عرض: محسن صالح
حين ننظر إلي إحدي اللوحات الفنية ، فإننا نقف في حضور عالم ذي خصوصية وفي حضور كيان نابض حي كالإنسان الوليد الذي تنبض فيه ملامح الحياة ويتلقفه من حوله في جذل وسرور وحرص علي وجوده . اللوحة الفنية نتاج فكر ولمسات أنامل وعصارة تجارب وخبرات وفي نفس الوقت موسيقي نابضة تتفاعل أجزاؤها داخل إطار الكانفس وتتفاعل رموزها مع مايدور في قلب المشاهد وعقله وتجاربه وفوق كل هذا احساساته التي تنتفض لتجربة خطتها أنامل فنان أو فنانة مبدعة وفي اللوحة التي بين أيدينا للفنانة المبدعة ” هالة صلاح” نجد كل سمات اللوحات الباقية ذات الأثر والتي تتوقف أمامها – عزيزي القاريء- لا لتشاهدها بل لتعيش في أجزائها كما ستلي الإبانة ، ستعيش مع حالة وجدانية خاصة ومع بناء معماري يساعد علي إيصال هذه الفكرة إلي المتلقي في إقتدار وتميز و تفوق في الوقت ذاته.
اللوحة التي بين أيدينا “انتظار” أبطالها فتاة وقطار ومحطة أو مكان أو ممر أو Tunnel ، أول مايصادفك في اللوحة ذلك البريق الذي يخطف الأنظار في أعلي منتصف اللوحة وكأننا حيال ضوء من عمق اللوحة قادم إلينا مباشرة وفي سطوع ، في النصف السفلي من اللوحة تحتل الفتاة مكان الانتظار إنها أنا ، و أنت ، ونحن تضع يدها أسفل خدها في استسلام لواقع ما يحوطها ، لاتوضح لنا الفنانة ملامح الفتاة ، إنها لاتريد لنا أن نغوص في تفاصيل وجهها ، هل هي جميلة أم عادية أم غير ذلك لتشخصن بطلة اللوحة ، بل أزعم أنها تريد أن تقول لنا إننا حيال كائن بشري واختارت الفتاة لأن الفتاة أو المرأة هي نصف المجتمع الذي يحس ويحس برهافة وحينما يحزن ، فإنه يحزن بحق. الجلسة لهذه الفتاة فيها الانتظار المتوتر والراحة القلقة يعبرعنها اعتماد بطلة اللوحة علي إحدي يديها وكأني بها تقول لنا “إنني أنتظر وماباليد حيلة ، إنه قدري وقدري وحدي ” . إن الجدران المحيطة بها صامتة كأنها نفق أو كأنها ممر ينقلنا إلي قطار في أخر النفق يمر ينهب الأرض ونحس بصراخه ولايتوقف .
نري لوعة انتظار الفتاة ذات القلب الناص البياض كلون فستانها الفاتح حيث نراها نقطة الأمل في هذا المكان ، نقطة الضوء القلق في زمن تتكالب حيطانة زرقاء قاتمة وسوداء الحواف كأنها الممر المفضي إلي العالم الأخر في نهاية حياتنا . إن الفتاة هي الأمل الباقي لنا رغم انصراف القطار أو ابتعاده إنه قطار غال، ذهبي اللون عزيز المنال ونحن في يأس نرتقبه ولانمل من الانتظار ، فهل سيأتي ياتري إلينا ويأخذنا إلي حيث نريد حتي نخرج خارج ذلك النفق القاتم والكئيب؟ .
تتراقص ضربات الفرشاة كأنها قصيدة شعر دبجتها أنامل شاعر عزف بالكلمات قصائدا تمثلتها ريشة الفنانة وأخرجتها في عمل متفرد ، الفتاة بمفردها والوحدة قاسية والانتظار أشد قسوة والقطار لم يحضر بعد ، و المكان موحش ، فهل هناك من سبيل سوي الإنكفاء علي الذات و سماع وشوشات النفس ممثلة في اليد التي تحمل الرأس المتعب وكأني بالفنانة المبدعة تقول لنا لن تجد السلوي إلا في يدك التي تكون أول من يحنو عليك .
إنها رسالة ذات مخزي تمتليء بها اللوحة . ولايزال اللون الفاتح لفستان أو جلباب بطلة اللوحة يجعلنا نصمت ونحن نري أن المدد ممثلا في القطار قادم وأن الضوء سيملأ سماواتنا عما قريب لأنه ساطع هناك أعلي اللوحة وسيملأ المكان حتما. إنها دعوة للصبر وتعزية الذات في عالم طاحن ، إنه عالمنا الذي يمر علي احساساتنا كالقطار ولايرحم لنجد العزاء في أنفسنا أولا وفي تذكر من أحبونا ولايزالون حيث نشاطرهم في وعينا الداخلي ونبثهم مانحس به رغم عدم وجودهم معنا.
المعاني التي تتجلي في هذه اللوحة تعبر المحلي والإقليمي لتتشابك مع الإنساني ، حيث تتوحد مشاعر الجميع أمام عالم ضاغط يطول فيه الانتظار ويخنق المكان الأمل من خارجنا ، فننكب علي أنفسنا نستمد منها الأمل في الغد الذي سيسطع نوره. أعتقد لهذه المعاني ولتفاعل عناصر اللوحة مع بوتقة الألوان ، هو الذي أدي لاختيار هذه اللوحة مؤخرا ضمن المعرض الجماعي بإيطاليا ومسابقة آسيريا بروما بإيطاليا حيث تم اختيار هذه اللوحة ضمن 24 فنانا من بين 95 فنانا متقدمين من 7 دول.
الإجادة في الفن ينطق بها العمل الفني وتعبر عنها موسيقي الفرشاة في ضرباتها علي سطح الكانفس، وتخرج الألوان مكنون العمل الفني في تواز مع الحالة التي يعبر عنها لنجد أنفسنا مع الفنانة المبدعة نعايش عالمها التي تصوره لنا في اقتدار وإبداع ، ألف تحية للمبدعة ” هالة صلاح ” والتي حلقت في سماوات الإبداع والإجادة والتأثير في هذا العمل الفني الرائع.