رياض إبراهيم الدليمي
(زينة عطار باشي) ابنة الرافدين وسليلة حضارة (نينوى)العريقة و (آشور) وحفيدة (سميرا ميس) ووريثة الفن الآشوري الذي لا يحجبه غربال وعتمة أو أية انتكاسة تاريخية مرّت على العراق عامة و نينوى خاصة، وستبقى الرموز والآثار العراقية شامخة تليدة مهما مرّ الزمن واجتمعت العاتيات على هذا البلد العريق بتاريخه وأهله ورموزه .ليس مصادفة أنْ تكون مجسمات (زينة) التصويرية ذات ملامح موصلية آشورية؛ وخاصة يعد الفنان هو ابن حاضنته وبيئته الثقافية والاجتماعية، لذا سوف تُلقي هذه الثقافة بظلالها على أي منجز ثقافي إنْ كان فنيًا أو أدبيًا أو أية فنون وثقافات أخرى .
الأنثى هى ملكة من ملكات وتطريزات التشكيل لدى الفنانة الموصلية (زينة عطار باشي) وتمثلت في غالبية أعمالها؛ بل شكلت أيقونة ثابتة ودالة على شخصيتها الفنية، حيث امتزجت الألوان والأشكال في دالتها الفنية والثقافية كرموز ودلالات فلسفية وفكرية لتوحي وتعبر عن خصوصية الحضارة الآشورية والموصلية في رسوم وأعمال (زينة عطار باشي).فلا يمكن لأي مشاهد ومتابع للفن التشكيلي أنْ يتجاوز الهوية التشكيلية للفنانة (زينة) حيث لها خصوصيتها وبصمتها للتعريف بفنها ونظرتها للتصوير وتوظيف ثقافتها وبيئتها بأسلوبها الخاص من حيث المدرسة التي شعرت بأنَّها الأقرب اليها وهى المدرسة التجريدية بكل مراحلها القديم منها والمعاصر مع محاولة إيجاد حوار أسلوبي بين التجريد والمدارس الأخرى كالانطباعية والتعبيرية والوحشية .
الأنثى في تجريدات (زينة عطار باشي) هى آلهة كونية تربعت على عرش الوجود من الناحية الأسطورية والمثيولوجية، تسعى من خلال فلسفتها ورؤيتها لدور المرأة في هذا الوجود فأعطتها صفة الملائكية والألوهية في الواقع الحياتي؛ لما لها من دور رئيس في هذا الوجود، وهذه النظرة قد لا تحيد عن نظرة قدماء العراقيين عندما اتخذوا من (عشتار اينانا) آلهة للجمال والعطاء والخصب والحب والنماء.
فغدت وظيفتها آلهة للحياة وليس آلهة للموت كما يرمز للرجل كإله للموت في الميثولوجيا العراقية القديمة (تبين لنا الدراسات التاريخية أنَّ ديانات سومر وبابل وآشور، كانت ديانات مطبوعة بالأمومية، وكانت عشتار، إلهة الطبيعة والخصب تحظى بالتعظيم والتقديس، لأنَّها تعتبر واهبة الحياة، الأم الكبرى في رمزية الميثولوجيا البابلية القديمة. إنَّ الآلهة الإناث في الميثولوجيا القديمة، ترمز إلى الطاقة الخلاقة، وذلك بخلاف الآلهة الذكور التي ترمز إلى القيمة المضادة للحياة، أي ترمز إلى الموت. هكذا، فإن النوعين من الآلهة يرمزان إلى جدلية الحياة والموت).صياغة الرؤى وتجليها وطرحها للمشاهد والمتلقي بغض النظر عن هويته وخلفيته الثقافية وتلقيها وفهمها هي ليست مهمة يسيرة والمتابع لأعمال (زينة) سوف يتأكد بقدرتها على طرح إنتاجها الفني بكل ثقة، فعند قراءتنا لعدد من لوحاتها وعند تأملها وبنظرة فاحصة وخاصة كلوحات نرد منها ( ضجيج وعيناك وعيد المرأة والمرأة حمامة سلام وفتاة الأفعى ) تجد طغيان الرمز الأنثوي وهيمنته على أعمالها، فهى تحاول أنْ تمزج بين الرمز والواقع وبين الحاضر والماضي لدور ومكانة المرأة في الحياة والسلطة والمجتمع.
فهى تصور المرأة بشكلها الآشوري والسومري القديم للدلالة الرمزية والفكرية لعظمة المرأة العراقية في تأسيس الحضارة ونشأتها في بلاد ( ما بين النهرين)، ففي لوحتها ( ضجيج ) تمتزج أزمنة الماضي والحاضر ليؤسسا رسالة معرفية وثقافية تبثها (عطار باشي) وفق إيمانها الراسخ بأحقية المرأة لتكون مركزًا وقطبًا رئيسًا في انبثاق الحضارات العراقية العظيمة؛ لا قولا؛ بل تاريخًا وسجلا حافلا بالمنجز لدور نساء الرافدين في بلورة وتشكيل هذه الحضارة التي أرست وأسست المفاهيم السياسية للحكم والمعبد والاقتصاد والأعراف والتقاليد للمجتمع الرافديني، وكذلك مساهمتها في إشاعة الثقافة والعلم والأصول والميثولوجيا في عموم الشرق وحتى أوربا.
وهذه اللوحة (ضجيج) تجمع بين رمزين هما رأس الثور والمتعارف عليه في الحضارة السومرية والآشورية بأنَّه رمزًا للقوة والتحدي ويتصل هذا الرأس برمز أخر وهو رأس أنثى مغمضة العينين وهنا شارة لأنثى غارقة بالتفكير والتأمل وضج رأسها بهذه الأفكار التشاركية مع قرينها وشريكها الرجل في مشاركته لها في ذات الهم لمواجهة التحديات والصراعات التي تشغل خاطرهما وتفكيرهما ” (لقد اتخذ سكان عصور ما قبل التأريخ في بلاد الرافدين من الثور رمزا للعنصر المذكر في الطبيعة وجعلوه نظیرًا للآلهة الأم، وحدث هذا الاختبار في ثقافة العصر الحجري الحديث وربما تعود إلى فترة العصر الحجري القديم، وتطورت خلال الفترة الحضارية لبلاد الرافدين.
وقد مثل ذلك في فنون بلاد الرافدين حیث صوّر الذكر بصورة ثور كامل أو جزء منه بقرون أو بدون رأس ليرمز إلى قوة الخصوبة والطاقة القوية في فعل الحيوانات، كما ظهرت رؤوس الثور ورسوماته من خلال التنقیبـات التي جرت في عدد من البیوت والمعابــد في Huyuk Catal حیث تشاهد الآلهة واقفة في دعامات المعبد بينما قرون الثور عملت بشكل مجسم لتعبر عن قوته التجدیدیة أو قوة الاِله وتبرز أهمیته وقرونه كرمز لقوة خلق الحیاة أو تعبیر عن الخصوبة )، إنَّ تجسيد رأس الثور والمرأة بأسلوب تجريدي تعبيري وبألوان صريحة تميل أغلبها إلى الألوان الحارة سواء كانت ألوان المجسمات أو الألوان التي طليت بها فضاءات وفراغات اللوحة فغلب عليها اللون البني المائل للحمرة وهى كلها ألوان تعبر عن حالة قلق وفورة نفسية.
إنَّ تمثل الرأس في اللوحة بصورة راكزة وجسد في واجهة اللوحة دون أبعاد منظورية بل وضعت تحت (الزوم) وكذلك نفس الشيء ينطبق على تمثل رأس المرأة على السطح حيث اتخذ الحيز نفسه في فضاء وواجهة اللوحة وبنفس آلية الاشتغال الفني والأسلوبي إنما يدلل على قصدانية الفنانة لتسليط الضوء وبكثافة وغزارة لونية على المشهد البصري لرأس الثور الذي يرمز إلى الإله الرجل حامي البلاد والامبراطورية الآشورية وهو (آشور) ملك الجهات الأربعة ونظيرته هنا هى (سميراميس) سليلة ووريثة الحكم التي حافظت وحمت أسوار البلاد من كل دخيل ووحدت مملكتي (آشور وبابل) حتى امتدت حدود إمبراطورتيها إلى آسيا الوسطى، فالثور المجنح يرمز حسب المعتقد الرافديني إلى القوة ( بالسومرية: dlammař ; بالأكادية: lamassu) ويسمى أيضًا (شيدو لاموسو) كما ورد في الكتابات الآشورية وأصل كلمة (لاماسو) تأتي من مقطعين (لامو) في اللغة السومرية، كان هذا الاسم يستعمل لأنثى من الجن مهمتها حماية المدن والقصور ودور العبادة، أما الجن الذكر الحامي فكان بالسومرية يعرف باسم (آلادلامو) وبالآشورية القديمة أو (أكادية) سمي شيدو.)
بالعودة الى اللوحات التي أشرنا اليها آنفا فلوحة (الأنثى الأفعى) تجد مدى الألفة والانصهار بين الأنثى والأفعى نلاحظه مجسما في اللوحة الذي صورته (عطارباشي) كمشهد بصري، وهذا التآلف والتناغم بين الأنثى والثعبان وكما صورته للمشاهد القصد منه للدلالة على الروحية المفعمة بالعاطفة والوجدان الشفيف بين الاثنين اللتان طغت عليهما الألوان الرومانسية الحالمة معبرة عن الحالة المجسدة بالعمل، فالأنثى بصفتها كعنصر إشعاع للحب والجمال والسلام وأما الثعبان فهو شريك وجودي فيه من الخير يتجاوز رمزية الشر الذي يرمز إليه دائمًا وفق الأساطير والواقع معًا.
وثيمة العمل ذات دلالة ميثولوجيية تعبر عن أبجديات الوجود الكوني بأنّ هناك حياة وموت، أي – إنَّ الوجود هو صراع بين العالم العلوي والسفلي، أي بين الوجود والموت، وكما تشير الكثير من الأساطير إلى هذه الرمزية كما في ملحمة (كلكامش) التي أشارت إلى الثعبان الذي سرق عشبة الخلود وابتلعها، وكذلك تركز وكما نفهم من شكل اللوحة تعبر (زينة) عن الألفة ما بين الكائنين ودلالة الحركة الحميمية ما بين الثعبان والأنثى وانصهارهما معًا تعطي شارات إلى ما ذكرته الأساطير اللاتينية التي تصور الثعبان بأنه مصدرا للخير والشر معا.
وكذلك يذكر أنّ في أمريكا الشمالية ينظرون إلى الثعبان بنظرة مغايرة اذ يعتبرونه عنصرا للخصوبة ( الثعبان، أو الأفعى (بالإنجليزية: The serpent, or snake) هو واحد من الرموز الأسطورية الأقدم والأكثر انتشارًا. الكلمة مشتقة من السربينات اللاتينية، حيوان زاحف أو ثعبان. ارتبطت الثعابين ببعض أقدم الطقوس المعروفة للبشرية وتمثل تعبيرًا مزدوجًا عن الخير والشر في بعض الثقافات، كانت الثعابين رمزًا للخصوبة. على سبيل المثال، أجرى شعب هوبي في أمريكا الشمالية رقصة ثعبان سنوية للاحتفال بوحدة شباب الأفعى (روح السماء) وفتاة الأفعى (روح العالم السفلي) ولتجديد خصوبة الطبيعة خلال الرقص، تم التعامل مع الثعابين الحية وفي نهاية الرقصة تم إطلاق الثعابين في الحقول لضمان المحاصيل الجيدة. “رقصة الأفعى هي دعاء لأرواح الغيوم والرعد والبرق، حتى يتساقط المطر على المحاصيل المتنامية”. في الثقافات الأخرى، الثعابين ترمز إلى الحبل السري، وتجمع كل البشر إلى الأرض الأم.
قدسية الأفعى أو الثعبان من بين جميع الرموز التي أخذت معانيها من مراقبة الإنسان للطبيعة، فإنَّ رمزية الأفعى كانت الأكثر سحرًا، فقدرتها على تجديد جلدها تبدو بالنسبة للناظر إليها وكأنَّها ولادة جديدة، لذا فقد غدت رمزًا للانبعاث والخلود، كما ارتبط بالولادة والأمهات. وهى رمز القوة بسبب حركاتها المتلوية التي تمّكنها من أنْ تلتّف على غريمها لتخنقه، وبسبب سُمها وشرها فهى ترمز إلى جانب الطبيعة الشرير، فقدرتها على القتل (لدغًا أو عصرًا) وعلى الشفاء معًا؛ جعلتها عبر التاريخ رمزًا للقوى الإيجابية والسلبية التي تحكم العالم. لذا فإنَّ صورة الأفعى تستحضر على نحو سحرّي كلاً من الحياة والموت بالإضافة إلى قوى الانبعاث والخصب).
يعتبر الفنان والمثقف هو لسان حال المجتمع في أغلب قضاياه المصيرية والحياتية لذا تجده مشاركًا وناطقًا بوسائله عن قضايا المجتمع وهمومه في السراء والضراء، لذا نجد الفنانة (زينة) لديها العديد من الأعمال التي تشارك فيها شعبها والإنسانية جمعاء في مثل هذه الهموم والقضايا والكفاح من أجل الحرية وكذلك انتصار المرأة في استعادة حقوقها وكما نلاحظ ذلك في لوحاتها ( كفى وأمل و سفينة السلام وأمومة وحلم ) .
من خلال معاينة العديد من رسومات (زينة) سنكشف وبدون شك هذه الأعمال بأنَّ هناك علاقات شكلية ولونية وأسلوبية وفكرية ونفسية جامعة لها، فعند تدقيق ملامح المرأة المجسدة في رسوماتها ستجدها ذات عنق طويل وأطراف طويلة وقامة شامخة وأغلب الخطوط امتدادها للأعلى وبشكل جلي ولا تميل في مجسماتها إلى الخطوط المتعرجة المنكسرة وهى شارات نفسية وفكرية في ذات الوقت، وهى تعني في ذلك إلى شموخ المرأة وعنفوانها وطاقتها الإيجابية ووهجها الجمالي وعطائها في الحياة.
وكذلك ترسخ أسلوبية التجريد من خلال الخطوط الحادة المستقيمة وبألوان صريحة تميل إلى ألوان الخريف والربيع وأيضا الى لون التربة وتضاريسها وخاصة التربة العراقية؛ تربة الهضبة الغربية “نينوى” من العراق التي تجمع بين عدة تضاريس منها الجبلي والسهلي والصحراوي، ونلاحظ أيضًا لون السماء الصافي يطغى على بعض لوحاتها وخاصة ( رقصة صوفية وحبيبتي وربا الحب وعشتار) (يجوز الربا في الحبّ، فمَن أعطاكَ حبًّا ردّه ضعفين – شمس الدين التبريزي ).، فالربيع ولادة والخريف تجدد والأرض انتماء وخصب .