء الوجود، وعن ذلك العجز الخارج عن إرادته، وفي الوقت نفسه معالجة انتصار الإنسان رغم المأساة التي يعيش فيها وداخلها..
الإنسان.. رمز للانتصار
صحيح أن الإنسان الذي يصوره (خزعل) يعتمد على المخيلة، وغالبًا وحيد ومعزول، وهو عبارة عن كتلة تحاكي الآلة وبلا ملامح أو معالم. لكن الإنسان بالنسبة للفنان (خزعل) الذي يعتبر رئيس في تجربته الفنية، رغم التشويه المقصود يكشف المسافة بين الواقع والحلم، وهو رمز للانتصار. ومع ذلك فالفنان لا يهمل دور الرؤية الجمالية التي يعتبرها جزء من المضمون الفني لمعالجة موضوعاته ذات المضامين الفكرية والنفسية، وهذه المضامين المرمزة بشكل عام، تحمل حسا بالتمرد والاحتجاج والغضب.
إجمالا، وعبر الألوان المحببة لديه – الأخضر والأزرق ومشتقاتهما، والأحمر ودرجاته اللونية – يكون خزعل قد كرس خصوصيته وقدرته على الإفصاح عن مكنوناته وبذلك تتلخص تجربته في هذه المرحلة كونها تنقلنا إلى مناخ جديد وفريد في نفس الوقت، وكذلك إلى عالم خاص من الرموز والدلالات التعبيرية السريالية..
إن عالم الفنان (خزعل) عالم خاص، له حدوده المرتبطة بشجاعته في البحث، وفي تمرده على الأساليب الشائعة في الحركة التشكيلية الكويتية آنذاك.. كما أن تجربته تعد واحدة من تجارب جيل تميز فنه بالبحث عن المناخات الأكثر تعبيرًا عن حيرة الإنسان وقلقه.. ولهذا تعتبر مرحلة الدراسة الجامعية، من أهم المراحل التي ساهمت في تكوين شخصيته الفنية وفي تطوير ملكاته ورفدها بالخبرات.
في نفس العام الذي تخرج فيه (خزعل) عاد إلى وطنه الكويت وهو يحمل الكثير من الطموحات، التي سعى إليها في السابق والتي لم تكن ممكنة لولا إيجاد مناخ أفضل لممارسة الفن، حيث انخرط في التدريس وعمل مدرسًا في ثانوية الصباحية، ثم عين موجها في قسم النشاط الفني بمنطقة حولي التعليمية. ومن خلال عمله ساهم في تطوير قسم النشاط الفني إلى جانب تكوين الهياكل الضرورية لتطوير الحركة التشكيلية الكويتية من خلال موقعه كناقد متخصص في جريدة (الرأي العام) الكويتية التي عمل فيها لمدة ست سنوات، ثم انتقل إلى جريدة (الأنباء) الكويتية.
وفي عام 1982 انتخب عضوًا في مجلس إدارة الجمعية الكويتية للفنون التشكيلية ثم أمينًا للسر من عام 1993 إلى عام 1999. وقد شارك في هذه المرحلة بجميع المعارض المحلية والخارجية وخصوصًا المعرض الذي أقيم بمناسبة نهائيات كأس العالم في – مدريد – برشلونة 1982.
تحولات فنية
مرت تجربته خلال هذه المرحلة بعدة تحولات فنية، وأسلوبية، وهي تعتبر نتاجًا طبيعيًا لمراحله السابقة والتي اختمرت فيها التجربة مع الخبرة والممارسة وقدم خلالها اللغة الفنية القادرة على التعبير، حتى أنه أعطى من خلال (السريالية) التي انتهجها ما هو متميز عندما سعى لتأليف موضوعات تعبر عن مآسي الإنسان وصراعه مع الكون والآخر من أجل البقاء، وقد وصل الفنان (حميد خزعل) بأسلوبه السريالي إلى الكثير من الاختزال في التفاصيل، لكن المساحات اللونية التي تشكل شخوصه وكذلك المساحات اللونية لخلفية لوحاته اكتسبت من خلال هرمونية اللون بعدًا وجدانيًا ساهم في إبراز عناصر اللوحة بقوة.. كما في اللوحات التالية: ” محاولات عبثية 1985 / احتمالات 1986، أسير 1993 “.حيث وهكذا ينجح (خزعل) في خلق حالة من القوة والحوار بين العمل الفني والمتلقي.
وقد كانت أغلب لوحات الفنان (خزعل) تمثل الوجه والجسد، أو ما يشير إلى الإنسان كاللباس مثلا.. وأول ما يستوقفنا في لوحات مرحلة ما بعد الدراسة هو الطابع السكوني المخيم على شخوصه حيت تظهر في مقدمة اللوحة على خلفية قاتمة في محاولة جادة للجمع بين التلخيص والقدرة التعبيرية.. ولهذا لا يرسم الفنان (خزعل) وجوها بل أشكالا قالبية تتواجد في فراغ تعكس غموضها وغربتها.
وإن أغلب وجوه لوحات هذه المرحلة جاءت حائرة وتائهة اختفت منها النقاط السيادية المجسدة للملامح.. كما في لوحة ( النقطة الحرجة ) و ( طائر وصاحبه ) و ( المحنة )، وسمح لنفسه ببعض التحويرات الفنية لمشخصاته التي تعكس المضمون، ومثال ذلك وضعه نقطة دائرية مكان العين اليسرى كما في لوحة ( النقطة الحرجة ) وذلك لتساعده على التعبير عن ( المضمون ) الذي يعكس اشراقات وعيه الذاتي، على اعتبار أن الفن الحديث قائم على البحث عن المضامين لا عن مظاهرها.
وساعدته هذه التجارب على البحث عن تحليل للجسد الإنساني واختزاله، وتلخيصه.. ووصل الأمر به إلى استبدال الرأس بمربع في وسطه دائرة صغيرة، كما هو الحال في لوحة ( محاولات عبثية / 1985 )، وهذه اللوحة تجعلنا نفهم قيمة الرمز السريالي المرتبط بالحالة السيكولوجية وهكذا اكتشف قدرة الخط على التعبير ودخلت تجربته في مرحلة جديدة تؤكد على السريالية التعبيرية.
في الألفية الجديدة ابتعد الفنان (حميد خزعل) عن الألوان الغامقة واتجه نحو المضيء منها كما بدأ يلح على التشخيص والتلخيص الشديد المجرد.. وقد بدت شخوصه في هذه المرحلة مرتكزة على كسر متعمد في النسب التقليدية، حيث نشاهد الرقاب الطويلة والرأس الصغير.. وهذه الشخوص التي حققها دون تحديد لملامحها على مسطحات لوحاته والمطعمة ببعض الألوان مثل الأحمر والأصفر والأسود تظهر من خلال اللون الذي يحدد شكل الشخص المرسوم الذي جاء على مساحات متقاربة من اللون.
هوامش من سيرة شهرزاد
عمد الفنان (حميد خزعل) في معرضه الأخير الذي أقامه قبل وفاته في شهر أكتوبر / تشرين الأول 2015 والذي حمل عنوان (هوامش من سيرة شهرزاد) إلى حكايات (ألف ليلة وليلة) واستحضر من خلال الرسم والنحت، شخصية شهر زاد التي كانت تسرد الحكايات على شهر يار، وفي هذه التجربة تستقر رؤية الفنان (خزعل) عند المحتوى الرمزي لجوهر التعبير، فالأسلوب التجريدي السريالي الذي انتهجه في هذه التجربة يقودنا إلى عالم الفنان الداخلي الذي لا ينفصل عن تمسكه بالهاجس التوليدي لمرجعياته المتمثلة في تراث السرد العربي.
وينحو الفنان في هذه المرحلة نحو التسطيح والتجريد السريالي وإلى اختزال العناصر وإعادة صياغتها بما يمثل مناخها، جاعلا منها ذكرى للامتداد.. وهو هنا يعيد صياغة النص الذي يضمنه إشارات وعلامات فنية تنتمي إلى حكاية (شهر زاد) مثل تضمينه للوحاته عناصر تمثل: الطيور والقطط والخيول والأشجار والفاكهة إلى جانب الرجل والمرأة.. وقد نجح في أن يحوط تلك العناصر بأجواء لونية منغمة حتى تبدو وكأنها تعيش في عالم الحكاية.. وأصبح من المعروف أن عناصره تتمتع بحرية التنفس داخل مساحة فراغية.
ويتضح من خلال الأعمال الفنية لهذه المرحلة مدى استفادة الفنان من تقنية ألوان الاكريليك التي تتناسب مع ما يود أن يوضحه في الموضوع المراد رسمه على مسطح اللوحة، بعد أن كانت في المراحل السابقة درامية قاتمة تعتمد على الألوان الزيتية.. وقد بدأ اللون في هذه المرحلة يتخذ رمزية مستقاة من مضمون الشكل.. فازدادت ألوانه بهجة وخطوطه ليونة عندما جعل الألوان تنساب في خطوط منحنية ومتداخلة تتخللها مساحات ذات ألوان منسجمة في هارموني لوني يجذب الأنظار.
لقد ازدادت تجربة الفنان (حميد خزعل) أهمية، وبدأت لوحاته تتمتع بمنزلة خاصة، فقد نال الجوائز العديدة، منها الميدالية الذهبية من المعرض الخاص الخامس عشر 1982، وجائزة الشراع الذهبي من معرض الكويت العاشر للفنانين التشكيليين العرب 1987، والجائزة الأولى من المعرض الخاص / الدورة 23 – 1997، وجائزة الدانة عن معرض 25 فبراير / الدورة 16 – 2001 ثم جائزة الدولة التشجيعية في مجال التأليف التشكيلي 2002.
وأسهم في النشاط الإعلامي التشكيلي، وذلك عن طريق موقع مجلة التشكيل العربي الالكترونية، والفنان خزعل هو أول من أسس هذا الموقع الذي استضاف الكتابات النقدية والروائع الفنية العربية والعالمية، كما ساهم من خلال هذا الموقع بالتعريف بالفنان والفن الكويتي، ولهذا يمكنني القول إن الدور الذي لعبه من خلال هذا الموقع دور ريادي، وأن ما قدمه الفنان حميد خزعل إلى الحركة التشكيلية الكويتية لا يقدر بثمن، فبفضل كتاباته ومؤلفاته تعرّف المهتمون بالفنون التشكيلية في الوطن العربي على تجارب الفنانين التشكيليين الكويتيين وهنا في هذا المجال لا يمكن إغفال دور الصحف والمجلات الكويتية ومنها بشكل خاص مجلة الكويت.
أخيرًا رحل الفنان (حميد خزعل) في 15 / 1 / 2016 تاركا خلفه إرثــًا فنيًا كبيرًا كانت قطرات عرقه، ونبضات قلبه الذي توقف، لكن هذا الفنان الذي ترك بصمات واضحة في مسار الحركة التشكيلية الكويتية، سيظل راقدا في كتاباته ولوحاته.